السبت 12 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

السقوط الأخلاقی العربی الجماعی فی فلسطین

أصاب الزمیل أمجد ناصر کبد الحقیقة حین تناول فی القدس العربی ببلاغته المعهودة یوم الجمعة الماضی الموقف المخزی للمستشارة الألمانیة أنجیلا میرکل حین عبرت أثناء زیارتها الأخیرة لإسرائیل عن الشعور بالخزی والعار لجرائم ألمانیا ضد الیهود دون أن یطرف لها جفن أمام معاناة الفلسطینیین.

وقد کتب أمجد بأن اعتذار میرکل عن جرائم النازیة واجب، ولکن الأوجب منه الاعتراف بمحرقة الفلسطینیین الماثلة، وهی محرقة لا تقل فداحة من الهولوکوست لکون الإبادة فیها لم تتم دفعة واحدة، وبأفران غاز، على طریقة هتلر، ولکن بالتقسیط علی مراحل ودفعات.

ولکن هذه الملاحظة تطرح سؤالاً أعمق: لماذا یتسابق الزعماء للاعتذار لإسرائیل عن جرائم مضت لم یکونوا مسؤولین عنها لأنها کانت عمل أجیال سابقة، ولا یحفلون لجرائم ماثلة أمام أعینهم، تتم بمشارکتهم ودعمهم وتمویلهم؟ جرائم النازیة ـ على فداحتها وبشاعتها ـ تمت خلال فترة قصیرة لم تتجاوز بضع سنوات. وقد انتهت المسألة ولم یعد هناک ضحایا جدد. وخلال تلک السنوات کانت الدول المعنیة تبذل أقصى ما فی وسعها لإسقاط النظام النازی المجرم، ولم تتآمر معه فی جرمه. وبعد سقوط النظام سارع الجمیع بعمل ما فی وسعهم لإنقاذ ومواساة الضحایا وتعویضهم عما لحق بهم. وما تزال الدول والمؤسسات توالی دفع التعویضات حتی الیوم. فقبل حوالی الأسبوع قررت الحکومة البلجیکیة بالاتفاق مع بعض المصارف هناک أن تدفع تعویضات جدیدة قیمتها مائة وعشرة ملایین یورو لضحایا النازیة فیها.

وبالمقابل فإن المحرقة الفلسطینیة ظلت مستمرة لقرابة قرن من الزمان، منذ أن استولى البریطانیون على فلسطین، وما یزال الفلسطینیون یسامون سوء العذاب یومیاً، ولیس فی غزة وحدها، بل فی کل بقاع العالم. ومسؤولیة الغرب عموماً وألمانیا وبریطانیا خصوصاً معلومة ومستمرة. فلم تکتف الدولتان باقتطاع أرض الفلسطینیین وتسلیمها لغیرهم، وتشرید الیهود ودفعهم دفعاً إلی فلسطین، بل ظلوا لعقود یقدمون الدعم غیر المشروط وغیر المحدود لناهب الأرض ضد الضحیة التی تتوالى الضربات علیها کل یوم.

فکیف یعانی البعض من تأنیب ضمیر لمعاناة مضت وأصبحت بالعکس وساماً وباباً للتکسب، بینما لا یشعر بمجرد الأسف لمعاناة الملایین الماثلة أمام عینیه؟ بل لماذا، بالعکس، یعامل الضحایا الفلسطینیون على أنهم هم المذنبون الواجب علیهم التکفیر عن خطیئتهم والتکفیر والتوبة قبل أن یصبحوا أهلاً لمجرد التخاطب معهم وتخفیف العذاب عنهم شیئاً ما؟ لماذا یرفض الفرنسیون حتى الیوم مجرد الاعتذار عن استعباد الجزائریین لأکثر من مئة وثلاثین عاماً، وقتل الملایین منهم وتعذیب الآلاف، ناهیک عن التعویض؟

هناک إجابة جزئیة على هذا السؤال، وهی أن ما نری ونسمع لیس صحوة ضمیر، أو إظهار لحس أخلاقی حقیقی، وإنما هو بالعکس، تزلف للأقویاء والبحث عن الکسب السیاسی على مستوى الرأی العام والإعلام والنخبة. فالقضیة إذن هی الظهور بمظهر صاحب الموقف الأخلاقی، وتحقیق القبول والحظوة فی المکان المناسب.

وهذا یطرح سؤالاً آخر: لماذا لا یرى أحد أن الفلسطینیین والعرب أهل للاحتفال بشأنهم، والنظر لمعاناتهم وشکواهم؟ والجواب الأولى هو أن العرب لا وزن لهم ولا قیمة عند القوم. فمن یتقرب إلى العرب یخسر کثیراً ولا یربح شیئاً، أما الإساءة إلیهم فلا تضر على الإطلاق. وهکذا رأینا نائب الرئیس الأمریکی دیک تشینی الذی تبع میرکل إلى القدس نهایة الأسبوع طاف بعواصم العرب لیقدم لهم المطالب ویصرف الأوامر، بینما ذهب إلى القدس یقدم الدعم وفروض الولاء والطاعة. ولنفس الغرض نرى مرشحی الرئاسة الأمریکیة یتسابقون على خطب ود إسرائیل ولا یکاد واحد منهم یذکر العرب بخیر.

ولکن الأمر لا یتعلق فقط باختلال موازین القوى، وإن کان هذا الاختلال فی جانب کبیر منه من فعل العرب أنفسهم. فما کان یمکن أن یکون مصادر قوة العرب من ثروات وموارد أصبح أکبر أسباب ضعفهم. فأصحاب الثروة یبذلونها أتاوات حتى یکونوا عبیداً لغیرهم، فأعجب ممن یشتری العبودیة بما کرمه الله به من نعم. ولکن لیست هذه هی المسألة أیضاً وإن کانت جزءاً من الإشکالیة وانعکاساً لها. فمن بیدهم الثروة والأمر لا یعبأون بدورهم بشعوبهم ولا یرونها أهلاً لکسب رضاها أو إشراکها فی الأمر والثروة، بل بالعکس یرون أن من الأیسر والأنفع ممارسة القمع تجاه الشعوب وبذل الثروة لمن یعتقدون أنه القادر على إبقائهم على عروشهم أو إسقاطهم عنها.

وهذا یقودنا إلی جوهر القضیة، وهی احتقار العرب لأنفسهم ولبعضهم البعض، وهو ما یجلب لهم احتقار الغیر. هذا الاحتقار للذات یتجلى فی الاستهانة بکرامة الإنسان العربی وحقوقه من قبل الأنظمة والمؤسسات. ولکن أکبر تجلیاته یظل فی طریقة التعامل العربی مع القضیة الفلسطینیة وضحایاها. فمعظم الأنظمة العربیة ما تزال حتى الآن حتى تعامل الفلسطینیین بقسوة العزاء الوحید فیها أنها تجمعهم مع بقیة ضحایا هذه الأنظمة. وإذا کانت أبشع معاملة هی تلک التی یلاقیها اللاجئون الفلسطینیون فی لبنان، ولکن بقیة الأنظمة لیست متأخرة کثیراً فی المنافسة، کما فی مصر حیث یتعرض الفلسطینیون لأسوأ صنوف التعذیب السادی کلما أجبرهم الحظ العاثر على عبور الأراضی المصریة. وقس على ذلک.

أما الأسوأ فی هذا الأمر فهو أن من یقومون بهذا التعذیب یرون فیه قمة الوطنیة ومنتهى الدعم للقضیة الفلسطینیة. فبحسب هؤلا القوم فإن حرمان الفلسطینیین من کل حق إنسانی هو ضمانة ضد التوطین وإبقاء على القضیة حیة! ویندرج فی باب هذا السقوط الأخلاقی ما نشهده من احتماء الأمة بکاملها وراء اللاجئین والمشردین والأسرى، بینما الجمیع یتفرج. ویستوی فی هذا من یصفق للمقاومة وهو قاعد، ومن لا یکتفی بذلک بل یهاجم إن لم یعبر عن الکراهیة والحقد. فأی أمة هذه التی یقاوم عنها لاجئوها وفقراؤها بینما یدفع أغنیاؤها الأتاوات للعدو وتقصف جیوشها المشردین، ویهدد زعماؤها بتکسیر أرجل الهاربین من سجن الجوع والموت؟

ولیست القیادات الفلسطینیة ببراء من الإثم فی هذا المجال، بدءاً من قبولهم للعبة دور منظمة التحریر المفترض فیها بحسب الأنظمة أن تتولى کل العبء فی تحریر فلسطین بینما هی مطاردة من کل بلد عربی، ومروراً بقبول البعض بدور ادنی من ذلک، وهو أن یکون أداة فی أیدی الأنظمة الجبانة الفاسدة التی تحرض الفلسطینیین لقتال بعضهم البعض أو ترسلهم للقتال ثم تطعنهم من الخلف، وانتهاءً بالفشل الذریع فی تأکید البعد الأخلاقی للقضیة الفلسطینیة. ویأتی هذا الفشل کما ذکرنا من الدخول فی لعبة الأنظمة، ومن غیاب النظرة الاستراتیجیة الواعیة وعبر کل ذلک من تولی لوردات الحرب زمام المبادرة والقیادة عوضاً عن أهل الفکر والبصیرة. وقد أدت مناورات هذه القیادات ومساوماتها وممارساتها الخاطئة (ومنها صفقة أوسلو) إلى إفراغ أعدل قضیة فی التاریخ من محتواها الأخلاقی، وتحویل الفلسطینیین من موقف الهجوم إلى موقف الدفاع أمام أکبر عملیة نهب إجرامی فی التاریخ.

کانت هناک بالطبع استثناءات، من أبرزها الدور المتقدم الذی لعبه الراحل إدوارد سعید، والذی اشتکى ـ ویاللمفارقة! ـ مرة بأن کتبه کانت ممنوعة فی الأراضی المحتلة لأنه کان ینتقد أوسلو وعرابیها. ولکن معظم القیادات العربیة الأخرى ارتکبت أخطاء سیاسیة وأخلاقیة أضعفت موقفها الأخلاقی، وبدلاً من أن تقبل مسؤولیتها وتتنحی لقیادات نظیفة تکون أقدر على خدمة القضیة، فاقمت أخطاءها بخطایا تمثلت فی التنازل عن کل شیء حتى تنال قبول العدو. فقد سمحت هذه القیادات لنفسها بأن توصم بوصمة الإرهاب، ثم باعت کل شیء حتى یبرئها العدو من هذه الوصمة. ولو کانت الأمور فی مسارها الصحیح لوجب علی هؤلاء الأعداء أن یعتذروا إلی یوم القیامة للفلسطینیین. ولکن هذه القیادات لم تفشل فقط فی الحصول على اعتذار، بل هی فشلت فی إیقاف الجریمة المستمرة ضد الشعب الفلسطینی. وهذه القیادات أشبه بمن استودع کنزاً ثمیناً لم یکتف بتبدیده، بل حمل أصحابه دیوناً ثقیلة بسبب سوء إدارته لما اؤتمن علیه.

إذن لیست أنجیلا میرکل وحدها هی التی یجب أن تشعر بالخزی، بل کل عربی یجب أن یشعر بالخزی والعار. وعلى القیادات السیاسیة المسؤولة عن هذه الجنایة على الأمة فی فلسطین وغیرها أن تتنحی وتنزوی فی رکن بعید لتواری عارها، ولولا أن الله تعالى حرم الانتحار لنصحناهم به، فإنه الأنسب لما ارتکبوه من إجرام. فالعرب، کل العرب، من قیادات سیاسیة أو فکریة أو أخلاقیة کلهم مشارکون فی هذا التقصیر. إن القضیة الفلسطینیة لا تحتاج لمحامین، لأنها أعدل قضیة فی التاریخ الحدیث، ولکن أصحابها حولوها لأخسر قضیة فی التاریخ.

فهل لو کانت هناک عقول وقامات من طراز ماندیلا بین القیادات الفلسطینیة کان من الممکن أن یجلس هؤلاء الزعماء بین یدی مجرم الحرب دیک تشینی لیحاضرهم عن الأخلاق والواجب، ویهددهم بأن آمالهم فی الدولة قصفت بصواریخ القسام أو غیرها؟ ألم یکن فی القوم رجل یقوم ویقول لهذا الضیف غیر الکریم: ومن أنت حتى تحاضرنا عن فضیلة حفظ النفس البریئة وأنت ودولتک تقدمان منذ عقود الأسلحة التی نقصف بها والقیود التی تکبل أیدینا والمال الذی تبنی به المستعمرات على أرضنا؟ وهل حق الفلسطینیین وکل إنسان آخر فی الحیاة الحرة الکریمة منة من أحد حتی یکون مشروطاً بحسن السیر والسلوک تحت الذل والعبودیة؟ ومن أنت ومن سادتک الإسرائیلیون حتى تحاضروا الفلسطینیین عن الحقوق والواجبات وأنتم المعتدون؟ من أنتم حتى تحاضروا الفلسطینیین عن المعاناة وقتل الأبریاء ونحن منذ ستین عاماً نعانی الأسر والتشرد بأیدیکم بحیث أنکم لو قبلتم أحذیة الفلسطینیین مئة عام ما کفرتم عن معشار ما ارتکبتوه فی حقهم من ذنوب؟

ولکن للأسف لم یکن فی القوم رجل یستطیع أن یقول ذلک. لقد تحول الفلسطینیون والعرب إلى أمة منزوعة السلاح الأخلاقی لأن من تصدوا للقیادة فیها لیسوا على المستوى، ولیسوا من عیار ماندیلا او حتى طراز دیغول حتی یقولوا للعدو الغاصب لن نساوم ولن نقبل التنازل عن مثقال ذرة عن حقوقنا، ولن نمنحکم المشروعیة التی تستجدونها بالاعتراف بأحقیتکم فی النهب والإجرام. وهذه لیست مسؤولیة القیادات، بل هی أیضاً مسؤولیة الشعوب التی تسلم قیادها لقیادات من هذه القامات. ومن یهن یسهل الهوان علیه.

( للکاتب والباحث السودانی  الدکتورعبدالوهاب الأفندی  )

ن/25

 


| رمز الموضوع: 139462







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. أسير إسرائيلي: إذا أردتم أن تعرفوا عدد الأسرى إسألوا سارة نتنياهو
  2. إصابة 9 جنود إسرائيليين بينهم نائب قائد فرقة وقائد كتيبة في الشجاعية بغزة
  3. في إطار جمعات الغضب.. مدن إيرانية تنظم وقفات تضامنية مع غزة
  4. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  5. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  6. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  7. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  8. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  9. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  10. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  11. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  12. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)