الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

مفاوضات الواحد بالمائة

 مفاوضات الواحد بالمائة

سمیر حمدی

 

عندما صرح رئیس السلطة الفلسطینیة المنتهیة ولایته یوما بانه ذاهب إلى المفاوضات حتى وان کانت نسبة النجاح فیها واحدا بالمائة، فان الأمر قد أثار قلقا لدى کل المهتمین بالشأن الفلسطینی ودفع إلى طرح تساؤلات مقضة حول نمط التفکیر الذی یحکم الوفد الفلسطینی المفاوض والى أین یأخذ القضیة وما طبیعة 'الحلول' التی ینشدها، وبتعبیر آخر ما هی ملامح الصفقة التی یسعى إلى عقدها مع الطرف الصهیونی برعایة أمریکیة؟

فی لحظة ما اعتقد البعض أن السلطة الفلسطینیة تخضع لضغوط حادة للعودة إلى المفاوضات المباشرة، وأنها لم تتنازل عن ثوابتها بقدر ما هی تنحنی أمام ظرف غیر مناسب فی انتظار تحقق الشروط الموضوعیة المناسبة لإدراک غایاتها المشروعة التی هی غایات شعبها فی ذات الحین، غیر أن الذی جرى ویجری یدل على أن التصریحات الناریة وحالة التمنع الخجول التی أبداها المفاوض الفلسطینی لا تتجاوز مجرد المناورة التکتیکیة للتعمیة على حقیقة مرکزیة، وهی أن التفاوض لیس مجرد أداة یتم تطویعها لتحقیق أهداف محددة لا أکثر، وإنما یتعلق بخیار استراتیجی وحید لا رجعة عنه.. انه التفاوض دائما وأبدا، بحیث یحار المراقب السیاسی المحاید فی أسباب هذه العلاقة الایروسیة ـ إن جاز التعبیرـ بین أبو مازن وجـــــماعته والمفاوضات إلى الحد الذی أصبحت معه غایة فی ذاتهـــــا تُطلب لمتعة کامنة فیها لا یعلمها إلا أصحابها، فلیس مــــهما ألا تکون ثمة مرجعیة واضحة ولا ضمانات حاسمة أو أوراق ضغط لخوض مفاوضات مصیریة، بقدر ما یتعلق الأمر بمتعة الجلوس مع العدو على مائدة واحدة وتبادل الأنخاب والکؤوس. فما الذی ینتظره الشعب الفلسطینی من قیادة تخلت عن کل الثوابت وطرحت جانبا عذابات العقود السبعة فی ظل الاحتلال، لتهتم فقط بإرضاء الوسیط الأمریکی وإشباع رغبة لامتناهیة فی الوصل مع الطرف الصهیونی.

إن محمود عباس یدرک قبل غیره أن کل تنازل یقدمه لن یمنحه شیئا من العدو بل سیـــــفقده احترام الخصوم قبل احترام شعبه، إلا انه یصر مع کل هذا على الذهاب إلى المفاوضات عاریا من کل أوراق القوة الضروریة لخوض الصراع على مائدة التفاوض، بل هو یمعن فی جعل المشهد الفلسطینی أکثر دراماتیکیة بارتجاله للقرارات فی ظل غیاب تفویض حقیقی من الشعب، وهو أمر یعود ـ ربما ـ إلى أن الخلفیة التی ینطلق منها أبو مازن لا تستند إلى الإیمان بالمقاومة على نحو ما نجده لدى رجالات بحجم أبو عمار، وإنما کان یسخر دائما من الکفاح المسلح ویصفه بالعبثیة وهو لم یُعرف إلا بوصفه عراب اتفاقیات أوسلو التی مثلت هی بذاتها مشکلة لا تزال الساحة الفلسطینیة تعانی تبعاتها إلى الیوم.

فمنذ تولیه رئاسة السلطة الفلسطینیة لم یکشف أبو مازن عن أی قدرات قیادیة أو أی کاریزما تؤهله لتوحید شعب یخوض حربا ضد احد أسوا أشکال الاحتلال التی عرفها التاریخ، فقد کان زعیما فصائلیا بامتیاز، بل وناطقا باسم جناح معین داخل هذا الفصیل على النقیض تماما من الرئیس الراحل یاسر عرفات الذی کان قائدا لکل الشعب الفلسطینی بمختلف أطیافه.

ویتجلى الفشل فی القیادة لدى أبو مازن أکثر ما یتجلى فی عجزه عن إنهاء الانقسام الفلسطینی الحاد ولعب دور الزعیم الموحد، وإنما کان یسعى دوما إلى تکریس الفرقة والخلاف، سواء من خلال تصریحاته أو قراراته، والغریب انه فی مقابل سعیه الدائم إلى التفاوض والحوار مع الصهاینة (سواء بصورة مباشرة أو غیر مباشرة) فانه یرفض دائما أی تواصل مع حرکة حماس ویضع شروطا تعجیزیة لکل مصالحة معها، وفوق هذا هو یتعامل باستخفاف حتى مع الفصائل المنضویة تحت لواء منظمة التحریر التی تمثل دوما مساندا له فی الکثیر من سیاساته (لاحظ ما تعرضت له مجموعات الیسار من قمع ومنع فی رام الله عندما حاولت تنظیم مؤتمر تبدی فیه امتعاضها من قرار المشارکة فی المفاوضات المباشرة). الآن وقد انتهى مبرر تجمید الاستیطان الذی استند إلیه أبو مازن وفریقه فی العودة إلى المفاوضات تجد سلطة رام الله نفسها أمام مأزق عدم تساوق الطرف الصهیونی معها وهی التی هددت طویلا بوقف التفاوض إذا تم استئناف الاستیطان، وهنا یأتی دور الأنظمة الرسمیة العربیة لتلعب دورها فی خلق التبریرات المناسبة لتتواصل مسرحیة التفاوض فی مسارها العبثی ومن سار إلى غیر غایة توشک أن تنقطع به مطیته.

إن الأمر هنا لا یتعلق بمجرد مواقف فردیة یتخذها أبو مازن ولا تلزم غیره وإنما المشکلة تکمن فی أن هذه المواقف تحولت إلى خیارات إستراتیجیة للنظام الرسمی العربی، ویسعى فریق التفاوض إلى إلزام مجمل الشعب الفلسطینی بها وهو ما قد یؤدی إلى التفریط فی الثوابت الوطنیة الفلسطینیة فی صورة التوقیع على اتفاقیات تتعلق بالأمن والحدود واللاجئین، من دون العودة إلى مرجعیة علیا ذات تمثیلیة لغالبیة الشعب الفلسطینی فی الداخل وفی الشتات. وهذا ما یدعو کل قوى المقاومة وکل الأطراف الحریصة على مصالح الشعب الفلسطینی أن ترتقی إلى مستوى التحدی التاریخی المطروح علیها الآن وهو منع هذا الفریق المفاوض من التلاعب بنضالات الشعب الفلسطینی وحفظ الدماء التی بذلها طیلة عقود، فاللحظة الحالیة قد تکون حاسمة بحیث أن أی تراخ فی اتخاذ مواقف حاسمة تجاه المؤامرة الحاصلة الآن فی أفق تصفیة القضیة الفلسطینیة بتواطؤ دولی وعربی رسمی قد یفضی إلى نکبة جدیدة اشد وانکى من التی سبقت لأن تضییع الحقوق والتنازل عن الثوابت بإقرار طرف فلسطینی اخطر من اغتصاب الأرض ذاتها، وربما هذا ما یفسر الإصرار الصهیونی على ضرورة الاعتراف بیهودیة دولة الکیان قبل کل شیء.

وأخیرا یمکن القول من دون مبالغة إن حاجة الطرف الصهیونی إلى التفاوض اشد من حاجة الفلسطینیین إلیه، وان زعم أبو مازن بأن خوض المفاوضات ممارسة سیاسیة لا خسارة فیها هو موقف لا یدل على حصافة وتبصر أو قدرة على إدراک عمق الأزمة التی یعانیها المجتمع الصهیونی الیوم، فالهزائم الأخیرة التی لحقته على ید المقاومة فی لبنان ثم فی غزة ولَدت إحساسا عمیقا لدى الصهاینة بما یسمى 'عقم الانتصار' لان الحروب المستمرة التی کان من المفروض فی کل واحدة منها أن تنهی کل الحروب لم تأت لا بالسلام ولا بالنصر. وقد تبین للصهاینة أنهم وصلوا إلى الحد الأقصى فی استخدام القوة والعنف من دون جدوى ولم یتمکنوا من انتزاع الاعتراف من الشعب الفلسطینی وکسر إرادة الرفض لدیه وإنما ظلوا دائما کیانا منبوذا وغریبا عن الأرض العربیة، فهل یدرک محمود عباس وجماعته أی خدمة جلیلة یقدمونها للأعداء؟ فإن کانوا لا یعلمون فتلک مصیبة وان کانوا یعلمون فالمصیبة أعظم.

ن/25

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 139886







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)