الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

عدالة سارکوزیة وأخلاقیة برلسکونیة!

عدالة سارکوزیة وأخلاقیة برلسکونیة!

 

عبد اللطیف مهنا

 

کان دائماً للعنصریة الأوروبیة التلیدة نسختها الفرنسیة التی لا تعدم نکهتها الخاصة. هی لیست کسواها التی تعددت بتعدد العناوین الأوروبیة الأخرى وتعدد مظاهرها ودرجاتها. ظلت مواریث الثورة الفرنسیة، أو مبادئ الجمهوریة، تحد من صورتها وتخفف من غلوائها وأحیاناً تتستر على سوءاتها. لکنما السارکوزیة تعطیها الیوم حقنة تنعشها وتستدرجها من کمونها وتستلها من غفوتها. على العموم هی حالة من التململ العنصری الذی بدأ یسری هذه الأیام بتفاوت فی سائر الجسد الأوروبی، هذا المکتنز عبر تاریخه تراکماته الثقیلة المزمنة من عدائه الدائم للآخر. الإسلاموفوبیا الآن وفی هذه المرحلة تختزل هذا العداء وتحفزه وتطلقه من عقاله.

فی مقال سابق، قلنا إن هذه القارة انفردت وحدها فی عالمنا بإنتاجها لأعتى وأبشع الفلسفات العنصریة والفاشیة، مثل النازیة والصهیونیة. والیوم ونحن نتحدث عن فرنسا، لا یفوتنا أن نتذکر أن النازیة فی أصولها کانت فرنسیة المنشأ، بید أن الألمان، وهم الذین نشأت فی دیارهم أعظم الفلسفات، لا یطبقون عادةً إلا أسوأ ما لدى الآخرین!

نحن هنا، لسنا بصدد الحدیث عن أعراض الإسلاموفوبیا الفرنسیة، أو الأوروبیة إجمالاً، والمستظلة هذه الآونة بخرافة "الإرهاب الإسلامی". أو، ونحن نتحدث عن فرنسا بالذات، لسنا فی وارد التعرض لحکایة الحجاب أو النقاب، أو الاندماج، ومشکلات سکان الضواحی الذین جوهر النظرة السارکوزیة المعروفة إلیهم لا تتعدى کونهم نفایات بشریة لا أکثر. وإنما سنعرض لمأثرة فرنسیة جدیدة، کادت أزمة تمدید فترة سن التقاعد المستشریة راهناً بین سارکوزی والنقابات تغطی علیها، بل هی طغت، وإن إلى حین، إعلامیاً علیها ودفعتها بعیداً، بحیث لم تعد الآن تتصدر قائمة الأحداث الفرنسیة کما بدت قبل أیام لیست بالکثیرة. إنها حکایة تحوّل وزیرة العدل الفرنسیة میشیل لیو ماری إلى مدعٍ عام. المدعى علیه هو السیناتور، عضو مجلس الشیوخ الفرنسی، علیمة بومدین وثمانون من رفاقها. والتی سوف تقدم إلى المحاکمة بتهمة شنها لحملةٍ تدعو لمقاطعة منتجات "المستوطنات" فی الضفة الفلسطینیة المحتلة.

تقول وزیرة العدل: "لن أقبل أبداً أن یدعو أشخاص أو جمعیات أو مسؤولون سیاسیون إلى مقاطعة أی بضائع فی فرنسا بحجة احترامها للتعالیم الیهودیة، أو مجیئها من إسرائیل. وأتمنى أن تظهر النیابة المزید من الحزم تجاههم"!.

الوزیرة الفرنسیة، أولاً، تعتبر منتجات "المستوطنات" أو المستعمرات الإسرائیلیة فی الضفة المحتلة تتمتع بالحصانة، أو تعدها تابو لا یجوز مقاطعتها ولا ترى سبباً لمقاطعة من یقاطعها إلا لاحترامها للتعالیم الیهودیة!

وثانیاً، ضمت الضفة سلفاً للمحتل من فلسطین عام 1948، أو "إسرائیل"، حتى قبل أن یعلن نتنیاهو ذلک رسمیاً، ذلک عندما تقول: "مجیئها من إسرائیل".

وثالثاً، تقع فی تناقض مع ما کان منها قبل عام فقط عندما قالت بخصوص ذات المسألة أمام الجمعیة الوطنیة الفرنسیة بأنه لا یوجد ما یوجب الملاحقة القضائیة. لکنها الآن وقد وقفت أمام المجلس التمثیلی للجمعیات الیهودیة غیرت موقفها ذاک... ثم إنها لفرط حماستها نسیت وهی ترفض مقاطعة بضائع الاحتلال، أن فرنسا هی رأس الحملة الأوروبیة الداعمة للسیاسة الأمریکیة- الإسرائیلیة لفرض مسلسل العقوبات وضروب المقاطعة على إیران لأنها تصر على مواصلة برنامجها النووی السلمی...

ما هی تهمة السیناتور علیمة بومدین ورفاقها؟! إنها تهمة "التمییز العنصری والقومی والدینی" مرة واحدة... وهنا، ورغم أن تقریر الشرطة قد دفع بعدم وجود دوافع "لا سامیة" أو عنصریة فی حملة السیدة علیمة، فإن العنصریة الفرنسیة تشهر بید وزیرة العدل سیفها فی وجه مناصری الحقوق الفلسطینیة المغتصبة، ولصالح المحتلین المستعمرین الموصومین فی التقاریر الدولیة بارتکاب الجرائم ضد الإنسانیة، والممارسین أمام أنظار العالم وسمعه أبشع ضروب التمییز العنصری والقومی والدینی وقوننته ضد الفلسطینیین، وذلک بزعم التصدی لـ"التمییز العنصری والقومی والدینی"!!!

هنا، ما همّ، حتى ولو کانت علیمة بومدین لیست وحدها، حیث وقع على عریضة تؤیدها عدید المفکرین والفلاسفة والإعلامیین والشخصیات الفرنسیة، من بینهم ستیفان هیسیل، المقاوم البارز للاحتلال النازی، ومحرر إعلان حقوق الإنسان العالمی، والسفیر السابق، وأیضاً الیهودی. فکل ما یهم هو عدم المس بالعصمة الإسرائیلیة، بالتجرؤ على المس بإسرائیلهم.

وعلیه، فالمطلوب هو إسکات وإخافة هذه الأصوات المنتقدة وإرهابها، وجعلها عبرة لسواها، لا سیما وأن حملة علیمة بومدین، حتى الآن، یقال إنها قد نجحت فی تراجع الصادرات الإسرائیلیة بنسبة 10 بالمئة. لکنما یظل الأهم بالنسبة لهم هو ما یستشعرونه من الرعب من ما تعنیه بدایات هذا التحول الشعبی الأوروبی المتبرم من تلید الابتزاز الصهیونی، والذی رغم بطئه یظل لصالح مزید من التفهم، ولا نقول التأیید تماماً، للحقوق الفلسطینیة المهدورة والمستباحة. ولإدراکهم مکرهین أن حملة علیمة بومدین والضجة التی رافقتها أو أثاروها هم ضدها، ومهما کانت نتائجها، سوف یکون حصادها شاؤوا أم أبوا فی غیر صالح إسرائیلهم.

السارکوزیة لم تخترع العنصریة الفرنسیة، ولا انحیاز أوروبا الدائم لإسرائیل، هذه القارة التی بطشت بیهودها، أو کرهتهم بین ظهرانیها فصدرتهم لنا، وبالغت فی تعویضهم لکن على حسابنا...

برلسکونی، مثلاً، وجه رسالة لمظاهرة تأیید لإسرائیل سارت فی شوارع روما، یقول فیها: "أشعر بأننی إسرائیلی"، ویؤکد للمتظاهرین، بأن: "أمن إسرائیل داخل حدودها، وحقها فی الوجود کدولة یهودیة، هما بالنسبة لنا نحن الإیطالیین خیار أخلاقی وواجب معنوی"!

لکن السارکوزیة دأبت منذ برز صاحبها فی السیاسة الفرنسیة على حقن العنصریة الفرنسیة بأمصالها، وکان هذا منذ أن کان ابن المهاجر المجری وزیراً للداخلیة، وتلک الأیام المعروفة بانتفاضة الضواحی الباریسیة، وهی لا تنفک توقظ هذه العنصریة من غفوتها لحشد الیمین الفرنسی وکسب تأیید صهاینة فرنسا فی معارکها السلطویة. وصاحبها هذه الأیام فی أمس الحاجة لمثل هذا وهو یخوض معرکة کسر العظم مع النقابات تحت عنوان تمدید سن التقاعد لسنتین إضافیتین...

لقد مل الفرنسیون سارکوزیهم، ولم تعد حرکاته الاستعراضیة، وتتالی فضائحه تسلیهم، بل غدت صراعاته الإعلامیة، وإخفاقات مبادراته الدولیة، التی تظل الأقرب إلى نوع من المراهقة السیاسیة وانکفاءاته السریعة عنها، عبئاً على فترة رئاسته الأولى المقتربة من النهایة، وقد تکون فی الأغلب حائلاً دون تجدیدها. کان بوشیاً، ثم أوبامیاً، ثم متوسطیاً، ونتنیاهویاً. ولطالما حاول أدواراً أخطأته أو عزّت علیه فی أفغانستان وباکستان والسودان والشرق الأوسط، وعاد منها جمیعاً بخفی حنین. ولا یبدو الآن أن إجادته المشهود لها لفن الإثارة فی سبیل البقاء سوف تجدیه طویلاً وقد نزل الفرنسیون إلى الشوارع...

فیما یتعلق بقضایانا تحدیداً، وبالنسبة للسارکوزیة، والبرلسکونیة، وشقیقاتها الأوروبیات الأخریات، لیس هناک من خیار، لا أخلاقی ولا معنوی ولا إنسانی، إلا على طریقة میشیل لوی ماری، أو هو إن وجد فهو فی هذه الحالة الخیار المعکوس وفق المنطق البرلسکونی!.

ن/25

 


| رمز الموضوع: 139905







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)