المحرقة الفلسطینیة مقدمة لمحرقة عربیة کبری
عار المحرقة التی جرت لأهل غزة هو عارنا جمیعا، لا یستطیع أحد أن یتنصل من مسؤولیته عن مثل تلک الجریمة النازیة البشعة، وثبت أن الشرکاء العرب لا یقلون نازیة عن نظرائهم الصهاینة، ولو لم یکونوا کذلک ما سمحوا للمحرقة أن تتم أصلا، مهما اختلفوا مع حماس أو غیر حماس.
ولا یجب أن یشعر أی منا بالارتیاح لمجرد أنه أشار بأصبعه إلى الأطراف المباشرة. والمسؤولیة المباشرة وهی تقع على أصحاب القرار الصهیونی وآلتهم العسکریة، فهذا لا یعفی المشارکین والمتواطئین من حکامنا ومسؤولینا، ولا یمکن القبول بأی تبریر من نظامنا الرسمی الذی وضع نفسه فی خدمة الغزاة والمحتلین والمستوطنین. وأکثر من هذا لا یجب أن یعفی أحدنا نفسه من تحمل نصیبه من المسؤولیة، فالمحرقة أثبتت أننا، کشعب ومواطنین، فی نظر مسؤولینا بلا وزن ولا لون ولا طعم ولا رائحة.
کان عذرنا فی السابق الجهل والفقر والضعف والتخلف، أما الآن فجهلنا أقل، وثروات حکامنا ومن یدور فی فلکهم اجتازت حاجز الصوت فی الغنی والترف، وجیوشنا وشرطتنا أقوى منها فی أی زمان مکان، وترساناتنا العسکریة تراکمت فیها ذخائر وأسلحة ومعدات صدأت من قدم التخزین وعدم الاستعمال، والرأی العام تعرف علیها وعلی کمیاتها وما صرف علیها من أجهزة الإعلام والصحافة، وعن طریق ما أثیر فی قاعات المحاکم الأمریکیة والبریطانیة عن العمولات التی دفعت فیها. أما ضعفنا ما کان لیکون بهذا المستوى دون جهد حکامنا وأولی الأمر فینا، الذین بنوا جبروتهم علی حساب قوة المواطن والوطن، وتخلفنا صنعته سیاسات طاردة للعلماء والکفاءات والخبراء والشباب والمنتجین، اختزلت الوطن فی حجم حاکمه، شخص أو عائلة أو قبیلة، وبقی المواطن بائسا ذلیلا عاجزا مستعبدا، وقواتنا المسلحة الضخمة أصبحت جزءا من المجهود العسکری الصهیونی، وتحت إمرة أباطرة الحروب. یوجهونها حیث یریدون، ویطلبون منها أن توجه مدافعها إلى صدورنا ومدننا ومصانعنا ومتاجرنا وإداراتنا، ومسؤولونا یعملون لدى هؤلاء راضین، غیر معترضین ولا متبرمین، وکثیرا ما یهرولون ویعلنون الحرب الإعلامیة والاقتصادیة والسیاسیة النفسیة لحساب هؤلاء الأباطرة!
لم تبق المشکلة محصورة فی آحاد الحکام والمسؤولین، إنما فی اتساعها لتحتوی النظام العربی الرسمی فی مجمله، ومنذ أن انتصر الاعتدال ، وهو ما کان یعرف بالرجعیة فیما مضى ، تمادت السیاسة العربیة فی ممارسة الأفعال المحرّمة والمجرّمة، وأضحت جیوش الاعتدال العربی، وأسلحته وأمواله وأراضیه ملکا أمریکیا صهیونیا خالصا. قواعد وتسهیلات، وممرات أرضیة وجویة ومائیة، ومناورات وجهود عملیاتیة (لوجستیة). وأی قوة غازیة أو محتلة یتاح لها مثل هذا العمق تستطیع أن تبید أمة بحجم الأمة العربیة. فالمجهود العسکری والمالی والاقتصادی الذی بدأ و واکب واستمر قبل ومع وبعد غزو العراق کان عربیا، والتهیئة والإعداد لتصفیة المقاومة اللبنانیة کانت عربیة، ولهیب المحرقة النازیة لغزة کان ینطق بالعربیة والعبریة.
والنظام العربی الرسمی منذ أن دخل عملیة التطبیع انتهی أمره، وتحول إلى مصدر خطر بالغ على الوجود العربی ذاته، وکفاءته المضادة ظهرت حین نفض عن کاهله غبار الکسل، وعبأ طاقاته من أجل تعمیم وتعریب التطبیع ، سواء مع الاستیطان الصهیونی أو مع سلطة الاحتلال فی العراق. وأسألوا عمرو موسى ، وسوف یجیب، ولن ینکر أنه فتح أبواب جامعته مرحبة بحکومة الاحتلال، لیشغل مندوبها مقعد العراق، أحد البلدان العربیة السبعة المؤسسة لجامعة الدول العربیة. ودوره فی لبنان یحمل شبهة فرض الحل الصهیو أمریکی علیه، وهو لم یقترف ولو مرة واحدة فضیلة رفض التهاف على موائد التفاوض الصهیونیة الفلسطینیة، وهو ما انتهى إلى مصلحة الدولة الصهیونیة. وبدلا من الاستقالة تکفیرا عن دور النظام الرسمی العربی فی المحرقة، دعا وزراء الخارجیة العرب فبارکوها، وکافأوا الحکومة الصهیونیة بإحیاء المبادرة العربیة ، وهی فی الأصل مبادرة سعودیة، خرجت من مؤتمر قمة بیروت 2002، کجسر لتعریب التطبیع . ثم اسألوه واسألوا معه حسنی مبارک وأحمد أبو الغیط وسعود الفیصل عن حالة الاستئساد التی تلبستهم ضد سوریة وحزب الله وحماس. وعن تعطیلهم للوفاق الوطنی اللبنانی، وتبنیهم مخططات تصفیة المقاومة العراقیة واللبنانیة والفلسطینیة. وتضافرهم هو الذی جعل الحصار على الفلسطینیین عربیا، وفرض الجوع والمرض والموت علیهم، وحتى حین فتح معبر رفح أثناء المحرقة أغلقت المستشفیات والطرق والمحلات فی وجه الفلسطینیین، ومن لم یستشهد بنار المحرقة مات وهو ینتظر العون من أناس تحجرت قلوبهم وتبلدت مشاعرهم وتمکنت نار الحقد منهم.
وعارنا صنعه تدنی وعینا بخطر السیاسة الرسمیة العربیة، وأکده عجزنا عن تعریتها ومواجهتها، وهذا التناقض بین الوعی والفعل خدع کثیرین بإمکانیة الرهان على حلول یأتی بها العدو وأنصاره، وهو ما وضع الشعب العربی والعالم الإسلامی فی وضع الأیتام علی موائد اللئام، وجاء ذلک مقترنا بعدم إحساس الحاکم أو المسؤول المعنی بوجودنا، فاستهان بکل شیء، وتجاهل أرواح الأبریاء والأطفال والنساء والشیوخ، وحتی استشهاد الطفلة المصریة سماح التی سقطت برصاص أحد النازیین الصهاینة وهی تلعب، لم یحرک استشهادها شعرة فی رأس أی من أولی الأمر. وحکم لا یوفر الأمان لیعیش أطفاله طفولتهم، مثل باقی الأطفال فی العالم لا یستحق الحیاة. ومحو العار یبدأ بالإحساس بالحاجة إلی إعادة ترتیب أولویاتنا، فرادی وجماعات، ووضع خطر العدو الداخلی علی نفس مستوی خطر العدو الخارجی، وملاحقة عدو الداخل، کی لا یسرح ویمرح ویوسع من رقعة المحارق المشتعلة فی العراق وفلسطین.
وسیاستنا الداخلیة فی مصر تقوم بما تقوم به عن سبق إصرار وتعمد، ووصل بها الأمر أن بدأت ضخ الغاز إلى شرایین الاقتصاد الصهیونی، فی وقت متزامن مع المحرقة، فی شکل رسالة تحد واضحة تخرج لسانها للجمیع. والغاز المصری تحصل علیه الدولة الصهیونیة بأرخص سعر، وبأقل من تکلفة استخراجه، ویباع للمصریین بسعره السوقی والعالمی، ونستشهد هنا بما کتبه رئیس تحریر صحیفة المصری الیوم مجدی الجلاد ، عدد الاثنین الماضی، عن العقد الذی أبرمته الحکومة المصریة مع الحکومة الصهیونیة : مدته 20 عاما کاملة بسعر 1,5 دولار للملیون وحدة حراریة، بینما تکلفة الانتاج فی مصر 2,65 دولار للملیون وحدة حراریة، وهو السعر الذی حددته الحکومة لبیع الغاز للمصانع المصریة کثیفة الاستخدام للطاقة، خلال السنوات الثلاث المقبلة، أی أن الحکومة، کما یقول الجلاد، حرمت المصانع المصریة التی تنتج وتستوعب أیدی عاملة وتصدر منتجاتها للخارج من الدعم ، بینما منحته صافیا، خالصا، مخلصا، لإسرائیل. الدولة الصدیقة والشقیقة الغالیة ، وکشف الجلاد عن اسم وماهیة الشرکة الوسیطة، فأخبرنا بأنها مملوکة لمصریین وصهاینة، وقدم معلوماته مشفوعة برأی خبراء الطاقة، الذین أفادوا بأن احتیاطی مصر من الغاز لا یکفی للاستهلاک المحلی والتصدیر، مما حد من عدد الرخص الممنوحة لإنشاء مصانع جدیدة للأسمنت لأن الغاز لا یکفی!.
ولا أرید الشماتة فی رجال الأعمال المتعاونین مع العدو فهم منبوذون أصلا، وبدأوا یحصدون ما زرعت أیدیهم. وتصرفات هؤلاء هی تصرفات متمرسین فی أعمال الجریمة المنظمة، ولکونهم أصحاب قرار فقد تعاملوا مع غزة بالطریقة التی یفهمونها. قدموا لها النار والدمار والموت، ومنحوا الدولة الصهیونیة الامتیازات وکل سبل الدعم، أغدقوا علیها ولم یحرموا فقط الفلسطینیین إنما حرموا منها المصریین کذلک. وهم الذین ادعوا منذ أن احتلوا مقاعد الوزارة والإدارة والتشریع، ادعوا أنهم مسؤولون عن إطعام المصریین وتشغیلهم وإسکانهم وتعلیمهم وعلاجهم، بینما یفعلون العکس.
والمطلوب هو تحویل الأنظار إلی الداخل، بعد أن أضحت مهمة إزاحة حکم عائلة مبارک فرض عین. ضرورة تستلزمها عملیة السعی فی اتجاه التصدی للعدو. ومن نوافل الاقوال أنه لا یوجد حاکم فی العالم أقوی من شعبه، وقوته یصنعها تنازل الشعب، طواعیة، أو ضغطا، أو قسرا، فیتمکن الحاکم ویستذل البلاد والعباد. ویتصور بعض مستشاری السوء فی قصور الحکم أن الظروف الدولیة والإقلیمیة الراهنة تزید من تمکین الطغاة وخدم الغزاة وترسیخ سلطانهم. اعتمادا علی أن المنطقة العربیة وامتدادها الإسلامی موضوعة علی قائمة الإبادة، وهو ما یستلزم تصفیة النظام الرسمی العربی، وتغییب التضامن الإسلامی، وتقلیص القدرة علی الردع العسکری وفی ذلک ضمان لدوام الهیمنة الأمریکیة. یرون فیها غطاء یبقی علی مصالح هؤلاء الحکام والمسؤولین، فما یجمعهم بها أهم مما یجمعهم بشعوبهم.
ومحرقة غزة لا یجب عزلها عن غیرها من المحارق، المعدة للاشتعال فی لبنان وسوریة وإیران والسودان، وهی جزء من کل، ومع ذلک فإن أهل غزة حققوا انتصارا مکلفا. صنعوا به الفشل الثانی لأولمرت، فی أقل من سنتین، کان فشله الأول فی تموز /یولیو 2006 على ید حزب الله والمقاومة الوطنیة اللبنانیة. وها هو الفشل الثانی فی غزة شباط /فبرایر 2008، بعد مواجهة شاملة لحرکات المقاومة الإسلامیة والوطنیة فی القطاع ضد الآلة العسکریة الصهیونیة الجبارة. من جهة أخرى فإن هذا الانتصار أحبط سیاسات الاعتدال السعودیة المصریة، ولو مؤقتا. وصحیح أن میزان القوى العسکری کان فی صالح الدول الصهیونیة، والصحیح أیضا أن المقاومة استطاعت تحیید التفوق العسکری، وتفرض علی قوات العدو الانسحاب، وتتحقق شروط الانتصار بتوفر عزائم الرجال وصلابتهم، لقد عری منطق الشرعیة المتناقضة، فسلطة محمود عباس وهی وإن جاءت عن طریق صندوق الانتخابات إلا أنها جاءت خصما من حساب المقاومة، أما شرعیة حماس، هی وإن کانت، هی الأخری، عن طریق صندوق الانتخابات، إلا أنها تعززت بالمقاومة. طریق التحریر والعودة والحل العادل، من هنا توارت شرعیة الإذعان وتأکدت شرعیة المقاومة، ومع علمنا بالثمن الباهظ الذی دفعته غزة، فعزاؤنا أن التاریخ یؤکد دوما بأن النصر لا یأتی مجانا، وطریقه دائما مفروش بالتضحیات والمعاناة.
( المقال للکاتب المصری محمد عبد الحکم دیاب )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS