فی زمن انقلاب المعاییر.. تحریر فلسطین یصبح حراماً

ما الذی اختلف فی العالم العربی حتى باتت بعض الانظمة ووسائل الاعلام فی موقع المهاجم لکل قوى المقاومة لاسرائیل والداعم للکیان الصهیونی؟!

لا تبارحک التصریحات التی تلقی باللوم على حرکة حماس فی فلسطین وتطالبها بما لا تطالب به اسرائیل، وتهاجم الحرکة المقاومة بدعوى تحصیلها الدعم من ایران وحزب الله فی لبنان.

لا شک ان تغیرات کبیرة طرأت على الساحة السیاسیة العربیة وبدأت بالتبلور منذ توقیع اتفاقیة کامب دیفید بین مصر واسرائیل، وصولا الى اتفاقیات وادی عربة، وبعدها مفاوضات اوسلو وخارطة الطریق.

عزلت هذه الاتفاقیات السابقة انظمة باسرها عن القضیة الاساس: تحریر فلسطین، على الرغم من انه لم تمض على احتلالها القرون. جهدت منذ ذلک الحین الماکینات السیاسیة فی اجراء العملیات التجمیلیة لما حصل وفی ضخ الافکار التی تروج للتسویة مع اسرائیل وتدعو للالتحاق بالقطار قبل فوات الاوان. واستمر الامر من دون مجاهرة الا من النظامین المصری والاردنی، فی حین نادت بقیة العرب باستعادة الحقوق العربیة وتحریر الاراضی المحتلة.

زمن الحلم

جهدت الولایات المتحدة على فترة لیست قصیرة لتعمیق ارتباطاتها بمصر والاردن ودعم بعض الاحزاب والتوجهات والشخصیات المروجة لفکر التسویة. واضحت المقارنة سهلة بین النهج الناصری وما تلاه، حتى انه بات نهج الرئیس المصری الراحل انور السادات هو السائد والغالب.

یستمر البعض باعلان التأیید علنا، او على الاقل المجاهرة بالعداء لحرکات المقاومة فی فلسطین ولبنان. وفی الوقت نفسه استمرت التدفقات النقدیة الداعمة من شخصیات اقتصادیة کبیرة وعربیة لهذه الحرکات التی نمت بشکل کبیر، خصوصا مع تجربة المقاومة فی لبنان التی بدأت مع القوى الوطنیة واکمل مسیرتها حزب الله، واخذت منها المقاومة الفلسطینیة الکثیر لتنتج انتفاضة الاقصى الثانیة عام 1998.

تتابعت الامور على هذا المنوال حتى عام 2002 حین عقدت القمة العربیة فی بیروت، فضغطت المملکة العربیة السعودیة باتجاه ما سمی المبادرة العربیة للسلام، وسارع یومها الکیان الاسرائیلی الى القول انها لا تساوی الورق الذی کتبت علیه.

منذ ذلک الحین توالت المبادرات العربیة السخیة وتوالى الرفض الاسرائیلی. لم یتوقف الامر عند هذا الحد، بل استغرقت التنازلات الى حد دفع بعض الدول للتخلی عن المطالبة بعودة اللاجئین الفلسطینیین الى دیارهم بحجة انهاء الصراع العربی الاسرائیلی المستمر منذ 1948.

المشروع الأمیرکی

کانت هذه المرحلة هی الفترة التی تبلورت فیها الخطط الامیرکیة الجدیدة للمنطقة. فکان غزو العراق وتقسیم العالم الى محوری الخیر والشر. عملت اجهزة الاعلام الامیرکیة على خلق الاعداء المفترضین للعرب وابعدت الکأس عن اسرائیل. فتذبذبت العلاقات واضحت ایران هی الهاجس فی دوائر الدبلوماسیة العربیة، وبدأ الحدیث عن تصدیر الدیموقراطیة الى العالم العربی وعن ولادة الشرق الاوسط الجدید الذی تحدثت عنه وزیر الخارجیة الامیرکیة کوندالیسا رایس وانکره العرب فی کل تحرکاتهم.

رفعت «ایران الشاه» علم اسرائیل وسمحت بالتمثیل الدبلوماسی لها، وسمیت فی وقتها «شرطی الخلیج» مدعومة دائما من الولایات المتحدة التی حمت النظام الشاهنشاهی الا انها لم تلق العداء من العرب. اتت ثورة آیة الله السید روح الله الموسوی الخمینی واطاحت النظام الشاهنشاهی واعلنت العداء لاسرائیل، وسرعان ما قابلتها اغلب الدول العربیة بالعداء ذاته ودعمت حرب العراق علیها.

التهمة.. إیرانی

مرت السنون وانطلقت الحملة على القوى المقاومة. فأضحى حزب الله فی لبنان مرتبطا بایران على الرغم من ان قتاله لم یتجاوز تحریر الجنوب اللبنانی والمطالبة بما تبقى من مزارع شبعا وتحریر الاسرى. وانطلقت الحملة على حرکتی حماس والجهاد الاسلامی بدعوى انهما تتلقیان الدعم المادی من ایران على الرغم من ان مقاومتهما لم تنطلق الا لتحریر الاراضی الفلسطینیة ووقف الاستبداد الاسرائیلی.

انقلبت الادوار وبات الاعداء هم سوریا ایران وحرکات المقاومة، فیما ابعدت الاضواء عن الکیان الاسرائیلی. اقتنعت بعض الانظمة العربیة بان علیها تصفیة حرکات المقاومة والا فستفقد مکانتها بالنسبة للغرب الذی لم یقدر على تنفیذ المهمة بنفسه، خصوصا بعد خسارة الکیان الاسرائیلی حربه فی یولیو 2006 مع حزب الله فی لبنان. اضحى المطلوب اکثر بکثیر، وهو عزل الدول الداعمة والقضاء على الحرکات المدعومة.

ضخمت الحملة الاعلامیة التی بثت للشعوب ان ایران الفارسیة ترید استرجاع امبراطوریتها فی زمن الستاتیکو العالمی للحدود، ونُشر الخوف من التشیع ولم تنشر ای من معانی المقاومة ولم تدعم الحرکات المقاومة من قبل العرب، بل ترکت لقدرها او حتى حوربت وحوصرت.

ینادی الدین الاسلامی بعدم الاذعان للظالم ومقاومة المحتل، ویفرض الجهاد على المسلمین، وفلسطین احد مصادیق الجهاد لم تعرها الانظمة الاهتمام فی زمن العولمة وتبدل المفاهیم والطفرات الاقتصادیة والاهتمامات المادیة التی تطغى على الامور الدینیة.

خیار الهزیمة

بعض الانظمة لم تعد تعیر الآذان، ولم تعد ترید ان تسمع کلمة مقاومة. واضحى التنظیر للهزیمة وضرورة التعاطی مع الامور بواقعیة وتضخیم القوة الاسرائیلیة - القویة بالفعل - هاجسا لدى ماکینات صناعة الرأی العام.

اصبحت الحرکات المقاومة «حرکات شاذة» بالمعنى الذی یراد له ان یکون، حرکات تجذف عکس التیار. واصبح التیار الداعی للتسویة على حساب القیم الانسانیة والدینیة والوطنیة هو السائد.

حتى الامس القریب کانت تنظم المؤتمرات الداعمة لفلسطین وللمقاومة، وکانت تزخر خطب المساجد بالحدیث عینه، وکانت تجمع الاموال. اما الیوم فقد اضحى تجفیف مصادر تمویل الحرکات الاسلامیة هاجسا عاما. انقلبت المعاییر. ائمة المساجد ممنوعون من الحدیث. بات المستعد للتضحیة حالماً فی نظر الغیر. اصبحت المقاومة ضربا من الخیال. وقد نسمع فی المستقبل من ینظّر فی حرمة المقاومة من الناحیة الشرعیة.

( المقال لحسین نور الدین  )

ن/25