الحصار الإعلامی حول غزة
الباحثة المغاربیة خدیجة البشیخی
الحصار الإعلامی هو سیاسة ینتهجها اخصائیون فی الإعلام لکبت الحقائق، تبسیطها وتهمیشها وجعلها حدثا عادیا.
هناک دراسات حدیثة فی مجال الإعلام فی العالم الغربی تتناول أسالیب تسلیط الضوء على موضوع ما أو تهمیشه؛ نأخد على سبیل مثال برمجة توقیت الأحداث التی تُبَثُ فی الأخبار الرئیسیة وکیفیة التطرق إلیها على مدى النشرة.
إذا کان المقصود تهمیش الموضوع؛ تتجنب إدارة الأخبار إنزال صورة للحدث لأن الصورة فی بعض الأحیان قد تکون معبرة ولا تحتاج للتعلیق مکتفیة بالإشارة لما حدث، أو یجری توقیت الحدث فی الثلث الأخیر من النشرة؛ بحیث تتراجع نسبة المتابعین للنشرة ویقل ترکیز المشاهدین وتزید نسبة التعب أو الإشباع من الأخبار وبذلک تکون الغایة من هذه السیاسة قد تحققت بالمعالجة الهادئة، أی تلک التی تسعى لعدم لفت النظر لسیاسة إعلامیة محددة تجاه قضیة ما. وهذا ما نسمیه بالحصار الاعلامی.
یشکل هذا النوع من الحصار تعبیرا أکثر قوة من الحصار المادی أو المعلن، لأنه یغمض عیون المجتمعات عن الحقائق ویضع غشاوة على الضمائر لکی لا تستیقظ وتتحرک لتوقف ظلما ما فی منطقة ما. ولو أخذنا مثالا تحلیلیا فی الحصار الاعلامی المفروض حالیا على غزة یمکننا التوسع أکثر فی توضیح آلیات التعمیة والتضلیل الإعلامیین. وأعنی الحصار فی العالمین؛ الغربی والعربی؛ طرقه وخلفیاته ومترتباته على الشعب الفلسطینی فی غزة.
الإعلام الغربی
لکی نفهم کیف یحاصر الاعلام الغربی القضیة الفلسطینیة بصفة عامة والحصار المفروض على قطاع غزة لا بد من سرد بعض الأحداث التی وقعت فی المنطقة وکیف تطرق لها الإعلام الغربی وبشکل خاص الفرنسی منه. من المعلوم أن الاعلام الغربی بصفة عامة والاعلام الفرنسی بصفة خاصة مسیس لا یتسم بما یسمى بالحیادیة الاعلامیة فیما یخص 'قضایا الشرق الأوسط'. فالقائمون على إدارته منحازون للسیاسة الاسرائیلیة ویعملون کل ما فی وسعهم لتبریر أفعال وممارسات الحکومة الإسرائیلیة ومسؤولیها. ولفرنسا تأثیر إعلامی کبیر على أوروبا. وأسلوب تسلیطها الضوء على قضیة یؤثر بوضوح على ألمانیا وسویسرا وبلجیکا وباقی الدول الأوروبیة فی قوة التغطیة وضعفها وأسلوب التناول.
لکن الإعلام الفرنسی یعلم أن مجتمعه یتمتع بمستوى ثقافی متقدم یتطلب من مختصیه رفع مستوى توصیل الحدث لذا لا نستغرب الإستعانة بمختصین فی علم الإجتماع من مؤیدی إسرائیل. على سبیل المثال، فی إطار تغطیة الحرب على غزة وجد دینس سیفیر أن التغطیة الاعلامیة لم تتسم بالتوازن بین الطرفین المعنیین ووجد ان تعبیر بعض الصحافیین الفرنسیین عنیف عند وصفهم للحرب على غزة وبأن رد اسرائیل على استفزازات حماس أو أکثر من ذلک دفاع اسرائیل عن نفسها.
فی تلک الفترة لم یتوان بعض الصحافیین ذوی الأسماء المعروفة فی الدفاع عن اسرائیل کالصحافی افان لفای Ivan Leva' الذی لم یتوان عن استعمال تعبیر مثل 'الصبر الإسرائیلی قد نفد'. لا شک بأن هذا التوجیه الإعلامی یؤثر فی کل من لا یعرف واقع الأمور ویجهل سیاسة اسرائیل الطاغیة والجبروتیة ویشکل معرفته فی کل ما یخص الصراع العربی الإسرائیلی من وسائل الإعلام الغربیة.
من المجحف عدم توجیه الأنظار إلى جهود بعض الصحافیین والمثقفین المناهضین لصهینة الإعلام الغربی. فرغم قلتها، تستطیع فی بعض الأحیان لفت الأنظار، على سبیل المثال موقع الانترنت الذی قام بمقارنة عدد التحقیقات المخصصة لکل من غزة وإسرائیل من 27 کانون الاول/دیسمبر إلى 5 کانون الثانی/ینایر 2009 القنوات الأولى، الثانیة والثالثة الفرنسیة خصصت 6 ربورتاجات للمدنیین الإسرائیلیین مقابل 2 للمدنیین الفلسطنیین.
Acrimed أحصى بدوره للقناة الثانیة الفرنسیة عشرة تحقیقات لصالح اسرائیل مقابل اثنین لغزة. ناهیک عن تغطیة سفن کسر الحصار، فالسفینة اللیبیة لم تحظ إلا ببعض دقائق من طرف القناة الأولى الفرنسیة مع تعلیق یطفو علیه الطابع القانونی منه الإنسانی. بما أن 'الحصار على غزة مستمر بتوافق دولی فإن إسرائیل کانت فی وضعیة قانونیة لمنع السفینة من التقدم'. لم یحس المواطن العادی بأن التعنت الإسرائیلی یعتبر کعملیة قرصنة فی حق الواجب الانسانی الذی قامت به السفینة اللیبیة.
نستخلص إذن أن الاعلام الغربی لیس حرا کما یعتقد البعض، فهو إعلام محاصر ببعض الإیدیولوجیات التی ترضخه لسیاساتها.
إن الإحتکار المتصاعد لوسائل الإعلام التقلیدیة صار یهدد حریة التعبیر وموضوعیة العمل الصحافی ومهنیته، ویأتی بصیص الأمل من الانترنت والمواقع ذات الطابع الاجتماعی. مواقع تعطی للمثقف العربی القاطن بأوروبا وصاحب الضمیر الحی فرصة التواصل مع مجتمعه ومع وقائع خارج السیطرة التقلیدیة. وقد شکل انتقال الشبکة العنکبوتیة إلى قوة إعلامیة وسیلة ضغط على الإعلام التقلیدی باعتباره یتصدى لمهمة التوعیة الإعلامیة، وقد صارت الصحف الفرنسیة تعطی مصداقیة ومکانا لما یبث على الشبکات الالکترونیة، مما اضطر بعض القنوات الفرنسیة للخروج عن صمتها فی بعض المواضیع التی کانت بأمس لیس بعید موضوع تعمیة وتکتم. ومن الضروری لتعزیز هذا الإختراق تجاوز إشکالیة اللغة والترجمة، فأهم ما یرد ویتم تداوله من معلومات هامة غیر معروفة غربیا یتم باللغة العربیة. لذا وکمختصة فی هذا المجال، أرى من الضرورة ترجمة ودبلجة ما أمکن من المعلومات لتعریف الرأی العام الغربی أکثر بالمأساة الغزاویة والقضیة الفلسطینیة.
الاعلام العربی
لا یمکننا اعطاء تحلیل معمق للاعلام العربی فی هذه العجالة، فهو موضوع قائم فی ذاته ویحتاج لتحلیل مسهب. ولکی یکون الإعلام محرکا للتوعیة المجتمعیة، لا بد أن یوحی بذلک. إلا أن الاعلام العربی لیس فی المستوى الکافی من النضوج الثقافی والمهنی حتى الیوم، مع احترام جهود بعض المنابر الإعلامیة فی هذا المجال. فما عدا قناة الجزیرة وبعض الصحف الملتزمة، ثمة إعلام دون مستوى النقد ودون مستوى التحلیل. لن أتطرق لتحلیل الصحف الوطنیة أو الخلیجیة وما جاء فیها عن غزة، سأقوم بذلک فی مناسبة أخرى، ولکن من المحزن القول ان الإعلام العربی فی معظم منابره فی حالة سبات، وهو لا یغطی مأساة الحصار والأوضاع المزریة فی غزة حتى بدا اسم هذه المدینة غریبا ولا یذکر البتة فی بعض البلدان العربیة. فی زیارة قمت بها مؤخرا لواحد من هذه البلدان، فوجئت بالهوة بین ما نقوم به فی أوروبا لمکافحة التطبیع والتوعیة لعدم شراء المنتوجات الإسرائیلیة فی وقت کانوا مشغولین بتدشین مطاعم الماکدونالد التی افتتحت عندهم مؤخرا. وهمهم الحالی حفظ المصطلحات المتعلقة بالوجبات الأمریکیة السریعة، فزعی زاد أکثر حین تجرأت وبدأت أتحدث عن المشاکل التی یعانی منها أبناء قطاع غزة جراء الحصار المفروض علیهم. فبدا لی وکأننی أتیتهم من کوکب آخر ومن عالم لیس عالمهم.
لکن رغم فزعی من جهل هذا المجتمع بقضایاه لم یکن بقدر فزعی ببشاعة إعلامه الذی شارک فی انحدار الوعی إلى هذه الدرجة من الجهل. إعلام نائم أو متآمر علیه مع سلطته التی تکن کل المودة لإسرائیل.
لا شک بأن مهمتنا فی أوروبا لیست سهلة من أجل مبادرات متنوعة وخلاقة لکسر احتکار اللوبی الموالی للإسرائیلی لوسائل الإعلام الکبرى، إلا أن المهمة تبدو أحیانا أصعب فی غیاب الحد الأدنى من الحریات الأساسیة والإعلامیة وتواطؤ السلطات الرسمیة کما هو الحال فی العدید من الدول العربیة.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS