القضیة الفلسطینیة ستکون الضحیة المنسیة
القضیة الفلسطینیة ستکون الضحیة المنسیة
مطاع صفدی
لماذا یفرض الأمریکیون هذا الفصل الجدید من تمثیلیة السلام الفلسطینی الإسرائیلی. کأنما الممثلون الثلاثة یمارسون ضرورة عاجلة لأشخاصهم ومصالح دولهم. فهم على عجلة من أمرهم. فلا تنطق ألسنتهم إلا بالوعود کأنها وقائع متحققة منذ ساعة اللقاء فی واشنطن. فهم یطلقون وهماً یصطنعون تصدیقه قبل سواهم. وقد یدرک کلٍّ منهم فی ذاته أنه مجبر ولیس مختاراً لما یفعل. عوامل الغضب والإجبار بسیطة رغم تعقدها الظاهری. فالرئیس أوباما مؤلف التمثیلیة ومخرجها، هو المضطر والمجبر الأهم فی هذه المعادلة الثلاثیة. فبعد اقتحامه ساحة الأزمة الشرق أوسطیة کالفارس الهمّام، مطلقاً خطابات السلام، دونما طائل مقدماً؛ کان هو فارض الشروط الفلسطینیة المطلوبة من نتنیاهو، ثم أمسى فجأة فارس التنازلات الأسرع إلى التخلی عنها، وإلزام شریکه الفلسطینی باتباعه دونما تردد أو تمهل.
سریعاً أدرک أوباما أنه لا حلّ للمعضلة. لکنه اکتشف مع محاوریه ومستشاریه، فی البیت الأبیض ومحیطه، انه یمکن إنتاج کل مظاهر الحل، من اجتماعات وتصریحات وجولات رفض وقبول، کل ذلک من نسیج الحرکات والکلمات والسلوکیات الدبلوماسیة فقط وحدها. أما على الأرض، فالفلسطینی هو الخاسر کل یوم من جسمه الحیّ، ووطنه الصریع. والإسرائیلی هو الجزار الملتهم للأرض والمدمر للإنسان. والأمریکی هو الذئب، المؤتمن على بقایا القطیع الشرید، بعد أن تخلى عنه رعاته وحراسه الأصلیون.
أوباما یرید أن یقول لناخبی حزبه بعد أقل من شهرین، أنه أوفى بالبند الثانی من وعوده کمرشح للرئاسة، ها هو ینجز إخراج الجیش الأمریکی من العراق، ومن ثم، فإنه یضع کذلک أزمة الشرق الأوسط على سکة الحل؛ أما نتنیاهو فإنه مطالب بتغییر صورة إسرائیل المتدهورة عالمیاً، محتاج إلى أعلام سلام قماشیة، ترفرف فوق مجازر إسرائیل المتلاحقة. وأما جماعة (السلطة الفلسطینیة) فهم الممتثلون؛ طوعاً أو کرهاً، لأوامر السیدین الأمریکی والصهیونی. وقد قالت المعارضة الفلسطینیة، أنه قد تم استدعاء الرئیس عباس، بموجب مذکرة جلْب صادرة عن واشنطن، لحضور حفلة افتتاح المفاوضات. هذا التوصیف قد لا یهین کرامة الرجل بقدر ما یظهره بریئاً من إرادة الاختیار، کأنما لم یکن سباقاً فی الهرولة أبداً، طیلة عشرات اللقاءات الماضیة، إن لم تکن المئات من فصول مفاوضات صوریة فاشلة، احتلت خلالها إسرائیل کامل الأرض الفلسطینیة، وجعلت بقیة الشعب منفیاً فی وطنه.
ما تفعله هذه (السلطة) وما تعود إلى تکرار فعله، اعتقاداً منها بتعزیز قوتها، هو المزید من تجرید القضیة من أوراق قوتها، وعناصر صمودها الأسطوری. لکن ما یحدث هو على العکس تماماً، فالسلطة هی التی تخسر من بقایا شرعیتها المزعومة حتى فی عین الشلّة القلیلة من أتباعها. لکن الأخطر فی هذه الجولة الجدیدة، هو أن أسیادها مصممون هذه المرة على اختراع حل زائف کلیاً، بدل إعلان الفشل الفعلی المنتظر. هذا الحل الکاذب سیوقعه أبو مازن باسم الشعب، ثم تتلقفه أجهزة الدعایة الغربیة وأعوانها المحلیون، وتُسوّقه فی کل فضاء محلی وعالمی على أنه انتصار السلام وانتهاء الصراع. کل الدلائل تشیر إلى أن فلسطین القضیة ستکون هی الضحیة المنسیة لأخبث لعبة تتقنها دبلوماسیة الاستعمار، وتمارسها کلما حان وقف إغلاق ملف صعب، فتلجأ إلى اصطناع إلغائه بآخر شبیه له، قادر على طمس الأصل، ولو إلى حین.
هذه النسخة الباهتة من تمثیلیة التزویر المستفحل منذ مؤتمر مدرید المشؤوم، قد تکون هی الأدهى فی مسلسلها، من حیث توفر نیة أکیدة فی التخطیط الأمریکی على إغلاق نهائی للملف الفلسطینی بأیة صیغة، حتى لو کانت تزویراً خالصاً لجوهر القضیة ولأعراضها النسبیة معها کذلک. فأمریکا أمست الیوم واقعة تحت الهَوْلَیْن الأعظمین لکل إمبراطوریة جانحة للزوال، وهما الإفلاس العسکری والإفلاس الاقتصادی. وقد جاء عهد الأوبامایا على جناح الادعاء بالتصدی للهَوْلَیْن معاً. لکن مضى النصف الأول من عمر الولایة الرئاسیة فی حصد أشواک الفشل وحدها، من دون أیة ثمرة إیجابیة واحدة. فقد تخبطت دبلوماسیة التغییر ما بین تحدیات الهَوْلَیْن، فتراها تتنقل فی المواجهة ما بین صهیونیة إسرائیل المصممة على ابتلاع فلسطین کاملة، وصهیونیة وول ستریت فی نیویورک المعطِّلة لأهم الإصلاحات المالیة؛ المعطلة بدورها لانبعاث اقتصادی، لا یلّمس منه الشعب الأمریکی إلا بمضاعفات إنهیاراته فی شتى میادین حیاته الیومیة.
التناقض المأساوی هو فی صلب الإدارة الأوباماویة فهی تحاول مکافحة صهیونیة الهَوْلَیْن الکبیرین بالمزید من صهینة دبلوماسیتها عینها. فهی تسلم لإسرائیل الصغرى الحالیة بکل مفاتیح إسرائیل الکبرى. بدءاً من أن أسطورة مشروع تهوید المشرق عاجلاً، هی المانع الاستراتیجی الوحید لاستعادة الحضارة العربیة الإسلامیة لوحدة قارتها الآسیویة مع ضفافها الأوروبیة. هکذا یدخل فی روع منظری أقصى الیمین الأوروبی الأمریکی معاً، تحت وطأة خوف التهابات المطلقة، أن المنقذ من الکارثة العظمى المنتظرة، لیس هو التفکیر أو التخطیط الماکرو استراتیجی إذ لم یعد کافیاً فی ذاته، کأنما لا بد من إعادة وضْعه تحت هالة التطلع المیتافیزیقی. کأنما صار الخیار (الکونی) بین الیهودیة الصهیونیة أو الأسلَمَة الجهادیة؛ وهو خیار لن یستوعب أممیة عربیة آسیویة وحدها، لکنه صار خیاراً أمریکیاً أوروبیاً کذلک.
کل هذا المشهد الکارثی، الأسطوری أیضاً، یفترض مسرحاً واقعیاً وحیداً لأحداثه المنتظرة، یتأرجح ما بین إخماد فلسطین وتکریس إسرائیل، عاصمة للیهودیة العالمیة على أنقاضها؛ ولکن فی حال فشل الحل السلمی للمشروع التهویدی، فلتأت إذاً الحرب الشاملة على المشرق کله، من مدخلها، او محورها الإسرائیلی الإیرانی.
تقول فلسفة التاریخ أن العلّة المرکزیة فی اندلاع الحروب الصغرى والکبرى هو مبدأ الصراع من أجل مجرد البقاء العادی (الطبیعی)، أو البقاء الأفضل للذات؛ وذلک بدافع الهیمنة والاستغلال، مقابل إخضاع الآخر أو إلغائه. فالأزمات الاقتصادیة العالمیة کانت مدخلاً ضروریاً للحروب العالمیة. والرأسمالیة المسیطرة على حضارة العالم المعاصر، اعتادت إیقاع الأزمات المستعصیة التی لا حلّ لها إلا بإعادة تغییر أو قلب لموازین القوى الدولتیة، بوسیلة العنف الجماعی المنظم، ونموذجه الحرب. لکن کل حرب دولیة کانت لها أیدیولوجیتها المسوّغة لمجازرها القادمة؛ هکذا تحلُم عنصریة الصهیونیة بأن تصبح هی أیدیولوجیا الحرب العالمیة الثالثة الآتیة، بأن تغذیها بثقافة مفاهیمها ومعاییرها، وإن لم تکن بمصطلحاتها المباشرة.
جرأة نتنیاهو باشتراط الاعتراف الفلسطینی، والعربی طبعاً، بیهودیة إسرائیل کمدخل ضامن لمفاوضات السلام مع رئیس بلدیة أو سلطة رام الله. هذه الجرأة هی بمثابة رسالة موجهة إلى المعمورة کلها من أعلى منبر سیاسی فی واشنطن، تبشر بمولد الإمبراطوریة الیهودیة، کآخر مصیر تلمودی لتاریخ الإنسانیة. لکن العقبة الفریدة القائمة الیوم وغداً، فی وجه أسطرة المستقبل الکونی تلمودیاً، لیس مجرد رفض فلسطینی أو عربی لهذا الاشتراط التهویدی لبعض الأرض الفلسطینیة؛ المسروقة أو المزورة باسم إسرائیل، ولکن لأن التاریخ الراهن، مصمم عربیاً وإنسانیاً ألا یؤسطر مستقبله تلمودیاً. هذا بالرغم من أن صهینة المسیحیة الأمریکیة قد انتقلت من الکنسیات والأخویات الشعبویة إلى أروقة الکونغرس والبنتاغون وحتى البیت الأبیض. کما تتحدث بذلک نشرات وکتب مؤیدة للوباء الأدلجی الجدید القدیم، أو رافضة له.
إنه عجز حکومات الغرب إجمالاً عن معالجة الأزمات الاجتماعیة المتصاعدة بنسبة هندسیة مضطردة مقابل العجز الرسمی المتفاقم، فی وقف الانهیار الاقتصادی، ذلک هو الدافع الحقیقی لحرْف الرأی العام عن هدف المواجهة الکلیة المحتومة یوماً قریباً، مع أعطال نظامه الرأسمالی فی جوهره الاستغلالی المطلق، ولیس فی بعض أعراضه الخادعة. فالامبریالیة المأزومة، تستنجد بافتعال مختلف المعارک الأخرى الثانویة ـ والدینیة منها خاصة-، تحاشیاً لتلک المواجهة المطلقة، بینها وبین شعوبها أخیراً، ولیس فقط مع الشعوب المقصیة ما وراء البحار، حیثما اعتادت هناک تفریغ احتقاناتها الوطنیة بتحقیق مجازر انتصاراتها العسکریة، واستلاب المزید من ثروات الأمم المستضعفة.
نحن نعیش الیوم فی صلب الافتعال الأعظم لحراک التاریخ العالمی المعاصر، بتحریفه من منطق تضامن الحضارات، تلقائیاً طبیعیاً، إلى أحوالٍ من لامعقولیة صراع الأدیان، هذا التحریف هو نتاج إرادة استراتیجیة کلیانیة، مالکة لأخبث نظریات العلوم الإنسانیة والمعلوماتیة، ومقودة بأدهى العقول وأذکى الأجهزة المخططة والمنفّذة، بشریاً وآلیاً. والصهاینة هم أساتذة الجمیع فی هذه المیادین کلها. والصراع على عروبة فلسطین أو تهویدها یشکل البؤرة المشعّة بالنجاحات أو الإخفاقات لمشروع إعادة أسطرة الحضارات دینیاً، وذلک بقلب المعتقدات الإلهیة إلى عنصریات عرقیة، وتوزیعها وفق خارطات جیوسیاسیة، تجدد تقسیم الأرض والإنسان والحضارة حسب تلک الثنائیة الأزلیة: الشرقُ شرق، والغربُ غرب، وما بینهما طلاقٌ أبدی!
هل یعرف حکّام العرب ما تعنیه ثقافة التهوید حقاً. لقد اختار بعضُهم الصمَم عن سماع العبارة. واختار آخرون العمى عن رؤیة الحروف اللئیمة وآفاقها، وانحاز البعض إلى وظیفة السمسرة لمعانیها وتجمیلها. وراح البعض الآخر یختطف أدوار مؤلفیها ومخرجیها. ویعممها على أرکان سلطته وأبواق دعایته.
التمثیلیة ماضیة فی فصولها. وشعوبنا العربیة تتفرج..بانتظار ساعة الحقیقة.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS