الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

قمة سرت.. تخبط وافلاس

قمة سرت.. تخبط وافلاس

عبد الباری عطوان

 

قبل عقود، وعندما کنا اطفالا، تداولنا طرفة اثارت ضحکاتنا البریئة، مفادها ان رجلا یدعى سمیر الحمار، ظل یعانی طویلا من کنیته هذه، ولمز وغمز اقرانه بسببها، فطفح به الکیل، وقرر ان یغیر اسمه، وعندما نجح فی مهمته هذه سأله رفاقه عن اسمه الجدید فقال بثقة انه سامر الحمار.

لا اعرف لماذا تذکرت هذه الطرفة وانا اطالع أهم القضایا المطروحة على جدول اعمال القمة العربیة الاستثنائیة فی مدینة سرت التی من المقرر ان تلتئم الیوم السبت، وخاصة الاولى المتعلقة بتغییر اسم الجامعة العربیة الى 'اتحاد' الدول العربیة، والثانیة التی تقترح انشاء تکتل اقلیمی جدید یضم جمیع الدول العربیة ودول الجوار ای کلا من ترکیا وایران (بعض العرب اقترح انضمام اسرائیل ایضا).

مشکلة الجامعة العربیة، ومنذ تأسیسها قبل سبعین عاما تقریبا، لم تکن مطلقا محصورة فی اسمها. وانما فی انظمة الحکم العربیة الاعضاء فیها، وطبیعة حکوماتها وزعاماتها، وفی النظام الداخلی للجامعة نفسها والعاملین فیها، والامناء العامین الذین تربعوا على عرشها، بحیث اصبحت هذه الجامعة عنوانا لعقم النظام الرسمی العربی، وصورة مصغرة عن امراضه المستعصیة على العلاج. ولذلک فان حصر مسألة اصلاح هذه المؤسسة البیروقراطیة المتعفنة الهرمة، فی تغییر اسمها هو محاولة یائسة جدیدة للاستخفاف بعقولنا، والتعاطی مع المواطن العربی وکأنه قطیع من الاغنام.

اصلاح الجامعة مستحیل فی غیاب اصلاح شامل وجذری للنظام العربی، فالغالبیة الساحقة من التکتلات الاقلیمیة العالمیة الاخرى تطورت وفرضت نفسها، وافادت دولها ومصالح شعوبها، لانها تمثل دولا دیمقراطیة، ولذلک لیس صدفة ان المنظمة الاقلیمیة الوحیدة التی لم تتطور فقط بل تراجعت هی الجامعة العربیة، لانها تمثل حکومات هی الاکثر فسادا وتخلفا وقمعا ودیکتاتوریة فی العالم بأسره، ولان امینها العام یأتی من رحم هذه الحکومات ومن اجل احد هدفین لیس لهما علاقة بالعمل العربی المشترک او قضایا الامة، الاول توفیر تقاعد مریح له مادیا ومعنویا حیث الرواتب وبدلات السفر الضخمة. اما الثانی فإبعاده عن دائرة المنافسة على الزعامة، وتسهیل عملیة التوریث، مثلما هو حال الامین العام الحالی السید عمرو موسى.

اعمل فی الصحافة منذ ثلاثة عقود، وفی مطبوعات عربیة متعددة قبل 'القدس العربی'، واجزم بأننی لم اتلق دراسة عربیة واحدة ذات قیمة اعدتها الجامعة، او اقسامها، بل لا ابالغ اذا قلت انه لم یصلنی بیان واحد من اقسامها المتعددة، او حتى مکاتبها فی الخارج ذات المیزانیات الضخمة بما فی ذلک مکتبها فی لندن الذی لا اعرف اسم مدیره. بینما تصلنا آلاف الرسائل الالیکترونیة من مختلف المؤسسات العالمیة والعربیة الاخرى. فماذا یفعل هذا الجیش العرمرم من الموظفین اذن؟

وما یثیر الغیظ، غیظنا نحن على الاقل، کثرة الاستدلال هذه الایام، فی غمرة الحدیث عن الاصلاح، بالاتحاد الاوروبی، ومقارنة الجامعة به، وامکانیة تحویلها الى منظمة اقلیمیة على نمطه او افضل منه، بحکم اللغة واواصر القربى والثقافة والتاریخ المشترک للدول الاعضاء.

الاتحاد الاوروبی یمثل دولا نسبة الامیة فیها دون الصفر وابرز الاسس التی قام علیها هی الدیمقراطیة وحقوق الانسان وحریة التعبیر والقضاء العادل المستقل، والشفافیة والمحاسبة المطلقتان، والمساواة فی الوظائف وفرص العمل، والتوزیع العادل للثروة، والتکافل الاجتماعی، والرقابة البرلمانیة الشرسة، والتعددیة السیاسیة، والاعلام الحر الجریء، وهذه القیم، مجتمعة او منفردة، غیر موجودة فی معظم، او کل، قوامیس الدول العربیة الاعضاء فی الجامعة.

* * *

الجامعة العربیة لا یمکن ان تلحق بالاتحاد الاوروبی او تقترب من ظله عبر قطار تغییر الاسم، والذین یعتقدون ذلک، ویبشرون به، یتصرفون وکأنهم جاءوا من کوکب آخر، او انهم لم یقرأوا تجربة الاتحاد الاوروبی، ویتعرفوا على الاسباب التی ادت الى قیامه، والقیم التی تحکمه، واذا کانوا قد قرأوا فانهم لم یفهموا، وان فهموا فانهم فی ظل تقدیمهم مصالحهم الوظیفیة على مصالح الامة، قرروا الصمت ومجاراة عملیات التضلیل التی تسود حیاتنا السیاسیة والمجتمعیة.

احد المبادئ المهمة التی قام علیها الاتحاد الاوروبی هو التکافل بین الشعوب، ومساندة الغنی للفقیر، اذا ابدى استعداده للالتزام بشروط العضویة المذکورة آنفا، فالدول المؤسسة، وقبل تغییر الاسم ای (السوق الاوروبیة المشترکة) مثل المانیا وبریطانیا وفرنسا قدمت مئات الملیارات من الدولارات فی صیغة مساعدات وقروض واستثمارات للنهوض بالدول الاوروبیة الفقیرة المرشحة للعضویة مثل اسبانیا والبرتغال والیونان، وتعزیز اقتصاداتها، وتحسین الظروف المعیشیة لمواطنیها. فهل الدول العربیة الغنیة مستعدة ان تفعل الشیء نفسه، او تخصص سبعة فی المئة من انتاجها القومی کمساعدات للدول الفقیرة مثلما تفعل دول مثل السوید والنرویج؟

الملیاردیر الامریکی بیل غیتس صاحب شرکة مایکروسوفت العملاقة الذی یقضی معظم وقته وزوجته فی متابعة المشاریع الخیریة فی افریقیا وآسیا، خصص 35 ملیار دولار من ثروته الشخصیة لمساعدة الفقراء فی العالم. وفوجئت بان تبرع هذا الرجل وحده یزید بخمسة ملیارات دولار عما قدمته المملکة العربیة السعودیة (مشکورة) من مساعدات خارجیة على مدى عشرین عاما وفق ما جاء فی بیان رسمی صدر قبل اسبوعین ونشر فی الصحف السعودیة.

وربما یفید فی هذه العجالة ان نذکّر بعشرات الملیاردیرات الذین قرروا التبرع بنصف ثرواتهم لاعمال الخیر، بمبادرة من غیتس وزمیله بافیت، ولم یکن من بینهم ملیاردیر عربی واحد، رغم ان معظم هؤلاء کونوا هذه الثروات من سرقة المال العام، والمشارکة فی صفقات مریبة وغیر قانونیة، نقولها والمرارة فی حلوقنا.

الحقیقة المؤلمة، والفاضحة، التی یعرفها الجمیع ویتجاهلونها، تتلخص فی ان وزن وقیمة الحکومات العربیة التی تنضوی تحت مظلة الجامعة تقترب من الصفر فی معادلات القوى العالمیة، وانفاق مئات الملیارات من الدولارات على شراء صفقات اسلحة لا یغیر من هذه الحقیقة، لان السلاح المشترى لیس للاستخدام، وإن استخدم فلیس فی المکان الصحیح، وغالبا فی خدمة حروب تخدم المصالح الامریکیة ولیس العربیة. واتحدى ان یثبت ای شخص ان طائرة واحدة من صنع امریکی استخدمت فی الحروب ضد اسرائیل.

السؤال الذی یطرح نفسه هو کیف یطرح السید عمرو موسى تشکیل تکتل یضم الدول العربیة الى جانب ترکیا وایران فی ظل حال الهوان الرسمی العربی الراهن، فی وقت تنفق فیه دول الخلیج العربیة مبلغ 123 ملیار دولار على شراء طائرات ومعدات عسکریة امریکیة متطورة استعدادا للمشارکة فی ای حرب تشنها امریکا لتدمیر المنشآت النوویة والبنى التحتیة الایرانیة؟

هناک مثل یقول 'مجنون یحکی وعاقل یسمع' فهل من الممکن تشکیل هذا التحالف مع ایران فی وقت تقرع فیه انظمة عربیة واعلامیة طبول الحرب ضد ایران، وتشارک بحماس منقطع النظیر فی تطبیق العقوبات الدولیة المفروضة علیها بتحریض امریکی؟ ثم لماذا تنضم ترکیا الدیمقراطیة التی تحتل المرتبة السادسة عشرة على قائمة اقوى الاقتصادات فی العالم، وتجری مناورات مشترکة مع الصین وایران الى مثل هذا التکتل المسیطر علیه امریکیا؟

* * *

هذه المقترحات 'البهلوانیة' حول اصلاح الجامعة واقامة تکتل دول الجوار العربی، تذکرنا باقتراحات مماثلة مثل البرلمان العربی، ومفوضیات الاعلام والسیاسة والتعلیم، التی لم تنجح الا فی زیادة عدد الکادر الوظیفی فی الجامعة، وتوظیف بعض الوزراء السابقین او ابنائهم. هذه المقترحات الموضوعة على جدول اعمال قمة سرت هی قنابل دخان الهدف منها اخفاء عورات النظام الرسمی العربی، واستمرار عملیات التضلیل، والایحاء بان مؤسسة القمة العربیة ما زالت حیة ترزق وتتخذ القرارات.

فی ظل هذا التدهور المهین لمکانة النظام الرسمی العربی، لا نستغرب رفض وزراء خارجیة دول افریقیة اضافة فقرة فی البیان الختامی للقمة العربیة الافریقیة، التی ستعقد بعد القمة العربیة، تدین الاستیطان الاسرائیلی صراحة، وقبولهم لاحقا، وبعد استجداءات، بصیغة وسط عمومیة. فالدول الافریقیة تدرک هزالة الوضع العربی وضعفه، وکیف خذلت الدول العربیة لیبیا اثناء حصارها، وتخذل الفلسطینیین المحاصرین فی قطاع غزة. وهی لا ترید التضحیة بعلاقاتها مع اسرائیل فی وقت یطبّع معظم العرب علاقاتهم معها فی السر او العلن.

عندما کانت الحکومات العربیة، او معظمها، تتصرف بمسؤولیة، وتعمل بجدیة من اجل خدمة قضایاها، والالتقاء مع الآخرین على قاعدة المصالح المشترکة فی مواجهة الظلم والاستکبار الغربی، وتتخذ مواقف شجاعة ورجولیة، کان العالم یحترمها، ویقف الى جانبها فی المحافل الدولیة، ولکن عندما توظف امکانیاتها واراضیها فی خدمة حروب امریکا وتوفر الوظائف للعاطلین الامریکیین من خلال صفقات اسلحة، ونسبة البطالة فی اوساط الشباب العربی تزید عن الثمانین فی المئة، فان فشل الطروحات العربیة فی الامم المتحدة او هیئة الطاقة الذریة، او المجلس العالمی لحقوق الانسان من الامور الطبیعیة.

ن/25

 

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 141454







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)