أنظمة المقایضة.. فلسطین مقابل العروش
أنظمة المقایضة.. فلسطین مقابل العروش
سوسن البرغوتی
واقع ذل الأنظمة العربیة التابعة للاستعمار الغربی، بدأت منذ المراسلات المتبادلة بین حسین بن علی وهنری مکماهون ممثل بریطانیا فی مصر عام 1915- 1916، التی نصت على اتفاق یُعطى الأول ولایات عربیة فی المشرق العربی وینصب علیها ملکاً، مکافأة له على جهوده ومشارکته بریطانیا فی خوض غمار الحرب ضد الدولة العثمانیة، وذاک الاتفاق أدى إلى تقسیم الوطن العربی ما بین عرب آسیا وعرب أفریقیا.
واللافت أن الوثائق السریة والمراسلات، کشفت عن استبعاد فلسطین واعتبارها عالمیة، من ولایات المحمیات البریطانیة، وتعیین حسین بن علی وأولاده من بعده حکاماً محلیین علیها.
وعود ذهبت أدراج الریاح بعد اتفاقیة سایکس- بیکو 1916، بإعادة رسم خارطة المغانم العربیة بین فرنسا وبریطانیا، وتلاها وعد بلفور بعد عام ومنح فلسطین "وطناً قومیاً للیهود"، وهذا الاتفاق وما نتج عنه ما زال ساری المفعول.
الحکام العرب لیسوا بوضع أفضل من حسین بن علی ومن تلاه، فی قبول الوعد الممنوح هبة لیهود العالم، فلمَ کل هذا الضجیج والصراخ على رفض "یهودیة الکیان"، وقد تأجل مراراً وتکراراً وصولاً إلى مهزلة المفاوضات ودمیة ینشغلون بها تُسمى السلطة المحلیة. ألیست تلک السلطة فی رام الله حکماً ذاتیاً ظاهریاً، ولکنها عملیاً لم تتجاوز مفهوم مکتب ارتباط لتنفیذ ما یملیه العدو الصهیونی؟!.
قبیل اتفاق أوسلو واعتراف منظمة التحریر بـ"إسرائیل"، ألقى عرفات فی "کامب دیفید" کلمة، حیث اجتمع دعاة "سلام الشجعان" الثلاث، وذکر فیها "الدولة الیهودیة" إلى جانب الدولة الفلسطینیة من أجل التعایش السلمی. فهذه أدبیات نظام التبعیة، ولم تکن إلا ضمن منظومة أنظمة الدارة الاستعماریة.
وعلى الرغم من محاولات کسر تلک القاعدة فی نظام ثورة یولیو بمصر، وإعادة مبدأ الوحدة العربیة للواجهة والتصدی لأعداء الأمة المتمثلة بذات القوى الاستعماریة، وعلى الرغم من "التمرد" على تلک المنظومة، وضرب النظام السیادی لأرض وشعب العراق الموحد، لعاصمة شیاطین الأرض "تل أبیب"، إلا أن الأغلبیة، عمّدوا ولایات الحکم الذاتی، التابعة للهیمنة الأمریکیة، وتضافرت الجهود لإعادة التحام الدارة، بعد نکسة عام 1967، وغزو العراق واحتلاله، وإعادته لنظام تُبّع، مما یؤکد تآمر هذا النظام لإلحاق الهزیمة وتفتیت البلد إلى شظایا.
لعل سوریا وقدرتها على إمساک العصا من المنتصف، بانتهاج سیاسة الدبلوماسیة طویلة الباع والأمد، ودعم المقاومة العربیة وصمودها أمام هذا المشهد المقرف والشاذ عن سنن الشعوب فی سیادة واستقلال بلادها، لإلغاء خارطة رسمها الاستعمار، وقبل بها حکام عرب، تأتی بسیاق الخروج من الوعود الوهمیة مقابل صفقة مشبوهة وبمهلة محددة، لتأتی وعود أخرى تجبّ ما قبلها، والرابح فیها على المدى البعید "نظام مکماهون".
أنظمة المقایضة والتبعیة سلمت عن طیب خاطر فلسطین مقابل صفقة حمایة بلادها وعروشها، إلا أن التنازل لیس له سقف، وبمعادلة عکسیة مع ارتفاع منسوب الأطماع الصهیونیة والقوى الاستعماریة، یشهد واقع أمتنا العربیة، تنازلاً جدیداً عن سیادة وأمن البلاد والعباد، مقابل لقب "الرئاسة" بلا أی معنى حقیقی، ولهذا فإن سلطة محمیة رام الله لا تخرج عن الإطار المحدد مذ جاؤوا "محررین" مناطق محددة فی فلسطین لا أکثر ولا أقل وفق اتفاقیة جاءت بأخرى ألعن منها. وهذا یفسر غضب وحنق عباس ورهطه ومشتقات ما أفرزته أوسلو من أجهزة وبائیة خیانیة، وانزعاج أعراب المقایضة، على "الانقلاب" فی القطاع، وبدأ إصدار أسطوانة آخر صیحة، بضرورة إنهاء الانقسام، والمصالحة مع فتح أوسلو وأجهزة الشبح والذبح، لتوحید "شطری الوطن"، فماذا عن مَن تنازل عن أکثر من 80 بالمئة من أرض فلسطین وعن حق أکثر من ثلثی السکان الأصلیین المشردین فی أصقاع العالم؟.. أولیست فتح باحتکارها للقرار الفلسطینی وتزعمها لمنظمة التحریر، هی التی انقسمت وانقلبت على القانون القومی/ الوطنی منذ عام 1968؟.
کذلک فما یُسمى المحکمة الدولیة فی لبنان، لیست إلا وصایة دولیة، لإخضاع لبنان لنفس المتفق علیه منذ 1916، وإحکام القبضة على "الولایات العربیة" فی المشرق العربی، لتبقى سوریا مکشوفة وعرضة لاختراقها، ویستمر مسلسل التقسیم الذی یجری حالیاً فی السودان والیمن، دون أن یحرک أحد من هؤلاء المتربعین على رقاب العباد- وسیفاً مسلطاً على کل من یدعم المقاومة- ساکناً.. وتغافلوا أن دورهم قادم لا محالة..
وفق الحالة المعتمة التی تسود الوطن العربی برمته، فنحن على مشارف تشکیل وطن عالمی، یُباع بالخفیة والعلن، لیصبح المستأجر العربی عالة، فکیف إن کان یقاوم ویتصدى، حینها، فالعربی المیت هو العربی الجید. فمن فلسطین العالمیة إلى "شرق أوسط جدید" الصورة لا تختلف، ومن الاصطفاف إلى جانب المستعمر للحصول على المکافأة المؤقتة، الحال یتکرر، والتاریخ یعید نفسه.
إن إحداث هوة واسعة بین اللاعبین الأساسیین فی وطننا وبین برنامج المقایضة، ضرورة ملحة، وهذا لا یتأتى إلا بتدمیر البنیة التحتیة له. کما أن توحید الهدف الإستراتیجی، من المهمات التی یجب أن تلقى اهتمام القوى الحیة، فعندما یشتعل بیتک، ینبغی أن تسعى لإطفاء الحریق، لا أن تفکر فی عداوة الأیدیولوجیات وتعمل على الخصام والشقاق، فتتصدع الجدران وینهار السقف علینا جمیعاً، فتوحید العمل من رص الصفوف، والالتفاف حول من یملک القدرة على المواجهة العسکریة وتقویة موقعه، تمکین لجبهتنا الداخلیة... الهدف الإستراتیجی التحریر أولاً، دون التفافات منمقة وطرق معوجة مکشوفة، فالبیت عربی ولیس عالمیاً أو مشاعاً، وإنقاذ أمة تغرق فی أتون حروب معقدة ومتشابکة، منها إعلامی وسیاسی، ومنها طائفی ودینی، وکلها أعواد قابلة لمزید من الاشتعال، وإلا لن نبتعد کثیراً عن عقلیة تجار الأوطان، وما لک لی وما لنا قابل للمساومة!.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS