الأبعاد غیر الحربیة لصفقات التسلّح الضخمة
الأبعاد غیر الحربیة لصفقات التسلّح الضخمة
نصر شمالی
أصبح معروفاً منذ عقود أنّ اتفاقیات التسلّح، أو صفقات التسلّح، لا تقتصر ضرورتها على احتیاجات القتال والمقاتلین فی حرب واقعة أو وشیکة الوقــــــوع، بل تتعدّاهـــا إلى أبعاد ومیادین أخرى، کالتجارة الصرف التی للمشتری أیضاً مصلحة غیر حربیة فیها، لیس من أجل العمولات التی هــــی 'قضیة صغیرة تافهة'، بل من أجل المصیر المشترک الذی یربط بین کلا الطرفین کنظامین، ویجعل الشاری حریصاً على البائع حرصه على نفسه!
إنّ ظاهرة البعد التجاری الصرف تبرز أکثر ما تبرز فی صفقات التسلّح العربیة/الأمریکیة، بغضّ النظر عن شکلیاتها غیر المقنعة تجاریاً، حیث یبدو البائع کأنّما هو متسلّط محتال والشاری کأنّما هو ضعیف مغفّل، وحیث تبدو الصفقة مریبة، مدعاة للدهشة والاستنکار والتهکّم من حیث حجمها الخرافی وأهدافها الحربیة غیر الواقعیة. غیر أنّ مثل هذه المشاعر وردود الأفعال تزول جمیعها عندما ندرک أنّ العملیة/الصفقة تتمّ داخل تشکیلة دولــــیة واحدة، وبین طرفین متکاملین، فهی عملیــــة داخلیة تشبه مناقلة فی میزانیة. أی أنّ لها ضروراتها الواقعیة المفهـــــومة تمـــاماً من قبل الطرفین الشریکین. لکنّ إبرام مثل هذه الصفقات (التجاریة) یبقى غیر ممکن من دون خطر حربی ملموس، أو مفترض، یبرّره أمام الرأی العام الداخلی والخارجی، الأمر الذی یدفع بالبائع، یؤازره المشتری، إلى افتعال الخطــــر أحیاناً، وتضخیمه وتهویله!
قبل انهیار الاتحاد السوفییتی وزواله تململ الأوروبیون من السیاسة الدفاعیة الأمریکیة، حیث الهدف المعلن الذی ظلّت واشنطن تلحّ علیه هو التصدّی للخطر السوفییتی. وبینما أیّدها بعض حلفائها العرب بحماسة رأى بعض حلفائها الغربیین أنّ الهدف الکامن هو إحکام السیطرة الأمریکیة على أوروبا الغربیة بالذات، مضافة إلیها الشرقیة، وهو ما تأکّد فعلاً، بالدلائل القاطعة، بعد انهیار المعسکر الاشتراکی.
کانت الشکوک تنتاب الأوروبیین عموماً وهم یطالعون تقاریر المخابرات الأمریکیة عن القوة العسکریة لحلف وارسو، مثلما تنتاب الشکوک العرب الیوم بصدد تقاریر مشابهة عن الخطر الإیرانی. وذات مرّة أعلن أحد القادة الاستراتیجیین فی حلف الناتو، الجنرال کراوس، أنّ تقییماً صحیحاً لمیزان قوة النیران یدلّ بشکل قاطع على أنّ حلف الناتو یتجاوز حلف وارسو. قال الجنرال: على واشنطن التوقف عن بثّ الذعر فی قلوب الأوروبیین، والتوقف عن دفعهم إلى زیادة إنفاقهم العسکری بحجج مزوّرة!
لقد ترتّب على تصریحات الجنرال کراوس الجریئة حینئذ أنّ بعضاً من الأوروبیین سارع إلى تحقیق انفراج فی علاقاته مع موسکو. ثمّ إنّ موسکو بالذات کانت فی تلک الفترة تنتقد واشنطن وتطالبها دون کلل بمزید من الحوار حول نزع السلاح. غیر أنّ ما حدث کان مؤقتاً، حیث سرعان ما أعید الأوروبیون إلى حظیرة الشراکة الاستراتیجیة والمصیر المشترک، وانخرطوا فی برنامج لإعادة التسلّح وضعته واشنطن.
کان الأوروبیون یقاومون أحیاناً، فی بعض الحالات وتحت ضغط شعوبهم. وکان البریطانیون، مثلاً، یشتکون من الضائقة الاقتصادیة الخانقة، ویخفضون النفقات الحربیة الجدیدة على حساب المساهمة البحریة البریطانیة فی الدفاع عن الطرق الدولیة لحلف شمال الأطلسی. وقد اتسعت المعارضة الشعبیة لتشمل الولایات المتحدة بالذات، غیر أنّ التسلّح استمرّ على أوسع نطاق، وذلک لأنّ الإنتاج الحربی أصبح فرعاً رئیسیاً فی البنیة الکلّیة للنظام الرأسمالی الدولی، بحرب أو من دون حرب!
تقول نشرة صادرة عن وزارة الدفاع البریطانیة ما یلی: 'إنّ القدرة على إنتاج وتطویر الأسلحة هی رأسمال وطنی هام. إنها تضمن الموارد، وتمکّن بریطانیا من خدمة المتطلبات التی تواجهها بطریقة ملائمة وفی الوقت المناسب. إنها تؤمّن الوظائف فی الداخل، ویدفع مقابلها لنا بنقودنا، وهی تمکننا من التعاون فی مجال مفضل لدینا، وتقدّم لنا إمکانیة ضمان نقد أجنبی من خلال المبیعات، وفوق کلّ شیء تساعد فی الحفاظ على أمتنا بمساهمتها فی دفاعنا'!
فی ما یتعلّق بالمنطقة العربیة لا یزال الوضع على حاله عموماً منذ نهایة الحرب العالمیة الثانیة. وفی معرض توضیح هذه الحال، وعلى سبیل المثال لا الحصر، قال أحد مساعدی الرئیس ریغان ما یلی: 'إنّ منطقة الشرق الأوسط، بما فیها الخلیج الفارسی ، هی 'منطقة مفتاح' أساسیة فی السیاسة الخارجیة الأمریکیة، لأسباب لا تخفى على أحد، ولذلک فإنّ واشنطن على استعداد لتوجیه الضربات ولخلع أیّ نظام یقف فی وجه مصالحها'!
وبعد ذلک کشف النقاب عن أنّ واشنطن أبلغت دول الخلیج الفارسی عن عملیة نشر قوات بریة وجویة وبحریة فی الخلیج الفارسی قوامها ثلاث فرق عسکریة، وخمسة عشر سرباً مقاتلاً وحاملة طائرات، على أن تقوم دول الخلیج الفارسی بتمویلها. وذکر لاحقاً أنّ صندوقاً تأسس بالفعل لتمویل هذا الوجود العسکری الإضافی، الذی قدّرت تکالیفه بعشرة ملیارات دولار.
وفی اجتماع للجنة التعاون المشترک بین الولایات المتحدة ومجلس التعاون الخلیجی، عقد حینئذ فی أرلنجتون/فرجینیا، أعلن روبرت بیللترو مساعد وزیر الخارجیة أنّ أهداف الولایات المتحدة فی الخلیج الفارسی متعدّدة، فهناک الأهمیة المتزایدة للشراکة الاقتصادیة، وهناک المصالح القویة للشرکات الأمریکیة التی تتولى إقامة الصناعة والبنیة الأساسیة، إضافة إلى أنه لا بدّ من حمایة الأصدقاء، وحمایة المصالح الحیویة، والتأکید على أنّ الولایات المتحدة مستعدّة للتصرّف بحزم عند اللزوم'!
لقد توالت مثل هذه التصریحات على ألسنة المسؤولین فی جمیع العهود الأمریکیة، وهی تصریحات یقرّها حلفاؤها وأصدقاؤها دائماً. وعلى الرغم من التغییرات النوعیة التی حدثت فی ترکیبة النظام الدولی عموماً، بعد احتلال العراق، فإنّ مثل هذه التغییرات ونتائجها لم تظهر کما ینبغی، لا فی المنطقة العربیة ولا فی المنطقة الأوروبیة الغربیة، فلیس ثمّة مراجعة ولا تراجع فی المواقف المعلنة، الأمر الذی یشیر إلى مدى تشابک العلاقات بل اندماجها إلى درجة الانصهار العضوی بین أنظمة هاتین المنطقتین وبین نظام الولایات المتحدة. ولیس أدلّ على ذلک من صفقات السلاح العملاقة التی تعزّز جمیع مواقع البائع الامریکی المضطربة دولیاً، ولیس موقعه العسکری فقط، وهذا التعزیز الإجمالی هو ما یریده الشاری أیضاً، بالضبط!
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS