الثلثاء 15 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

خیار المقاومة واثره لبنانیاً واقلیمیاً

الدکتور داوود خیر الله/أستاذ مادة القانون الدولی فی جامعة جورج تاون – واشنطن
الذکرى السنویة العاشرة للانسحاب الاسرائیلی من لبنان هی ذکرى حدث جلل فی اسبابه وتداعیاته داخل لبنان وفی المحیط العربی وما تعدّاه . اهمیة دراسة التاریخ والافادة من عبره تکمن لیس فی الاطلاع على تسلسل الاحداث وتکوّن نتائجها,  ولکن فی المعرفة الدقیقة للاسباب والعوامل التی دفعت الی تلک الاحداث وأدت إلى  تلک النتائج .
الانسحاب الاسرائلی القسری من لبنان عام 2000 کان بمثابة معجزة صنعتها جهود وتضحیات انتظمت فی مخطط ونفّذت بارادة لم یعرف لهما العالم العربی مثیلا فی العصر الحدیث .
کیف لنا ان نستوعب ان اضعف  الدول المجاورة لاسرائیل وأصغرها واکثرها عرضة لاعتداءتها المتکررة منذ نشأة الدولة الصهیونیة’ تصبح اکبر مصادر المهابة والقلق لدى  الدولة  العبریة ؟ بماذا نصف التحّول فی حیاة المواطنین وخاصة سکان القرى الحدودیة فی الجنوب اللبنانی الذین اصبحوا یعیشون حیاة طبیعیة بعد ان کان یحظّر علیهم الخروج من بلداتهم وقراهم بعد حلول الظلام لاسباب کانت اسرائیل تعتبرها امنیة . الان اصبح باستطاعهم ان یشربوا میاه انهارهم وان یأمنوا من دخول اسرائیل اراضیهم لاختطاف او اغتیال من تشاء منهم بلا حسیب او رقیب ولأسباب لا یعرفها أو یبررها سوى عدد من المسؤولین الاسرائیلیین.
ارادة المقاومة وممارستها بشکل فعّال هی العوامل الوحیدة التی یمکن ان نفسّر بها التحّول الهائل الذی حصل فی حیاة اللبنانیین . فبالمقاومة فقط تمکن لبنان من تحریر معظم المحتل من ارضه, وکذلک جمیع اسراه واخرین من الاسرى العرب فی السجون الاسرائیلیة . وبالمقاومة فقط استعاد لبنان استقلاله وسیادة  على اراضیه . وبما ان السیادة فی الداخل هی الاستئثار بالحکم الذاتی ، وفی  العلاقة بالدول الاخرى ، فی  اطار النظام الدولی القائم ، هی القدرة على حمایة الحقوق والمصالح ، فان لبنان لم یسبق له ان مارس سیادة علی ارضه منذ نشأة الدولة العبریة کما یفعل الیوم .
أ-  تسلّح المقاومة والاستقرار  .
تدعی اسرائیل وأصدقاء لها فی الخارج, وفی طلیعتهم الولایات المتحدة, ان تسلّح المقاومة اللبنانیة یقوّض الاستقرار فی المنطقة . ومن أسف فان هناک اصواتاً  عربیة وکذلک فی الداخل اللبنانی تتبّنى هذه المزاعم الاسرائلیة وترددها . ولکن عکس هذه المزاعم هو الصحیح وهو ما اثبتته وتثبته الایام ویقرّ به مسؤولون اسرائیلیون .
لبنان هو الدولة الوحیدة بین دول الطوق التی لم تشارک فی الحرب ضد اسرائیل فی العام 1967 وکذلک فی العام 1973  وکان بعض القیّمین على السیاسة اللبنانیة یدّعی فی حینه ان قوة لبنان تکمن فی ضعفه . لقد اثبتت اسرائیل حماقة تلک المقولة إذ لم یحصل ان عانت دولة عربیة من دول الطوق  ما عانى لبنان من  اعتداءات اسرائیلیة واحتلال وتدمیر وتشرید. ولم یتوقف ذلک إلا نتیجة تضاعف القوة لصدّ العدوان والقدرة على رفع الکلفة لکل مغامرة عسکریة تقوم بها اسرائیل. فتسلّح المقاومة وتعاظم قوتها  هما عاملا استقرار فی العلاقة بین لبنان واسرائیل وفی منطقة الشرق الاوسط بشکل عام . ولنسمع مسؤولین اسرائیلیین یقیمون الدلیل على ذلک:
نائب رئیس الارکان الاسرائیلی ، بنی غینتس ، فی مقابلة اجرتها معه القناة الاولى فی التلفزیون الاسرائیلی بتاریخ 14/5/2010 یستبعد امکان نشوب حرب فی الشمال ضد سوریة ولبنان بالرغم من تشدیده وتحذیره من انّ « حزب الله تعاظم عسکریاً وعلى نطاق واسع ، منذ الانسحاب الاسرائیلی من لبنان » ورأى انّ « لا مصلحة لأی طرف بالتسبب بتصعید الاوضاع  الامنیة » .
وبالرغم من حدیثه عن استعداد الجیش الاسرائیلی للقیام بما یؤمر به ، عاد وحذّر من مستوى التهدید الموجّه ضد الجبهة الاسرائیلیة ووصفه بأنّه « تهدید ملموس وجوهری جداً واذا لا  سمح الله وقعت المواجهة ، فلن تکون مواجهة عادیة او مترفة » .
وفی السیاق نفسه کتب یؤاف لیمور ، معلّق الشؤون العسکریة فی صحیفة اسرائیل الیوم ، ویعتبر  مقرّباً من المؤسسة العسکریة ، «  إن السبب المرکزی فی عدم وقوع الحرب هو الردع ، الردع  تجاههم  وللأسف الردع تجاهنا ایضاً . فمع وجود اکثر من خمسین الف صاروخ ( فی حوزة حزب الله ) ، ومنها المئات من الصواریخ القادرة على ضرب تل ابیب ، یتضح کیف ستکون الجولة المقبلة » ویوضح: « عنیفة جداً  فی الجانبین ، ما یدفع الى الامتناع عن الافعال والاکتفاء بالاقوال فی هذه المرحلة ، فهم یتحدّثون عن الانتقام لإغتیال عماد مغنیة ، ونحن نتحدّث عن ضرورة وقف تدفّق الاسلحة الى لبنان »
وفی الإطار نفسه کتب عودید تیرا ، وهو عمید احتیاط فی الجیش الاسرائیلی ، مقالة تحلیلیة فی الصحیفة نفسها ( اسرائیل الیوم ) حذّر فیها  من القدرة العسکریة التی باتت فی حوزة حزب الله قیاساً بما کانت علیه قدرته فی العام 2006 ، وأشار الى « وجود تهدید ناری مکثّف موجه ایضاً الى الجبهة الخلفیة العسکریة ، إذ لدى حزب الله قدرات من شأنها ان تربک تجنید الاحتیاط والاستعداد للقتال » مضیفاً ان هناک « تهدیداً ضد قواعد سلاح الجو ، وضد المقار القیادیة ، وضد المنشآت اللوجستیة فی عمق اسرائیل » .  وحذّر الکاتب من « تعاظم کبیر جداً فی قدرة حزب الله ، إذ زادت امداء الصواریخ التی یملکها الى حدّ ان تصل الى أی نقطة مهمة فی اسرائیل، وانطلاقاً من عمق الاراضی اللبنانیة ».
هذا غیض من فیض مما یقوله ویکتبه مسؤولون اسرائیلیون عن القدرة الردعیة للمقاومة اللبنانیة بالنسبة لدولة مدینة بوجودها للإرهاب والجرائم ضد الانسانیة وتاریخها سلسلة إعتداءات على جیرانها واعمال تهدید للسلم العالمی . فهل یعقل فی ضوء کل ذلک الاستنتاج ان تسلّح المقاومة وزیادة قدرتها الردعیة یشکلان تهدیداً للاستقرار کما صرحّت السیدة کلنتون ، ناظرة الخارجیة الامیرکیة ، فی خطاب لها مؤخراً امام الجمعیة الیهودیة الامیرکیة ؟ الواقع أنّ لبنان یتمتّع الآن بحالة استقرار وتدفّق سیاحی وازدهار عقاری لم یعرفها منذ سنین, وذلک بفضل القدرة الردعیة لمقاومته.
ب- المقاومة والقانون الدولی
دأبت اسرائیل ومؤیّدون لها فی عدوانها واحتلالها على محاولة تجرید کل حرکة مقاومة لاحتلالها وظلمها من الشرعیة القانونیة.  ومن أسف, یشارک بعض الانظمة الرسمیة العربیة فی نشر الخطاب الصهیونی فی خنق الحقّ العربی فی التحرر من الاحتلال الاسرائیلی.  فجمیع ما یقوم به الشعب الفلسطینی المقاوم من جهود جدّیة للتحرر واستعادة الحقوق, هو مجرّد من الشرعیة بنظر اسرائیل, والمنظمات التی تمارس تلک الأعمال أوتدعو لها هی "منظمات ارهابیة". ولم تسلم المقاومة اللبنانیة من هذا التوصیف حتّى عندما کانت اسرائیل تحتلّ معظم الجنوب اللبنانی. فی حین أنّ مقاومة الاحتلال حقّ یکرّسه القانون الدولی وقد شکّل الرکیزة الأساسیة فی حروب التحریر من الاستعمار ومن الاحتلال الأجنبی نتیجة الحروب العدوانیة, نازیة وسواها.
فعندما قرّر المجتمع الدولی أن یحرّم استعمال القوّة کوسیلة لحلّ النزاع بین الدول لفرط ما تسببت به الحروب من أهوال ومآس، أبقى على استثناء واحدٍ فقط وهو شرعیة استعمال القوّة فی حال الدفاع عن النفس وکرّسه فی المادة 51 من میثاق الأمم المتحدة.  وعندما شاء المجتمع الدولی أن یعبّر عن ادانته للاحتلال والاستعمار واستنکاره للسیطرة على الشعوب وخنق حرّیاتها, جعل من حقّ الشعوب فی تقریر مصیرها احد المبادئ الرئیسیة التی یقوم علیها النظام العالمی.  وقد کان للرئیس الأمیرکی ویلسون الدور الأهمّ فی اعلان  حق تقریر المصیر وتکریسه بعد الحرب العالمیة الأولى.  ولکن یبدو أنّ الادارات الأمیرکیة المتعاقبة منذ نشأة الکیان الصهیونی وحتّى یومنا هذا أمعنت فی التنکّر لهذا الحق خاصة فیما یتعلّق بالحق فی التحرّر من الاحتلال الاسرائیلی.
الحق فی الدفاع عن النفس وحق تقریر المصیر یشکّلان الرکیزة الأساسیة فی القانون الدولی للحقّ فی المقاومة. فالاحتلال, خاصة کما تمارسه اسرائیل, هو مزیج من تهجیر وتدمیر للبشر والحجر یشرّع ممارسة  الدفاع عن النفس, وهو فی آن استعمار وسیطرة على حریّات الشعوب وطرق حیاتها وبالتالی خنق لحقّها فی تقریر مصیرها.
المقاومة لرفع الظلم حق لکلّ مظلوم. ومناصرة المظلوم على الظالم واجب معنوی على جمیع احرار العالم.  والمقاومة بما هی شکل من أشکال الدفاع عن النفس هی حقّ طبیعی, أی أنّها حقّ لکلّ کائن حی تشرّعه قوانین الطبیعة, وهو سابق فی الوجود للدول وقوانینها. والمقاومة لاستعادة الحقوق أو الحفاظ علیها لیست بالضرورة اللجؤ الى العنف. فهی بالدرجة الأولى عمل ارادی یعبّر عنه بوسائل مختلفة وذلک باختلاف الظروف التی تضمن فعالّیة هذه الوسائل.  لکن بالنظر لبدائیة النظام العالمی فی الحفاظ على حقوق الدول والشعوب والذی لا تزال تغلب فیه شریعة الغاب, وفی غیاب سلطة تتولّّى تطبیق القانون الدولی بما یحققّ الحدّ الأدنى من مبادئ العدالة, یصبح اللجؤ الى العنف فی صدّ العنف ورفع الظلم أمرا طبیعیا وربّما الوسیلة الوحیدة الباقیة لاحقاق الحقّ. ولنقم الدلیل على ذلک ولو من خلال مثال واحد من عشرات الأمثلة:
صدر فی 19 أذار 1978 عن مجلس الأمن الدولی, الجهاز الأممی المولج الحفاظ على السلم العالمی والذی یوصف, من قبل الدول المسیطرة علیه على الأقلّ, بأنّه مصدر الشرعیة الدولیة, صدر القرار رقم 425 وهو یدعو اسرائیل الى احترام السیادة اللبنانیة ووقف جمیع الأعمال العسکریة والانسحاب الفوری من الأراضی اللبنانیة کافة. الردّ الاسرائیلی على هذا القرار, الذی یعکس القانون الدولی ویفترض أنّه یعبّر عن ارادة المجتمع الدولی, کان الامعان فی العدوان على لبنان ومضاعفة أعمال القتل والتدمیر فیه مدّة اثنین وعشرین عاما لجأت خلالها الولایات المتحدة الى حق النقض (الفیتو) أربع عشرة مرّة لتحریر اسرائیل من التقیّد بالقانون الدولی وقرارات الشرعیة الدولیة.
وبالرغم من التحدّی الصارخ لمجلس الأمن وللعدالة الدولیة من قبل اسرائیل, لم یتحرّک المجتمع الدولی لنصرة القانون الدولی وتنفیذ قرارات الشرعیة الدولیة, ولم یتحرّک المجتمع العربی بالرغم من قصف بیروت واحتلالها فی العام 1982 وهی  أول عاصمة عربیة تقع تحت الاحتلال الاسرائیلی . فی الواقع لم یکن للقانون الدولی والشرعیة الدولیة سوى نصیر وحید وهو المقاومة اللبنانیة التی أجبرت اسرائیل على إطاعة القانون الدولی والانصیاع لقرار مجلس الأمن بالانسحاب من الأراضی اللبنانیة وان لم تزل المقاومة والسلطة اللبنانیة تعتبران أنّ الانسحاب لم یتمّ من کافة الأراضی التی یعتبرها لبنان ملکا له.
ج- ماذا بعد الانسحاب وما المتوقّع من اسرائیل؟
تمکّن لبنان بفضل مقاومته من تحریر معظم اراضیه واستعادة أسراه واجبار اسرائیل ولأول مرة منذ نشأتها على الانسحاب بلا قید ولا شرط من أراض عربیة احتلّتها. ویبدو أنّ لبنان بفضل تسلّح وجهوزیة مقاومته وقدرتها على فرض ثمن باهظ على اسرائیل فیما لو قامت بعمل عسکری ضد لبنان, قد تمکّن من خلق حالة من الردع  لدى اسرائیل فأمن بذلک, والى حدّ بعید, المغامرات العسکریة الاسرائیلیة التی اعتادتها فی الماضی بالرغم من تهدیدات الدولة الصهیونیة المستمرّة.  فهل یجوز للبنان ان یستکین الآن مطمئنا الى حالة الردع العسکری التی نشأت بفضل تسلّح المقاومة وجهوزیتها, أو أن ینحصر جهده وجهد مقاومته بالتعبئة العسکریة سلاحا وجهوزیة للقتال؟ انّ مثل هذه الاستکانة, هو من أفدح الأخطاء التی یمکن ارتکابها. 
یجب أن لا یغیب عن بال ای مسؤول أو صاحب قرار أو مواطن مهتمّ بالشأن العام أنّ العلاقة بین أسرائیل وضحایا مطامعها محکومة بالمعادلة التی تحکم علاقة الظالم بالمظلوم, علاقة المحتلّ بالمحتلّة أرضه. فکلّ مظلوم یعمل المستطاع لرفع الظلم, وکلّ ظالم ومحتلّ یعمل على زرع ثقافة الهزیمة والاستسلام للأمر الواقع لدى المظلوم والمحتلّة أرضه. فلیس لاسرائیل ما تخشاه اکثر من ترسّخ ثقافة المقاومة لدى المظلوم یمارسها بثبات وفعالیة. وعندما یقول الرئیس الاسرائیلی شیمون بریز, ابّان العدوان الاسرائیلی على لبنان عام 2006, أنّ المقاومة تشکّل خطرا وجودیا على اسرائیل, فلیس فی قوله مغالاة.
واهم من یتصوّر أن اسرائیل سوف توقف حربها على لبنان بسبب تعاظم قوّة مقاومته أو أنّها سوف توفّر جهدا أو تتخلّى عن عمل أو ارتکاب جریمة مهما کان وقعها أو ابتعادها عن الجائز خلقیّا وقانونیّا, اذا تصوّرت أنّ ذلک سوف یضعف أو یربک المقاومة.
واذا کانت المقاومة اللبنانیة قد تمکّنت من الحدّ من خیار الدولة الصهیونیة فی اللجوء الى السلاح فی فرض هیمنتها على لبنان, فانّّ لاسرائیل أسلحة وامکانیات هائلة لن تتوانى لحظة فی توظیفها لبلوغ مشیئتها فی اضعاف المقاومة والقضاء علیها. انّ أفعل وأفتک هذه الأسلحة هی الفتن الداخلیة من طائفیة ومذهبیة وسواها. وأحرّ ما تتمنّى اسرائیل هو أن یتحوّل سلاح حزب الله الى الداخل اللبنانی واغراق لبنان فی حرب أهلیة کما عاش لمدّة خمس عشرة سنة کان لاسرائیل فی تسلیحها وتعمیق الخلاف بین أطرافها دور أساسی.
اللجوء المباشر الى السلاح فی شن الحرب أمر سهل ادراکه واتخاذ الاجراءات الملائمة بشأنه. لکنّ اکتشاف من هو وراء صناعة الفتن بما هی شحن المشاعر وتأجیج واستغلال المخاوف والهواجس وتزویر الوقائع لیس بالامر السهل, خاصة اذا تدنّت درجة الوعی الاجتاعی, وکثرت عناصر الفتنة وأدوات تنفیذها, کما هو الوضع فی لبنان والعالم العربی بعامة.
لاسرائیل مخزون هائل من القدرة فی السیطرة على قرارات الدول العظمى وفی طلیعتها الولایات المتحدة, وعلى العدید من المسؤولین العرب وکذلک فی الداخل اللبنانی, أکان ذلک بشکل مباشر أو غیر مباشر, ولها حول فی السیطرة على المنظمات الدولیة وبخاصة فیما علّق بقرارات مجلس الأمن, ان لجهة صدورها أو تطبیقها. هذا فضلا عن سیطرتها على شبکة اعلامیة ضخمة وعلى مستوى عالمی.  جمیع هذه الامکانیات توظّف فی خدمة المصالح الاسرائیلیة کلّما اعتبرت اسرائیل أنّ لها مصلحة فی ذلک.
لا یتّسع المجال هنا لأکثر من بضعة تساؤلات لتسلیط الضوء على صحّة ما نقول. هل سبق ان حظی بلد بحجم لبنان بالاهتمام الذی لقیه هذا البلد الصغیر من قبل مسؤولین أمیرکیین من دیبلوماسیین وأمنیین؟ وهل یمکن من خلال کافة النشاطات والتصریحات والتهدید والوعید الذی صدر ویصدر عن مسؤولین أمیرکیین أن نقع على شؤون أمیرکیة تبرر هذه الجهود أو أن نلحظ مصلحة أمیرکیة, مهما کان نوعها, تتعدّى ما تعتبره اسرائیل مصلحة لها, خاصة فیما یتعلّق بالمقاومة وسلاحها؟ وهل یمکن تجاهل ازدواجیة المعاییر فیما یصدر أو یردّ من قرارات للشرعیة الدولیة,  أوما یلاحق او لا یلاحق من جرائم الحرب والجرائم ضدّ النسانیة على الصعید الدولی فی کل ما له علاقة باسرائیل؟
وهم التصوّر أنّ اسرائیل سوف تتوانى لحظة فی تفعیل کل امکانیاتها واستثماراتها السیاسیة, خاصة فی الولایات المتحدة وبعض الدول العربیة, وفی الداخل اللبنانی على وجه الخصوص, بغیة القضاء على المقاومة او اضعافها.
صحیح أنّ المقاومة اللبنانیة قد تمکّنت  من الحدّ من الخیارات الاسرائیلیة فی القیام بأعمال عسکریة وبالتالی تعطیل نسبی لعمل السلاح المادی المنظور, لکنّ تعطیل السلاح الذی یستعمل فی صناعة الفتن الداخلیة, وهو أشدّ فتکا وأبقى أثرا من أدوات العمل العسکری, یستلزم وعیا ونضجا سیاسیا وعملا دؤوبا لکل أطیاف المجتمع والنخب المثقفة وخاصة الذّین منهم یتولّون مسؤولیات فی السلطة الحاکمة. لیس باستطاعة المقاومة وحدها هزیمة صانعی الفتن الداخلیة لأنّ هذه الحرب موجّهة الى الذین یعانون من تخلّف فی الوعی السیاسی والاجتماعی, تحرّکهم هواجس ومخاوف هی فی الغالب من صناعة العدوّ. فما العمل؟
هناک الکثیر الذی یمکن القیام به لتفشیل المخططات الاسرائیلیة ان بالنسبة لمفاعیل الضغوط الخارجیة على لبنان, أو على صعید تأجیج الفتن الداخلیة.  فعلى سبیل المثال لا الحصر, یقع لبنان تحت ضغوط دولیة مستمرّة, یتفاقم أثرها بسبب الاستجابات الداخلیة لها, حول تسلّح المقاومة والزعم انّ ذلک یشکّل خرقا لقرارات الشرعیة الدولیة وتهدیدا للسلم العالمی.
الموقف الرسمی والشعبی الحالی ازاء تلک الضغوط یشجّع على الامعان فی ممارستها.  فمن جهة تتمسّک الحکومة فی بیانها الوزاری بحقّ المقاومة, ویصرّح رئیس الدولة مثلا بانّه سوف یحمی المقاومة برموش العینین. ومن جهة أخرى تتصاعد جعجعة داخلیة وتعلو أصوات تتبارى فی التشکیک بشرعیة المقاومة وسلاحها زاعمة بانّها تتعارض مع سیادة الدولة التی یفترض بأجهزتها الرسمیة أن تستاثر فی حمل السلاح وقرار استعماله بالرغم من الادراک التام, والتجاهل التام, لأن الدولة بجمیع أجهزتها الأمنیة, لا تستطیع الیوم, ولم تستطع یوما, الدفاع عن أرض الوطن وشعبه فی وجه الاعتداءات والقدرات العسکریة الاسرائیلیة, فتعطی بذلک اسرائیل والدول المؤیدة لها, والنافذة فی المنظمات الدولیة, المبررات لکی تصف المقاومة بالمنظمة الارهابیة الخارجة على القانون الدولی  واتهام لبنان بالعجز عن القیام بواجباته کدولة مستقلّة وبتقصیره فی تنفیذ قرارات الشرعیة الدولیة وبالتالی الاستمرار فی ممارسة الضغوط علیه.
فی حین ان الدولة لو اتخذت موقفا رسمیا واضحا, کما فعلت فی عهد الرئیس لحّود,  باعتبار المقاومة ومسألة تسلّحها هی جزء من الخطة الدفاعیة الوطنیة, لأنها کذلک فعلا, ولأنهاّ حقّ أساسیّ یحمیه القانون الدولی الذی یعطی کل دولة الحق فی الدفاع عن شعبها وأرضها, ولا یفرض علیها کیفیة تنظیم قدراتها العسکریة. لو فعلت الدولة ذلک لکان اختلف الموقف الدولی بشأن المقاومة وبشأن الدولة وسیادتها.
ولا یجوز الادعاء بأنّ موقف الدولة المتأرجح هذا یحمی بعض مؤسساتها من اعتداءات اسرائیلیة معیّنة, فالعکس هو الصحیح. لیس فقط  لأنّ اسرائیل لم تلتزم یوما بضوابط خلقیة او قانونیة فی عدوانها على لبنان اذا لاحت لها مصلحة فی ذلک, بل لأنّ موقف الدولة اللبنانیة هذا یعطی المبرر للتدخّل الخارجی بسبب اعتراف  الدولة الصریح بعجزها عن القیام بالتزاماتها الدولیة.
وعلیه فلیس للتناقض فی موقف الدولة والمسؤولین الرسمیین بهذا الشأن سوى تسهیل مهمّة اسرائیل فی مضاعفة الضغوط الخارجیة على لبنان وتسهیل مخططات الشرذمة الداخلیة وزرع الفتن وحصاد ریعها. 
فضلا عن ذلک لو قامت الدولة بکافة أجهزتها ومسؤولیها, وانطلاقا من وعیها لواجبها فی الدفاع عن الوطن وشعبه,  بتبنّی ثقافة المقاومة والحق فی التسلّح والتنظیم الملائم لممارسة حقّها فی الدفاع عن النفس, وعملت على تبنّی خطة دفاعیة فعّالة تشرک فیها جمیع مواطنیها, لاکتسبت حقّا أکبر فی السیطرة على قرار الحرب والسلم وعزّزت من شرعیة سلطتها ومؤسساتها عوضا عن الانفصام القائم حالیا بین موقف مؤیّد للمقاومة وحقّها فی التسلّح والدفاع عن الوطن وشعبه,  وموقف یساعد اسرائیل ومن یرید بلبنان سوءا فی بلوغ مآربهم. 
د- أثر تجربة المقاومة اللبنانیة فی المحیط الاقلیمی
المقاومة اللبنانیة کخیار وممارسة کان لها وقع تعدّى الحدود اللبنانیة ولا زالت تداعیاته تتفاعل فی اسرائیل وفی المحیط العربی والاقلیمی. فعلى أثر الضربات الموجعة التی أنزلتها المقاومة بالقوات الاسرائیلیة ودفعتها الى الانسحاب القسری, الأول فی تاریخ الدولة العبریة, بدأ التساؤل فی المحیط العربی حول المقاومة کبدیل لثقافة الهزیمة والأستسلام للأمر الواقع وللاملاءات الاسرائیلیة. 
تقییم درجة الترابط بین نجاح المقاومة فی ارغام اسرائیل على الانسحاب من لبنان وقیام الانتفاضة الفلسطینیة الثانیة بعد شهور أربعة من هذا الانسحاب قد لا یکون سهلا.  لکنّ الاعلام الاسرائیلی وبعض المسؤولین ربط ولا یزال یربط بین الانتفاضة الثانیة والانسحاب من لبنان. من جهة أخرى نلاحظ أنّ التأیید المعنوی لهذه الانتفاضة من قبل حزب الله لم ینقطع. وربما کانت محاکمة بعض أفراد الحزب فی مصر بتهمة تهریب السلاح الى المقاومین فی غزّة تقدّم دلیلا على تعاون یتعدّى التأیید المعنوی ویعزّز نظریة الترابط.
بقیت الشکوک تحوم حول قوّة المقاومة وقدرتها على الردع العسکری لاسرائیل والحدّ من طموحاتها خاصة فی مناخ من الخنوع العربی وانتشار طاغ لثقافة الهزیمة حتّى صیف العام 2006 حیث شنّت اسرائیل حربها على المقاومة اللبنانیة واستعملت فیها  جمیع ما فی ترسانتها ما عدا الاسلحة النوویة وبعض الکیمیائیة, ولم تحقق ایاّ من أهدافها.  فالجیش الذی قهر جیوش ثلاث دول عربیة فی العام 1967, واحتلّ مساحات شاسعة من أراضیها فی مدّة ستة ایّام, دون أن تطال الحرب بشکل جدّی الداخل الاسرائیلی, لم یستطع أن یحتلّ قریة لبنانیة واحدة بالرغم من جهود وعملیات عسکریة مکثّفة فی الجوّ والبحر والبرّ استمرّت ثلاثة وثلاثین یوما لم یسلم خلالها الداخل الاسرائیلی من قصف المقاومة الصاروخی, الذی لم یتوقّف یوما, بالرغم من جمیع الجهود الاسرائیلیة لوقفه. ما دفع بمعظم سکّان شمال اسرائیل امّا الى الملاجئ أو الى مدن فی الداخل أو الجنوب الاسرائیلی التی لم تطلها صواریخ المقاومة فی حینه.
تداعیات هذه الحرب فی الداخل الاسرائیلی وأثرها فی القدرة الردعیة والصورة التی جهدت اسرائیل فی نشرها بین الأصدقاء والأعداء فی الخارج لا تزال تتفاعل جاعلة من المقاومة اللبنانیة الهمّ الأساسی لأصحاب القرار فی اسرائیل.
أمّا على الصعید العربی فقد هزّت تداعیات خیار المقاومة, وبخاصة التجربة اللبنانیة, حالة الشلل التی سادت العالم العربی, أقلّه منذ اتفاقیة کامب دافید بین مصر واسرائیل, وأعادت الحیاة, وعززت الأمل, لدى الطامحین الى استعادة الحقّ العربی فی فلسطین, والراغبین فی مستقبل عربی هو من صنع الانسان العربی ولمصلحته.
خیار المقاومة وتداعیات التجربة اللبنانیة أظهرت هزالة وعبثیة موقف دعاة المسار السلمی برعایة أمیرکیة ورضى اسرائیلی, وعزّز الموقف الذی اتخذته الدول والمنظمات الداعمة لخیار المقاومة عربیّا واقلیمیا.
  مناصرة دمشق, مثلا,  لخیار المقاومة فی لبنان وفی فلسطین, حتّى ابّان الحصار الذی فرضته الادارة الامیرکیة الأشدّ شراسة, وأصدقاء لها فی المنطقة, على سوریا وتهدید نظامها, عزّزت الموقف السوری وزادته مناعة وقدرة على الصمود ووضعت النظام السوری فی طلیعة الأنظمة العربیة المدافعة عن الحقوق العربیة, القومیة والسیاسیة. فعلى الصعید الشعبی احتلّ الرئیس السوری المرتبة الأولى بین الحکّام العرب تقدیرا واحتراما حسب دراسة میدانیة قامت بها جامعة مریلاند بالتعاون مع مؤسسة زغبی الدولیة عام 2008 فی ست من کبریات الدول العربیة بما فیها مصر والمملکة العربیة السعودیة والمغرب, بینما لم تزل شعبیة السید حسن نصرالله فی طلیعة الزعماء العرب جمیعا, رسمیین وغیر رسمیین, بموجب الدراسة نفسها.
ولم یکن للموقف السوری فی نصرة المقاومة ای انعکاس سلبی على الاقتصاد السوری. فالدراسات المتخصصة بهذا الشأن تشیرالى حالة من النمو المضطرد وزیادة فی اقبال الاستثمارات الأجنبیة فی السنوات الثلاث القادمة (*).
وعلى الصعید الاقلیمی حدثت تطوّرات عدّة تعکس تعاطفا مع الموقف المقاوم لعلّ أهمّها الموقف الترکی وتعاضده مع الموقف السوری فی مقاومة الظلم. تأیید خیار المقاومة لرفع الظلم یتمتّع بطبیعته بقوّة معنویة وامتیاز خلقی یعزّز کثیرا من مکانة صاحبه بقطع النظر عن الولاءات والروابط السیاسیة أو الاجتماعیة. فی المقابل, المواقف التی تظهر للناس بانّها مسهّلة ان لم تکن متواطئة مع المعتدی المحتلّ فی عدوانه واحتلاله, مکلفة جدّا من الوجهة المعنویة على الأقلّ,  وتتکیّف کلفتها حسب المتوقّع من صاحبها. هنا, وعلى سبیل المثال, سوف أترک للقارئ الحکم فی المردود المعنوی على مواقف کلّ من الحکم المصری والترکی والأمیرکی من العدوان الاسرائییلی على غزّة واستمرارالحصار علیها.
لعلّ أهمّ تداعیات خیار المقاومة وممارسته بنجاح ومثابرة, هی فی انتشاره کخطاب بدیل لحالة الارباک والجمود التی أصابت الموقف العربی فی الصراع العربی الاسرائیلی. فثقافة الهزیمة والاستسلام للأمر الواقع التی کانت سائدة حتّى العام 2000 وربما العام 2006 فی المجتمع العربی بدأت تتصدّع وبدأ یحلّ محلّها لدى بعض النخب العربیة الثقة بالنفس والشعور بأنّ زمن الهزائم قد ولّى.
وختاما, ولکی لا نترک الانطباع بأنّ فی تبنّی خیار المقاومة وانتشار ثقافتها الطریق لحلّ جمیع الاشکالیات والتغلّب على کافة الصعاب التی یعانی منها المجتمع العربی, یجب أن ندرک أنّ المقاومة لیست مشروعا اصلاحیّا ولا یجوز توقّع ذلک منها. وهی لیست بدیلا عن خطاب عربی دیمقراطی مستنیر یکون أساسا لنهضة عربیة تفجّر فی الانسان العربی جمیع طاقاته الخلاّقة وتوظف الثروات الطبیعیة والبشریة فی مؤسسات تعزّ الانسان العربی ومن خلاله وبه تستعید حیاة ودورا فی قیادة الرکب الحضاری العالمی.
ن/25


| رمز الموضوع: 142975







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)