لماذا قلق العرب من إیران
منذ زیارة بوش المتعددة المحطات للمنطقة وحتى بعد تحطیم الحدود الفاصلة بین غزة ومصر، عاد السؤال الإیرانی من جدید إلى ساحة الجدل العربی السیاسی، الرسمی منه وغیر الرسمی. و تبدو إیران حالیاً وکأنها أصبحت شأناً عربیاً داخلیاً، تماماً کما أن الولایات المتحدة هی شأن عربی داخلی بامتیاز.
جاءت زیارة بوش بعد أسابیع من نشر تقدیر المؤسسات الاستخباریة الامریکیة الذی أشار إلى أن إیران قد أوقفت المساق العسکری لبرنامجها النووی منذ 2003. ولم یکن خافیاً أن التقریر فاجأ کافة الأطراف المعنیة بالملف النووی الإیرانی: الأوروبیون، والإسرائیلیون، والجناح الذی یقوده نائب الرئیس الامریکی تشینی بشکل خاص. إن کانت الإدارة الامریکیة قررت توجیه ضربة عسکریة لإیران، فقد جعل التقریر الاستخباراتی تسویغ الحرب من الصعوبة بمکان. من جهة أخرى، یوحی التقریر بأن من قرر إیقاف المساق العسکری النووی یمکنه استئنافه من جدید، وهو ما یجعل استبعاد الضربة الامریکیة (أو الإسرائیلیة البدیلة) تقدیراً غیر حکیم.
لکن الواضح، على أیة حال، أن التقریر فرض تغییراً فی المقاربة الامریکیة للمسألة الإیرانیة؛ فبعد أن کانت سیاسة واشنطن تتجه نحو التحضیر لضربة عسکریة لإیران، أصبحت هذه السیاسة تعمل على فرض عقوبات اقتصادیة ومالیة متنوعة، إضافة إلى عزلة تدریجیة، وعلى التهدید المستمر باللجوء إلى الخیار العسکری. التعاون العربی فی فرض العقوبات وعزل إیران کانا الهدف الرئیسی لجولة بوش. ولکن العرب یخشون التصعید مع إیران و یخشون امریکا إذا ما التزموا الصمت عن براماج ایران النووی .
واشنطن، هی الطرف الرئیسی فی کل ما یخص الملف الإیرانی، ویتعلق العامل الإیرانی فی الأزمة اللبنانیة بالتحالف الوثیق بین دمشق وطهران، من ناحیة، والارتباط الدینی والسیاسی بین حزب الله وإیران؛ بحیث باتت الاتهامات الموجهة للدور السوری فی الأزمة اللبنانیة هی فی الآن نفسه الموجهة لإیران.
وإلى جانب الملف النووی وأوضاع العراق ولبنان، یعتقد بعض العرب، على الأقل، أن نفوذ إیران فی الساحة الفلسطینیة یزداد اتساعاً، وأن هذا النفوذ یمس مصالح عربیة تقلیدیة. علاقة الجمهوریة الإسلامیة بالقضیة الفلسطینیة هی بالطبع لیست شأناً طارئاً، بل تعود فی جذورها إلى خطاب الامام الخمینی "رض " السیاسی منذ تبلوره فی الستینات. ولکن تطورات الساحة الفلسطینیة منذ اندلاع الانتفاضة الثانیة فی خریف 2000 عززت من علاقات طهران بکافة القوی الفلسطینیة المعارضة للتسویة، لاسیما حرکتی حماس والجهاد الإسلامیتین. وقد وجدت حکومة حماس، منذ انتصار الحرکة فی الانتخابات الفلسطینیة قبل عامین، دعماً ملموساً من طهران. ولکن حالة الحصار التی فرضتها الولایات المتحدة والاتحاد الأوروبی على حکومة حماس، والتی أصبحت أکثر حدة ووطأة بعد سیطرة حماس على قطاع غزة فی الصیف الماضی، فتحت لإیران مجالاً أوسع فی الساحة الفلسطینیة.
القضیة الفلسطینیة هی، بالطبع، قضیة العرب و المسلمین الکبری منذ ما قبل النکبة، وتحول إیران إلى طرف رئیسی فی التوازنات السیاسیة الفلسطینیة یثیر ردود فعل عربیة حادة، بغض النظر عن الطرف الذی تؤیده طهران. وعندما تکون دمشق، حلیفة طهران العربیة، مقراً للقیادات الفلسطینیة المناهضة للتسویة، یجد بعض العرب مسوغاً فی تصور وجود محور من حماس، حزب الله، دمشق، وطهران، یظن العرب المعتدلین أنه یواجه مصالحهم . ولکن هذه الدول لم تسأل نفسها لماذا ترکت الفلسطینیین منفردین فی مواجهة الحصار الإسرائیلی - الامریکی الخانق.
هذه هی مجمل عناصر التوتر والقلق فی العلاقة العربیة - الإیرانیة، أو هی مجمل العناصر الأکثر أهمیة فی فضاء هذه العلاقات. ولکن الصورة التی تنسجها هذه العناصر تمکن رؤیتها من عدة زوایا نظر ولیس من زاویة واحدة فحسب. إیران بالتأکید دولة رئیسیة فی المشرق العربی ـ الإسلامی، وایران کانت منطقة ارتکاز، فی مطلع القرن السادس عشر المیلادی. ومن الصعب تجاهل إیران، ولکن العالم تغیر کثیراً منذ النصف الثانی للقرن التاسع عشر وفقدان المسلمین ثقلهم الدولی، وأصبحت شؤون العالم تقرر فی لندن وباریس وواشنطن، ولیس فی اسطنبول وأصفهان ودلهی.
النظام فی ایران له سمة عقلانیة ، لا یرتبط فیها القرار السیاسی بأسرة حاکمة، بمصالح شخصیة فجة، أو بمزاج وعواطف لحظیة، بل بمؤسسات وأطر مرجعیة، و واقعیة ، ووعی جمعی بالمجال الجیوبولیتکی والمیراث الثقافی.
إن ما یجعل أداء إیران أکثر کفاءة ونفوذها أکثر تأثیراً وفعالیة هو مجمل السمات التی تمیز بنیة الدولة الإیرانیة والطابع الدینامیکی لسیاساتها الخارجیة وأنماط توظیفها للأدوات المتاحة لها. و یعتقد بعض الخبراء ان الدول العربیة الرئیسیة التی تستشعر القلق من اتساع نطاق النفوذ الإیرانی ومن القوة الإیرانیة المتصاعدة، غیر دیمقراطیة، و أقل عقلانیة، و تمیل إلی بناء سیاساتها على وهم التمسک بالأمر الواقع وتفاجأ عادة بالطابع الدینامیکی التدافعی للأوضاع الإقلیمیة والدولیة، وهی عاجزة عن توظیف الأدوات المتاحة لها. فی مثل هذه الحالة یصبح القلق العربی من النفوذ الإیرانی غیر مسوغ، لأن قلقاً أکبر لابد أن ینتاب الدول العربیة، القلق من إخفاقها الذاتی فی التصرف کدول حدیثة تعی مصالحها القومیة وتعمل على راستها.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS