السبت 12 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

من وحدة الدول إلى محاولات تفکیک الأوطان!

کتب الدکتور صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن :

خمسة عقود مضت على أول تجربة وحدویة عربیة فی التاریخ العربی المعاصر. ففی 22 شباط/فبرایر من العام 1958 ولدت "الجمهوریة العربیة المتحدة بین مصر وسوریا بقیادة جمال عبد الناصر، بعد استفتاء شعبی بین البلدین أقرَّ صیغة إعلان الدولة الاتحادیة العربیة الجدیدة.

دولة الوحدة عام 1958 لم تکن حصیلة ضمٍّ قسری أو غزوٍ عسکری، أو طغیان جغرافی من دولة عربیة على دولة أخرى عربیة مجاورة.  کذلک لم تکن دولة الوحدة نتیجة انقلاب عسکری فی سوریا، ولا بسبب وجود حزب سیاسی "ناصری" فیها قام بالضغط لتحقیق الوحدة مع مصر عبد الناصر.

أیضاً، لم تکن وحدة مصر وسوریا بناءً على رغبةٍ أو طلبٍ من القاهرة جرى التجاوب معه من دمشق، بل کانت حالة معاکسة حیث کانت القیادة السوریة برئاسة شکری القوتلی (والتی وصلت للحکم فی سوریا نتیجة انتخابات شعبیة) هی التی تلحّ فی طلب الوحدة مع مصر بناءً على ضغوط شعبیة سوریة.

إذن، أین کان مکمن المشکلة فی هذه التجربة الوحدویة العربیة الفریدة، ولِمَ تعثّرت وحدث الانفصال بعد أقل من ثلاث سنوات؟

حتماً لم تکن المشکلة فی المنطلقات والغایات، بل کانت فی الأسالیب التی اتّبعت خلال تجربة الوحدة. فکل عمل إنسانی ناجح (على مستوى الأفراد والجماعات) یشترط تکاملاً سلیماً بین "المنطلق والغایة والأسلوب"، وهذا ما لم یحدث فی تجربة الوحدة بین مصر وسوریا، إذ أنّ المنطلق کان سلیماً حیث حصلت الوحدة بإجماع شعبی فی البلدین وبضغط شدید من الجانب السوری. کذلک کانت الغایة سلیمة فی کل أبعادها، لکن العطب کان فی الأسالیب التی استخدمت من أجل تحقیق الوحدة وفی سیاق تطبیقها. فالوحدة الاندماجیة الفوریة بین بلدین لا تجمعهما أصلاً حدود مشترکة، وبینهما تباینات فی البنى الاجتماعیة والاقتصادیة والتجارب السیاسیة، کانت خطأ ساعد على نموّ المشاعر السلبیة بعد تطبیق الوحدة. أیضاً، وهذا هو الأهم، فإنّ إدارة الإقلیم الشمالی (سوریا) کانت خاضعة لسلطة حاکم مصری (المشیر عبد الحکیم عامر) الذی کانت أولویاته وأسالیبه الأمنیة والسیاسیة عناصر غیر مشجّعة على الاندماج المطلوب بین الشعبین آنذاک.

فلو لم یکن هناک مناخ سلبی لدى الشعب السوری حصیلة ممارسات "الحاکم المصری" خلال تجربة الوحدة، لما نجح الانفصالیون السوریون فی انقلابهم، ولخرج الشعب السوری إلى الشوارع لإحباط مؤامرة الانفصال.

لقد کان ذلک درساً قاسیاً لجمال عبد الناصر، وقد امتنع عن استخدام القوة العسکریة للحفاظ على تجربة الوحدة رغم أنّ ذلک کان متاحاً من الناحیة القانونیة وممکناً عسکریاً. لکن ناصر اختار أن تبقى سوریا واحدة على أن تبقى سوریا فی الجمهوریة العربیة المتحدة. فقد أدرک أنّ تدخّله ضدّ الانفصالیین سیؤدّی إلى حرب أهلیة سوریة إضافةً إلى صراع دموی سوری/مصری فی کل الأحوال. وقد قال آنذاک: "لیس المهم أن تبقى الجمهوریة المتحدة بل المهم أن تبقى سوریا".

هذا القیادی العربی التاریخی اختار الهزیمة السیاسیة لمشروع وحدوی مهم، وله شخصیاً، من أجل الحفاظ على وحدة بلد عربی آخر، ولصیانة تجربة الوحدة من حرب أهلیة، ولمنع إراقة الدم العربی حتى من أجل غایة عربیة نبیلة.

طبعاً، لم یحدث الانفصال فقط نتیجة عوامل داخلیة وسلبیات أسالیب التجربة، بل کان أساساً بتحریض خارجی وبدعم کبیر من القوى الدولیة الکبرى التی کانت تتصارع فیما بینها بین کتلة شرقیة وأخرى غربیة، لکنها اتفقت على محاربة "الجمهوریة العربیة المتحدة" ولأسباب مختلفة فیما بینها.

والملفت للانتباه أنّ قمّتی القطبین الشیوعی والرأسمالی آنذاک (موسکو وواشنطن) وقفتا ضدّ تجربة الوحدة بین مصر وسوریا، بینما قامت بلادهما أصلاً على "الاتحاد (الاتحاد السوفییتی والولایات المتحدة الأمیرکیة)، وتاریخهما قام على المواجهات العسکریة مع حرکات انفصالیة داخلیة کانت لها جذور شعبیة واسعة ولیس مجرّد حرکات سیاسیة أو انقلاب عسکری کما حصل فی انفصال الإقلیم الشمالی السوری عن الجمهوریة المتحدة.

جمال عبد الناصر استفاد کثیراً من تجربة الوحدة، لذلک رفض بعد سنوات قلیلة من محنة الانفصال أن یکرّر التجربة دون تمهید سلیم لها. فلم تحمله العاطفة القومیة، ولا المصلحة السیاسیة الشخصیة، على القبول بإعلان الوحدة بین مصر وسوریا والعراق عام 1963 بعد أن استولى حزب البعث على السلطة فی دمشق، وخاض ناصر محادثات فکریة وسیاسیة عمیقة مع قادة سوریا والعراق أکّد خلالها على أهمّیة توفّر العناصر اللازمة للوحدة قبل الشروع بتحقیقها.

وهذا ما فعله ناصر أیضاً مع حکومتیْ لیبیا والسودان عام 1969 حیث رفض الوحدة الاندماجیة مع هذین البلدین رغم العوامل الکثیرة التی کانت تجمع بین مصر ولیبیا والسودان، واکتفى ناصر بإعلان "میثاق طرابلس" الذی نصّ على مراحل عدیدة قبل الوصول إلى حال الاتحاد الشامل.

وشاء القدر أن ینتقل ناصر إلى رحمة الله تعالى فی 28 سبتمبر (أیلول) من العام 1970، وفی الذکرى التاسعة للانفصال الذی حدث یوم 28 سبتمبر عام 1961، وبعد جهد کبیر لوقف الصراع الأردنی الفلسطینی، ومن أجل الحفاظ على التضامن العربی الذی أعطاه ناصر أولویة قصوى عقب حرب العام 1967.

***

ما أهمّیة التوقّف الآن عند ذکرى تجربة الوحدة بین مصر وسوریا قبل نصف قرن؟

الإجابة یفصح عنها واقع الحال العربی الراهن الذی لا یقوم فقط على صراعات بین حکومات بل على تفسّخ أیضاً فی وحدة الأوطان، وعلى محاولات إقلیمیة ودولیة فی جعل الحدود بین العرب قائمة على الدم الأحمر ولیس فقط على ذاک الحبر الأسود الذی وضع خرائط حدود هذه الأمّة منذ حوالی قرن من الزمن.

کانت حقبة الخمسینات من القرن الماضی حقبة تحرّر وطنی وقومی ودعوة لتوحّد أقطار وشعوب الأمّة الواحدة. الحقبة الآن، هی حقبة الهیمنة الأجنبیة والتشرذم الداخلی لصالح الطامعین بهذه الأمّة.

وإذا کانت جریمة الانفصال التی حدثت عام 1961، وهی کانت جریمة سیاسیة بحقّ الأمّة ومستقبلها، وکانت أیضاً عاملاً مساعداً على حدوث هزیمة حرب عام 1967، قد حصلت نتیجة خطایا الأسالیب فقط رغم حسن المنطلقات والغایات، فکیف سیکون الحال وحجم الجرائم إذا کانت المشاکل قائمة فی الأسالیب والغایات والمنطلقات؟ وکیف إذا لم یقتصر العطب فقط على المؤسسات، بل طال أیضاً الفکر والقیادات؟

ن/25

 

 


| رمز الموضوع: 139434







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. أسير إسرائيلي: إذا أردتم أن تعرفوا عدد الأسرى إسألوا سارة نتنياهو
  2. إصابة 9 جنود إسرائيليين بينهم نائب قائد فرقة وقائد كتيبة في الشجاعية بغزة
  3. في إطار جمعات الغضب.. مدن إيرانية تنظم وقفات تضامنية مع غزة
  4. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  5. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  6. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  7. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  8. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  9. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  10. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  11. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  12. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)