لهذه الأسباب قدمت استقالتی من الحکومة الفلسطینیة

فقد کان قبولی بمنصب وزیر وکأنه یحمل فی طیاته حالة من التناقض بین القول والممارسة، بین الموقف والموقع. وبالفعل تعرضت لانتقادات وعتب من کثیر من الأصدقاء من فلسطین ومن خارجها لقبولی المنصب، وتفهمت موقف أصدقاء وتفهم بعضهم موقفی، ولو کانت الظروف غیر الظروف لاعتذرت عن قبول العرض لأنی کنت منسجما وراضیا عن نفسی وعملی الفکری والأکادیمی، ولکن کان یقلقنی المصیر الذی آل إلیه المشروع الوطنی، مشروع الاستقلال والدولة، المشروع الوطنی الذی لم ننجز منه شیئا، بل أصیب بمقتل فی أکثر من جانب من جوانبه، ذلک أنه بعیدا عن أوهام: سلطة وحکومة ومجلس تشریعی و وزارات ومؤسسات، والتی أصبحنا أسرى لها ولاستحقاقاتها الوظیفیة ومغریاتها المالیة... بدلا من أن تکون هذه المؤسسات أدوات فی معرکة التحریر، وبعیدا عن ملهاة الانتخابات والصراع على السلطة والمعابر والرواتب، حتی قضیة الأسری أصبحت قضیة رواتب وکانتینا... بعیدا عن هذه الملهیات والمنزلقات المقصودة فإن الواقع یقول بأن الاحتلال ما زال جاثما على کل الوطن بل تتم عملیة شرعنة وتجمیل بعض أشکال وجوده.
ما دفعنی لقبول المنصب فی حینه هو معایشتی لأحداث الانقلاب الذی أقدمت علیه حرکة حماس وقبل ذلک متابعتی لنهجها السیاسی وممارساتها علی الأرض والذی کان یشیر إلى انزلاق حماس بوعی أو بدون وعی نحو مخطط لتدمیر المشروع الوطنی، فالانقلاب کان تتویجا أو مرحلة من مخطط لتدمیر المشروع الوطنی بفصل غزة عن الضفة تمهیدا لوصایة بمفاهیم وتخریجات جدیدة ونقل ساحة الصراع بل تغییر طبیعة الصراع، من صراع مع العدو المحتل، لصراع فلسطینی داخلی حول مَن یحکم غزة التی یسعی المخططون لأن تکون هی الدولة الفلسطینیة التی یتحدثون عنها، لیتفرغ العدو لاستیطان ما تبقی من القدس والضفة. لذا کنت فی حالة یتوجب فیها تحدید موقف، إما الانحیاز للمشروع الوطنی الذی عنوانه الرئیس أبو مازن حیث القول الواضح بالتمسک بالثوابت وبوحدة شطری الوطن، أو رفض المشارکة بحکومة فیاض وبالتالی الانحیاز لحکومة الأمر الواقع فی غزة التی لم المس یوما أنها تجسد مشروعا وطنیا أو لدیها رؤیة سیاسیة واستراتیجیة واضحة للصراع مع العدو. حتى الوقوف موقف الحیاد من الطرفین کان بمثابة الانحیاز للأمر الواقع الذی فرضته حرکة حماس.
وعلیه کان قبولی بالمشارکة بحکومة الدکتور فیاض نوعا من المراهنة أو الأمل أنها مرحلة انتقالیة لن تدوم أکثر من شهرین أو ثلاثة وتعود الأمور مجددا لحکومة وحدة وطنیة، حکومة کل الوطن وکل الشعب، بالرغم من شکوک قویة عبرت عنها فی أکثر من مقال وفضائیة بأن ما جرى فی غزة هو مخطط والفلسطینیون المشارکون فیه مجرد لاعبین صغار فیه لعبوا أدوارا عن جهل من البعض وتواطؤ من البعض الآخر. ولکن فی المنعطفات المصیریة الحرجة یجب التشبث بأی أمل ولو کان واهیا.
انطلاقا من ذلک، مارست عملی منذ منتصف تموز /یولیو کوزیر للثقافة، بنیة صادقة بأن اخدم المشروع الوطنی وأساعد علی استنهاض الحالة الثقافیة إیمانا منی بأن ما جرى لمشروعنا الوطنی هو اختراق لثقافتنا الوطنیة ولیس مجرد اختراق أمنی أو سیاسی فلو کانت ثقافتنا الوطنیة محصنة لما جرى ما جرى ، أیضا کنت أراهن بأنه من الممکن أن نصلح بالثقافة ما تفسده السیاسة.. إلا أن الأمور جرت عکس ما کنا نتمنی، فالانشقاق والفصل یُکرس یوما بعد یوم والتحریض المقیت یتعاظم ومفهوم العدو یتبدل من خارجی لداخلی، والحکومة تُسیر الأعمال دون استراتیجیة عمل وطنی وأهلنا فی القطاع یعانون الأمرین: إرهاب وحصار وتجویع على ید الاحتلال، وقمع للحریات على ید سلطة الأمر الواقع، والعدوان الإسرائیلی یحصد کل یوم عدید الشهداء فی القطاع ویحصد مزیدا من الأرض والکرامة الوطنیة بالاستیطان المتواصل فی الضفة الغربیة وخصوصا بالقدس ـ وهنا یجب التحذیر بأن ما یجری بالقدس والضفة أکثر خطورة مما یجری بغزة، وکأنه مقصود تسخین وتوتیر المشهد فی القطاع لإخفاء الممارسات الاستیطانیة والأمنیة فی الضفة، وآفاق التسویة المشرفة تبدو أبعد منالا، وعلى مستوى وزارة الثقافة فلا توجد موازنات والقلیل المتاح لا یساعد بالمطلق على استنهاض الحالة الثقافیة وتعزیز الثقافة الوطنیة التی هی الیوم مهددة بالتلاشی أو التشویه، هذا بالإضافة إلى أن الثقافة الوطنیة بشکل عام لیست على سلم اهتمامات السلطة والحکومة وکأنه أمر مقصود تحویل الشعب لمجرد جموع بشریة تُختزل طموحاتها بالمأکل والمشرب ومتطلبات الحیاة الیومیة دون ناظم یحفظ لها هویتها وانتماءها وهو الثقافة الوطنیة.
لکل ذلک وحیث لا أستطیع أن أکون متفرجا على عملیة تقسیم ما کان مفترض أن یکون أرض الوطن المستقل، وعلی عذابات أهلنا فی القطاع وعلى ما یجری بالضفة، وبالتالی غیر قادر على الوفاء بقسم الولاء الذی أقسمته عند تولی المسؤولیة، وهو قسم ولاء للوطن وللمشروع الوطنی، قررت تقدیم الاستقالة من الحکومة الفلسطینیة الثانیة عشرة التی یترأسها الدکتور سلام فیاض. وبالفعل قدمت استقالتی للرئیس ولرئیس الوزراء یوم الخمیس الموافق للسابع من شباط /فبرایر 2008، کصرخة احتجاج على الوضع العام وعلى العبثیة التی تحکم نهج من یقولون بالمقاومة ولکن یمارسونها بعیدا عن شروط ومتطلبات المقاومة الوطنیة الحقیقیة، وعبثیة المفاوضات فی ظل السیاسة الإسرائیلیة الراهنة، وفی کلا الحالتین هی عبثیة مدمرة للمشروع الوطنی.
( المقال للدکتور إبراهیم ابراش وزیر الثقافة الفلسطینی السابق )
ن/25