غزة.. "شرعنة" الإرهاب وتجریم المقاومة
لا یحتاج المشهد البالغ فی التأثیر للشرح وفقًا للوجدان الإنسانی المجرد فضلاً عن مبادئ الوحدة التضامنیة الطبیعیة بین الأمة الإسلامیة أو مفاهیم الحسّ الإنسانی الأولى للعدالة، إنه مشهد الطفل محمد البرعی ذی الخمسة أشهر الذی دکَّت المقاتلات الإسرائیلیة سقف منزله علیه فأردته شهیدًا وبعد استشهاده وقبل استشهاده بساعات کان هناک ثلة من الصبیة الذین اغتالتهم هذه المقاتلات وهم یلعبون الکرة فی أحیاء غزة ومع هذه الکوکبة من الشهداء الأطفال سقط فی مواجهة مباشرة مع الاحتلال أو استهدافًا لمواقعهم خلال تنقلاتهم مجموعة من قیادات ومجاهدی کتائب الشهید عز الدین قسّام ومنهم نجل الدکتور خلیل الحیة أحد قیادات حرکة حماس.
هذا المشهد جاء مجددًا متزامنًا مع حملات التحریض المنظمة التی تطلقها سلطة رام الله دوریًا ضدّ قطاع غزة وکأنما هذا القطاع لم یُخرج من العمق الفلسطینی وحسب، بل ونُزع من السیاق التاریخی والعلاقة الإنسانیة للأرض العربیة بناءً على ما تعنیه تصریحات وکلاء تل أبیب فی رام الله وهو ما ساعد حکومة أولمرت الصهیونیة وحلفائها فی واشنطن على تکریس أکاذیبهم فی ساحة الإعلام الدولی والذی تردّده بعض وسائل الإعلام العربیة للأسف الشدید حیث تُجرم المقاومة المشروعة وهی هنا تقدم أکبر دلیل على مشروعیتها حین تقاوم هذه الثلة من الصهاینة التی تستهدف الطفلة والمرأة والشجر والحجر لشعب لیس له ذنب سوى أنه یرفض هذا الاحتلال الغاصب ویدعم المقاومة، هذه الصورة المعکوسة التی یروج لها إعلام تل أبیب والإعلام العربی المتضامن معه أضحت فی موقع عرّاها بالکلیة أمام الشهید محمد البرعی ذی الخمسة أشهر.
لکن هذا المشهد الدموی وتتابع الجرائم الصهیونیة لا یمکن أن یُفرز خارج سیاق الإعدادات الأولیة لهذا المشهد والذی تورط فیها النظام الرسمی العربی حتى درجة التغوّل حین مارس سیاسیًا ومیدانیًا وإنسانیًا مواقف تدعم حصار غزة والقطیعة مع حکومتها مما جعل هذه الرسائل الغادرة لموقف الصمود فی غزة تدفع العدو الصهیونی وحلیفه الرئیسی واشنطن إلى تعزیز وتوسیع جرائم الحرب الإرهابیة المرتکبة ضد القطاع.
هذه الضراوة المتتابعة فی عنف الحرب الإرهابیة التی تُشنّ على شعب غزة تعکس مدى الفزع الذی یشعر به الإسرائیلیون من جرّاء قدرة الصمود التاریخیة التی تنتقل بها حماس وشعب غزة من دور إلى دور مکرسة قضیة لیست مستغربة فی تاریخ المقاومة الإنسانی وإن کانت حالة فریدة فی فلسطین لکثافة الحصار وقوته وتوافق الاستهداف المرکزی العالمی ضد قضیة فلسطین، فاستمرار هذا الصمود أصبح یهدم تلقائیًا وتدریجیًا ثقافة مختلفة سعت الولایات المتحدة بمشارکة بعض الأطراف من النظام الرسمی العربی على ترسیخها فی المجتمع العربی عمومًا والفلسطینی خصوصًا تتبنى نظریة واحدة وهی أن الاستسلام هو الطریق الوحید لخلاص الشعب الفلسطینی.
ومما یدلّل على عبثیة تصریحات رام الله و تضلیلاتها الإعلامیة فی هذا الشأن هو أن هذه الأعمال الإجرامیة تتزامن أیضًا مع جولات من المفاوضات تکشف للشعب الفلسطینی عیانًا بأنها أوهام یبشر بها مستشارو عباس فی حین أنها مادة إعلامیة تحقق لتل أبیب تغطیة خبریة لإشغال الرأی العام عن نهر الشهداء الجاری فی غزة ومما یدلّل فشل هذا الفریق وتورطه المباشر فی حملة تلّ أبیب استهداف شهداء نابلس وهم من کتائب شهداء الأقصى وکتائب أبو علی مصطفى حیث تمَّ استهدافهم وهم من ضمن المجموعات المؤمنة فی برنامج عباس وتل أبیب.
ومما لا شک فیه بأن حجم المصابرة والتجاوز وضبط الخطاب والموقف السیاسی العقلانی الراشد الذی تنتهجه حماس مع کل هذه الأجواء المحمومة من العداء والتشجیع الضمنی على أبناء الشعب الفلسطینی من بعض الأطراف العربیة ورسائل هذا النظام الرسمی العربی التی شجعت على تفاقم هذه الحالة إلا أن حماس استطاعت رغم کل هذا الحشد المنسَّق ضدّها وضد الشعب الفلسطینی من تحقیق تقدم على الأرض فی التواصل مع القوى الحیة من أبناء الشعب العربی وفسح المجال لها للتواصل المباشر والدعم الإغاثی الإنسانی لشعبنا فی فلسطین.
وهذا لا یعنی بأن ما تحقق من تواصل ودعم یُغطی الحدّ الأدنى بل ینقص عنه کثیرًا ولکن هذه المنهجیة فی الخطاب والتوازن وعفة اللسان والضغط على الجراح المکلومة و المغدور بها من أطرف سیاسیة عربیة جعلت حماس تتقدم على صعید التضامن العربی وجمع الشمل فی مهمة تاریخیة أنجزتها حماس منذ الثانی من أغسطس 1990 حین غزا العراق الکویت وانشق الصف العربی فلقد رأینا کیف احتضن الغزیون لجان التطوع والشخصیات الإغاثیة من دولة الکویت وباقی الخلیج وکیف عمَّت ثقافة التضامن وروح الأخوة وتجسَّدت بین شعب غزة وکل فلسطین وأهلهم فی الخلیج ( الفارسی ) رغم کل محاولات التسعیر والإثارة التی تستهدف حرکة حماس وخاصة إعادة العزف على علاقة حماس بالمحور الإیرانی، ولکن مواقف حماس المتتالیة والصلبة والمتواصلة مع الضمیر العربی والإسلامی بکل أطیافه قطعت الطریق على تلک المؤامرة المتجددة التی انهارت أمام المشهد الساطع الذی لا غبش فیه بأن حماس لیست مع هذا المحور ولا ذاک المحور وإنما هی مع محور الشعب العربی وقبلته الإسلامیة.
ولعلّ من أهم الدلائل التی أحرجت وعرّت سلطة رام الله وفضحت حملة الإعلام التی وجهتها بعض الأطراف السیاسیة العربیة إلى غزة بعد معرکة العبور هی الإعلان الضمنی لمجموعة من خلایا فتح المؤطرة وفق التفاهم الأمنی بین سلطة عباس وتل أبیب والتی لا تمثل مجاهدی المقاومة من خط فتح الأصیل حین أعلنت عن احتضانها للمجموعة التی اعترفت بمحاولة اغتیال إسماعیل هنیة رئیس الوزراء وعدد من قیادات الحرکة وبعض الحجاج خلال الحفل التی أقامته حرکة حماس لاستقبالهم بعد منعهم من العودة مدة من الزمن فی رجوعهم من الحج، لقد کان هذا الاعتراف متزامنًا بصورة دقیقة مع التخطیط لاغتیال خالد مشعل وقیادات حماس فی الخارج على ید المخابرات الإسرائیلیة.
اکتشاف هذه المخططات والجرائم التنفیذیة على الأرض فضح هذه المرة الوجه الحقیقی لمنهجیة رام الله فی التنسیق الأمنی وتبنی برنامج الاغتیال والمحاصرة لشعب غزة وحکومة إسماعیل هنیة وفی المقابل أعطى دلیلاً جدیدًا قاطعًا على مستوى ونظافة ومسئولیة مواقف حرکة حماس وحکومتها مما جعل محمود عباس یحاول الهروب من هذه الحقائق الخطیرة بقبول مبادرة الرئیس علی عبد الله صالح للحوار غیر أنه ضمنها شرطًا یلغی وجودها کلیةً حتى یکون ذلک مبررًا لسلطة رام الله فی رفض الحوار، فیما کانت حماس وبصورة واضحة وجلیة ومن غیر شروط تعرض على الأطراف العربیة الرئیسیة استعدادها لحوار موضوعی یعزز الوحدة الفلسطینیة واقعًا على الأرض ولیس صفقة زمنیة یمرر من خلالها العدو برنامجه الأمنی الجدید على الشعب الفلسطینی.
ولقد حافظت حرکة حماس أمام کل هذه الضغوط والاستفزازات على قدر کبیر من عفة اللسان وسلامة الخطاب واحترام کل الأطراف العربیة والتعاطی معها بروح عربیة مجردة ومسئولة ومن هذه الدلائل التی یجب الوقوف عندها هو بیان الأستاذ أسامة حمدان ممثل الحرکة فی لبنان حین عملت بعض الشخصیات الفتحاویة فی لبنان على تضلیل الرأی العام بشان موقف حماس من الشعب الکویتی ، فخرج بیان حماس واضحًا وجلیًا رغم أن هذا المکتب فی لبنان ومعروف حجم التقاطعات والضغوط التی تعیشها الحرکة فی لبنان غیر أن هذه المنهجیة الرائدة والراشدة والتی فی تقدیری لم تتمثل سابقًا فی أی فصیل فلسطینی کما تمثلت فی حماس ومسئولیتها الکبرى فی تحمل الخطاب العربی المضطرب حین یتداخل مع بعض المشاریع الأمنیة فتنجح حماس کما هو الحال فی کل مرة من سحب فتیل هذه الفتن المتتالیة التی یزرعها أولئک الموتورون أو الموظفون لمشاریع تلّ أبیب الکبرى. فی المقابل رأى الناس وبالذات الشعب العربی فی الخلیج سعی بعض الأطراف والشخصیات المحسوبة على رام الله لمنع حرکة الإغاثة والتدفق الإنسانی التی کانت تصل إلى غزة وإثارة الإشاعات المغرضة علیها وما ذاک إلا دلیل على حجم الأخلاقیات التی یتمتع بها أولئک القوم حتى فی هذه القضایا الإنسانیة الحساسة.
ورغم کل هذه الحروب ولیست الحرب الواحدة التی تشنّ على هذا القطاع فی مدة زمنیة قصیرة نفّذ خلالها العدو معارک عدیدة لم تحترم الحدّ الأدنى من المعتقد الإنسانی على الأرض صفق لها رجال واشنطن جهرًا وبعض رجال العرب سرًّا واعترفت أوروبا ببرلمانها الموحد بأحقیة هذا الشعب فی کسر الحصار وإدانة القائمین علیه، والغادرون العرب لم یعترفوا... إلا أن کل هذه الرماح تکسرت عند عزیمة الشعب الفلسطینی وعقیدته المؤمنة ولا نقول ذلک تبریرًا أو تهوینًا لحجم الآم والمعاناة والاستنزاف الکبیر الذی یقدمه شعب غزة ولکننا نسجل للتاریخ حدثًا قلَّ أن یُخلق على الأرض مثله فی الصمود، وإنما المسئولیة مجددًا تتوجه بکل قوة على المجتمع المدنی العربی جماعات وأفراد وخاصة ذوی التوجه الإسلامی بأن یعددوا من مصادر الضغط ومواقع التضامن ومشاریع الإمداد لمن انتصروا لرسول الله بدمائهم فی بیت المقدس وأکناف بیت المقدس وأن لا یترک الشعب وحده تلک هی القضیة.
( المقال لمهنا الحبیل فی موقع الإسلام الیوم )
م/ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS