أنابولیس: مئة یوم من العنف والتعثر

 مئة یوم مرت على التئام لقاء أو مؤتمر أنابولیس للسلام فی الشرق الأوسط. على المستوى الفلسطینی، کانت الحصیلة بائسة، فالمفاوضات تعثرت وتواصلت سیاسة فرض الأمر الواقع فی الضفة الغربیة التی لم تتحسن الأوضاع فیها بشکل جدی لا فى البعد الاقتصادی ولا حتى فی البعد الأمنی. أما فی قطاع غزة فبدا الوضع کارثیا واستغلت إسرائیل مشهد أنابولیس وانطلاق المفاوضات الشکلیة للتنکیل بقطاع غزة وارتکاب جرائم الحرب المتواصلة التی توجت أو تکللت بالمحرقة فی الأسبوع الأول من آذار الجاری.

یجب الانتباه إلى أنه لم یکن من قبیل الصدفة أن یعلن الرئیس الأمیرکی جورج بوش عن لقاء أو مؤتمر أنابولیس للسلام بعد أیام قلیلة من الأحداث والاشتباکات الدامیة التی انتهت بسیطرة «حماس» على غزة. هدف اللقاء أساساً إلى استغلال وتعمیق الانقسام الفلسطینی والاستفراد بالرئیس محمود عباس للتوصل إلى اتفاق سلام معه وفق الشروط الإسرائیلیة. وفی أسوأ الأحوال ـ من وجهة النظر الإسرائیلیة الامیرکیة ـ إبقاؤه بعیداً عن حماس وإبقاء بل وإطالة أمد الانقسام الوطنی الفلسطینی. هَدَفَ اللقاء کذلک إلى فرض شکل من أشکال التطبیع بین الدول العربیة وإسرائیل وتحقیق إنجاز أو نجاح دیبلوماسی للإدارة الامیرکیة الغارقة حتى أذنیها فی الوحول والإخفاقات، بشکل احتفال عقد اللقاء ولم یخرج بأکثر من تحدید موعد لانطلاق المفاوضات النهائیة حیث أصرت إسرائیل حتى على عدم ذکر قضایا الوضع بشکل تفصیلی ومحدد بل طرحت ضرورة الاعتراف الفلسطینی بیهودیة إسرائیل کشرط تعجیزی لینسف المفاوضات أو للمقایضة مع الحقوق الفلسطینیة الأخرى، الشیء الجدی الوحید ربما الذی صدر عن أنابولیس کان الدعوة لمؤتمر المانحین للسلطة والذی عقد فی باریس أواسط کانون أول دیسمبر وخرج بقرارات مهمة تمثلت فی دعم السلطة الفلسطینیة ـ الرئاسة وحکومة رام الله ـ بمبلغ سبع ملیارات دولار ونصف تقریباً، غیر أن هذا الأمر أفرغ من محتواه على مذبح البیروقراطیة وأولاً وأخیراً بسبب التعنت الإسرائیلی والرفض التام لتقدیم أی تنازلات أو تسهیلات ولو تکتیکیة مرحلیة تتعلق بحریة الحرکة للمواطنین والبضائع ورفع الحواجز فی الضفة الغربیة و وقف الحصار وفتح المعابر فی قطاع غزة.

أما بالنسبة للمفاوضات النهائیة والتی تتعلق بقضایا القدس والحدود واللاجئین فقد انطلقت ـ کما تقرر فی أنابولیس بشکل رسمی فی الثامن عشر من کانون أول / دیسمبر غیر أنها حتى الآن وحسب تصریحات لأحمد قریع ویاسر عبد ربه وصائب عریقات لم تتجاوز الإطار التقنی أو الإجرائی والشکلی ولم یتم الخوض فی جوهر الملفات وما زاد الأمر سوءاً التصریحات الإسرائیلیة المتتالیة عن تأجیل قضیة القدس إلى المرحلة الأخیرة من المفاوضات ولیس ذلک فحسب یجری الحدیث إسرائیلیاً کما قال حاییم رامون وآخرون عن التوصل إلى اتفاق إطار أو إعلان مبادئ ولیس عن اتفاق نهائی للصراع یضع حلولاً وجداول زمنیة تفصیلیة لملفات وقضایا الخلاف.

مسیرة المائة یوم من أنابولیس شهدت کذلک زیارة للرئیس الامیرکی جورج بوش الى فلسطین والتى جاءت محض دعائیة ولم تقدم أی زخم أو إضافة جدیة للمفاوضات رغم أنها أظهرت عمق ومدى التحیز الامیرکی للمواقف الإسرائیلیة فالاصرار على الدولة الفلسطینیة مرتبط بالإقرار بیهودیة إسرائیل وشطب حق العودة مع تفهم امیرکی لحساسیة وتعقید قضیة القدس وان لا شیء یحول دون تأجیلها وبالتالی نجد أنفسنا أمام اتفاق مرحلی آخر تحت عنوان الدولة الفلسطینیة المؤقتة على نصف الضفة الغربیة مع تأجیل أو إلغاء عملی للقضایا الحساسة والمصیریة مثل القدس واللاجئین.

فی خلال المائة یوم من مرحلة أنابولیس لم تنجح حکومة السید سلام فیاض فی تغییر الوضع بشکل جذری فی الضفة الغربیة خاصة فی البندین الرئیسین على جدول أعمالها الاقتصاد والأمن فلم تصل المساعدات الموعودة ولم یتم توسیع الخطة الأمنیة لتمتد إلى مدن الضفة الغربیة.

وفی الحالتین، نحن أمام تعنت إسرائیلی ورفض لتقدیم أی شیء لمساعدة السلطة کما قال السید سلام فیاض شخصیاً منذ اسابیع اثناء زیارة له لواشنطن.

فی غزة کان وقع او تأثیر أنابولیس اشد وأسوأ وبدا أن إسرائیل تستغل مشهد أنابولیس وتستثمر المفاوضات مع رئاسة السلطة لتشدید الحصار ضد قطاع غزة حیث شرعت فی تنفیذ قرارها باعتباره کیاناً معادیاً عبر سلسلة من الخطوات التی امتدت من تخفیض کمیات الوقود والکهرباء إلى منع المواد الأساسیة الأخرى وصولاً إلى اتباع سیاسة عسکریة وأمنیة تستفید من الحصار والاغتیالات والتوغلات والاجتیاحات لتحقیق جملة من الأهداف السیاسیة والأمنیة، الحصار للضغط على حماس وحکومتها والدفع نحو مزید من التوترات الأمنیة والاقتصادیة والاجتماعیة، الاغتیالات للتأثیر على المقاومة ومحاولة کسر ظهرها عبر استهداف قادتها وکوادرها الأساسیین والتوغلات لاستنزاف المقاومة واختبار قدراتها فی آن وصولاً إلى المحرقة الأخیرة التی جاءت کرد فعل على العجز عن وقف صواریخ المقاومة وکذلک کرد فعل على کسر الشعب الفلسطینی للحصار وتوجیه ضربة قاصمة لمبدأ العزل والتجویع عبر اقتحام واجتیاح الحدود مع مصر فی خطوة هدفت الى التصویب على السیاسة الإسرائیلیة ولیس النیل من مصر وأمنها القومی وکذلک هدفت المحرقة الأخیرة خاصة ضد الأطفال إلى کسر الروح المعنویة للمقاومة و إلى إرضاء النزعة الدمویة للشارع الإسرائیلی وإلى تأخیر العملیة العسکریة الواسعة قدر الإمکان واعتبار ما یجری الآن هروبا مؤقتا منها على المدى القصیر والتکتیکی و استعدادا لها على المدى الإستراتیجی ولکن بعد استنزاف المقاومة واضعافها. نهایة المائة یوم الأولى من مرحلة أو مسیرة أنابولیس شهدت تحذیرین مهمین تحذیر من انهیار سیاسی فی الضفة الغربیة وانهیار اقتصادی ومعیشى فی قطاع غزة. صحیفة هآرتس نقلت عن مسؤول أوروبی کبیر 28-2-2008 تحذیره من أن الوتیرة البطیئة للاتصالات بین السلطة وإسرائیل وتلکؤ هذه الاخیرة فی تفکیک البؤر الاستیطانیة وتأخر وصول الأموال قد تتسبب فی انهیار قریب للسلطة الفلسطینیة وتحذیر منظمات دولیة عدة من الحالة السیئة فی قطاع غزة، ووصول البنى التحتیة فیه وکذلک الحالة الاقتصادیة إلى حافة الانهیار، یفترض أن یتم استخلاص العبر من التحذیرات والتنبه إلى الاستغلال الفظ والانتهازی من قبل إسرائیل للانقسام الفلسطینی لارتکاب المجازر متعددة الأهداف والمستویات والأبعاد سواء فی الضفة الغربیة وقطاع غزة، لا یمکن مواجهة مرحلة أنابولیس التی قدمت المائة یوم الأولى منها صورة واضحة عن طبیعتها وافاقها المستقبلیة إلا بانهاء الانقسام فوراً وبدلاً من التفاوض حول هدنة شاملة مع إسرائیل ـ على أهمیة ذلک ـ یجب العمل على التوصل إلى هدنة فلسطینیة داخلیة تلحظ العودة إلى حکومة وحدة وطنیة من التکنوقراط وإعطاء الرئیس محمود عباس حریة التفاوض والانشغال بترتیب الأوضاع الاقتصادیة الاجتماعیة سواء فی الضفة أو فی القطاع وإجراء جردة حساب أو تقییم شاملة نهایة العام 2008 لثمانی سنوات من الانتفاضة وسنة من مرحلة ومسیرة أنابولیس لاستخلاص العبر والخروج بالاستنتاجات أو الخلاصات الأساسیة التی ستتمحور حول کیفیة الرد الفلسطینی على تبخر فکرة حل الدولتین والنموذج الأمثل المفروض اتباعه للوصول إلى الحقوق والآمال الوطنیة الفلسطینیة فی مواجهة الابارتهاید والاحتلال الإسرائیلی و فی مواجهة الوصایة أو الوصایات العربیة والدولیة التی تدفع إسرائیل باتجاهها وبتسهیل واضح ولو عن غیر قصد من بعض الأطراف والجهات الفلسطینیة.

( للکاتب الفلسطینی ماجد عزام مدیر مرکز شرق المتوسط للدراسات والإعلام )

  م/25