qodsna.ir qodsna.ir

مؤتمرات القمة أصبحت تجلب المضار أکثر مما تحقق المنافع

 اقترب موعد اجتماع مؤتمر القمة العربی المقرر فی دمشق، وما زالت الحملات الإعلامیة من العیار الثقیل توجه ضد سیاسة البلد المضیف، وتعددت الآراء حول جدوی انعقاده، ما بین مؤید ورافض ومتردد، فی ظروف استثنائیة تغیب فیها الإرادة العربیة غیابا شبه کامل، وتحل محلها الهیمنة الأمریکیة بتأثیر شدید یفوق التصور، وصارت لها الغلبة، وقد تنجح فی آخر لحظة وتمنع انعقادها فی عاصمة الأمویین،

وتعود إلى اقتراح استبدالها بمؤتمر استثنائی فی شرم الشیخ، ومن جانبها تضغط السیاسة السعودیة بشدة لتلبیة المطالب الأمریکیة والشروط الصهیونیة الموضوعة لعقدها، وامتطت الریاض ظهر السیاسة المصریة، مستغلة قدرتها المالیة، ومهارتها فی الغوایة، من أجل أن تصل إلی ما تبغی فی تنفیذ ما أوکل إلیها، وتحاول منع سوریة من الوصول إلی رئاسة القمة العربیة فی دورتها القادمة، عقابا لها علی تحفظها تجاه أسلوب التعامل السعودی الأمریکی الصهیونی مع القضایا العربیة، ومن الطبیعی أن ینتج عن هذا الشد والجذب توتر بالغ فی علاقات السعودیة وسوریة، وقد کان الطرفان، على مدى عقود، قادرین علی احتواء ما ینشأ بینهما من خلاف، وحصره فی أضیق نطاق، وجاء اغتیال رفیق الحریری، رئیس وزراء لبنان، لیضع هذه العلاقات فی مرجل لا یتوقف عن الغلیان.

وظاهرة الخلاف حول جدوى اجتماعات القمة لیست جدیدة، والجدید فیها هو ذلک المستوى من التردی، و وصوله إلى مرحلة الخطر على الوجود العربی ومستقبله. فمن یدقق فی الوضع یجد أن القرار العربی الراهن لیس سوى ترجمة للإملاءات الأمریکیة، وتلبیة للاحتیاجات الصهونیة، وفضلا عن غیاب الأمل فی إمکانیة الخروج بمقررات مفیدة ونافعة من هذه القمة، فإن ما قد ینتج عنها، قد یجهز على ما تبقی من علاقات شکلیة وبروتوکولیة، بین الدول والممالک والإمارات والمشیخات العربیة، فمن المتوقع أن تصدر قرارات تشرعن لحرب أخرى، فی منطقة هدتها الحروب، ودمرتها دورات الدمار المنظم والممنهج، وهی فی غنى عن هذا، وقد تجد قمة دمشق من یجعلها أشبه بقمة القاهرة 1990، التی استدعت الإدارة الأمریکیة للتدخل، وصادرت على حل عربی، کان قد لاح فی الأفق، ولعب حسنی مبارک فی ذلک دورا قد یکرره مجددا، إذا ما حضر قمة دمشق. ویضغط من جانبه لإعطاء المشروعیة لتحالف جدید، على غرار ذلک الذی قادته الولایات المتحدة لتحریر الکویت، ورعاه بوش الأب، وانخرطت فیه سوریة ومصر والسعودیة ودول الخلیج ( الفارسی ) . وکان بمثابة بوابة فتحت أمام جحافل الغزو، وأعادت احتلال المنطقة من جدید، إنطلاقا من العراق، وترتب علی ذلک تراجع الدبلوماسیة أمام زحف الجیوش والمجنزرات والطائرات والصواریخ، وأمام کم اللهب والنار والدمار المصاحب لها.

والخیار العسکری الذی تتبناه الإدارة الأمریکیة والدولة الصهیونیة، فی التعامل مع مشاکل العرب مجرَّم تماما فی إدارة الصراع الدموی مع الاستیطان الصهیونی فی فلسطین والاحتلال الأمریکی للعراق، حلال للغرب والدولة الصهیونیة وحرام على العرب والمسلمین. ومن المتوقع أن یکون الخیار العسکری خیارا أمریکیا صهیونیا فی توجیه الضربة المحتملة لسوریة ولبنان وفلسطین. فیتسع به قوس النار والإبادة. ممتدا من حدود إیران حتى تخوم مصر الشرقیة، لقد وُظفت القمم العربیة واستغلت کأدوات فاعلة فی تنفیذ مخطط الأمرکة والصهینة الجاری على قدم وساق. وانتقلت بذلک من النقیض إلى النقیض. فحین تأسست جامعة الدول العربیة، فی مثل هذا الشهر من عام 1945 نص میثاقها علی حمایة استقلال الدول الأعضاء فیها، والمحافظة على سلامها وأمنها، والدفاع عن أی منها، حین تتعرض للتهدید أو العدوان. وهذا المیثاق هو الذی یلزم ویضبط العمل بمؤسسات ومنظمات الجامعة، بما فیها مؤسسة القمة.

 وبسبب ذلک احتلت القضیة الفلسطینیة موقعا متقدما على جدول أعمال القمم العربیة واهتماماتها، لسنوات عدة، بعد قیام الدولة الصهیونیة، وأصبحت الأساس فی عقد مؤتمراتها حتى سنوات مضت، واستقر هذا التوجه فی مؤتمر القمة الأول المنعقد فی القاهرة، کانون الثانی /ینایر 1964، والمؤتمر الذی تلاه فی الإسکندریة، أیلول /سبتمبر من نفس العام. صدرت عنهما قرارات استهدفت التصدی للدولة الصهیونیة، فی محاولتها تحویل مجرى نهر الأردن، وخرج منهما تشکیل جیش التحریر الفلسطینی، وتأسیس منظمة التحریر الفلسطینیة، وإقامة القیادة العربیة الموحدة، کقیادة تواجه الأخطار التی تتعرض لها الدول العربیة.

کانت تلک قصة الأمس مع القمم العربیة. کانت سیاسة مصر وقتها فاعلة، تثق فی نفسها وفی شعبها وأمتها، وتعرف مسؤولیتها ودورها، ومع تراجع فعالیتها، وانعدام ثقتها بنفسها، وتخلیها عن مسؤولیتها ودورها، دخل الوطن العربی إلى نفق الحقبة السعودیة المعتم. وعبره دخل إلى بیت الطاعة الأمریکی، ومنه وقع فی الأسر الصهیونی، ففقد کل ما هو إیجابی ونبیل فی حیاته وتاریخه. ومع مظهر النجاح الذی غلف قمة الرباط فی تشرین الأول /اکتوبر 1974، بتأثیر الأداء العسکری العربی المتمیز فی 1973، فإننا نکتشف أنها کانت بدایة أوصلتنا إلى ما نحن فیه، فعندما تقر مبدأ منظمة التحریر الممثل الشرعی والوحید للشعب الفلسطینی ، فانها غرست بذرة إنتزاع القضیة الفلسطینیة من عمقها العربی ومحیطها الإسلامی ونطاقها الإنسانی. والادعاء أنها شأن فلسطینی خالص، لا علاقة لأحد به، وانتزاع فلسطین من دوائرها الطبیعیة حصرها وحاصرها، وما کادت سنوات قلیلة تمضی حتی أضحی القرار المستقل نهجا للعمل الفلسطینی. أدخله مرحلة العزلة فضیقت علیه وحدت من حرکته. وأذکر أننی حین بحثت وقتها عن معنى استقلال القرار الفلسطینی تبین لی أنه لم یکن استقلالا بالمعنى الوطنی. یبعده عن التبعیة الغربیة والهیمنة الاستعماریة والصهیونیة، وکان انتقالا بفلسطین من فضاء التعریب الرحب إلی متاهة التغریب الخانق، ومن نطاق الإنسانیة الواسع إلی الأفق الصهیونی الضیق، وکلما نأت قرارات القمم العربیة بنفسها عن فلسطین زادت وتوالت المجازر، وضاعت الأراضی، وتضاعفت المستوطنات.

هذا المسار المختل للنظام الرسمی العربی، الذی صنعته القمم العربیة، اتخذ من التدویل والرهان على الأمرکة ملاذا، مما أدى إلى تعدیل المیثاق الوطنی الفلسطینی، وإلى فتح الطریق أمام الاعتراف بالدولة الصهیونیة. وقبلها کان السادات قد قامر بزیارة القدس وهی تحت الاحتلال، وحل ضیفا على الدولة الصهیونیة، فی أول مغامرة من نوعها یقدم علیها رئیس عربی، ولم یکن أی رئیس عربی. إنه رئیس أکبر دولة عربیة وأقواها، فی ذلک الوقت. واستمر ذلک بالتداعی إلى أن صارت فلسطین شأنا أمریکیا وصهیونیا خالصا، وأضحى الشأن العربی کله، هو الآخر، شأنا أمریکیا صهیونیا. وقام حسنی مبارک بدوره المعهود فی قمة القاهرة الاستثنائیة 1990، ضاربا عرض الحائط بمیثاق الجامعة، ومجهضا بذلک مسعى کان جادا لوضع النزاع العراقی الکویتی فی نطاقه العربی، والعمل على حله سلمیا، وتحولت قمة القاهرة، علی یدیه، من قمة مصالحة إلی قمة حرب، ثم استغلت قرارات تحریر الکویت لتبریر وتزکیة مخطط تدمیر العراق وإلغاء وجوده، وعن طریق الغزو أصبح العراق، ذلک البلد العریق والعظیم، أثرا بعد عین. ولم یختلف الأمر کثیرا على جبهة فلسطین، أُضعفت مناعتها، وهُدت قواها، وطرد أبناؤها وتمت ملاحقتهم، ومنهم من ألقی بنفسه فی جحیم أوسلو 1993، الذی خرج من دهالیز أجهزة الأمن الغربیة، وأخذت مثل هذه الاتفاقات، التی تمت برعایة أمریکیة، تحل محل مواثیق تعطی الحق لمن تحتل أو تغتصب أرضه أن یقاوم، إلى أن ینتصر ویتحرر. وأزیحت، تبعا لذلک، قرارات عربیة وأممیة کانت تعطی هذا الحق للفلسطینیین، واستبدلت بأخری، کان أخطرها قرار قمة بیروت 2002 ، بتبنی ما عرف بـ المبادرة العربیة ، فتعرب التطبیع وعُممت الصهینة، وأضحت المبادرة العربیة رکیزة وضعت الدبلوماسیة العربیة فی خدمة التوسع الصهیونی.

وبعد أن کان التطبیع عملا فردیا، یخص کل بلد عربی على حده، أصبح أحد مهام القمة تنفذه برعایتها.

وإذا ما ساد مناخ کهذا فمن الطبیعی أن توصف المواقف السوریة، وتوجهات نصف الحکم اللبنانی، وممارسات نصف السلطة الفلسطینیة، بأنها مارقة . ترعى الإرهاب، لمجرد أنها ما زالت تتحفظ وتتحایل على الأوضاع، لتبقی على وجودها وحیاتها. وتتصدى بقدر ما تستطیع وتطیق للإبادة المنظمة ولذلک الحجم الضخم من التنازلات والتراجعات، الذی قامت به مؤتمرات القمة. ونلاحظ أن السیاسة السوریة خانها دهاؤها المعهود، فتمسکت بعقد القمة، وهی تعلم أن زیارة جورج دبلیو بوش الأخیرة لعدد من دول المنطقة کانت لتوظیف القمة لإحکام العزلة حول سوریة، واستغل علاقاته، ووجود جیوشه، وتهدیداته وإغراءاته، فی الضغط والغوایة على قوى محلیة وإقلیمیة.

طلب منها إحکام العزلة على سوریة. وجعل من الدور السعودی دورا محوریا فی هذه العمل، وألحق به حسنی مبارک لمتابعته ورعایته. والملفت للنظر أن هذا حدث فی وقت أشارت فیه الإدارة الأمریکیة إلى محوریة الدور السوری وأهمیته.

وبالفعل إن لسوریة دورا محوریا ومتشابکا، مع دول ومنظمات وکتل عدیدة، فی المنطقة وخارجها، وبه استطاعت التخفیف من النزاع الخلیجی الإیرانی، وحدت من تداعیات الملف النووی على دول الخلیج ( الفارسی ) ، مما أسفر عن حضور الرئیس الإیرانی أحمدی نجاد أعمال قمة مجلس التعاون الخلیجی الأخیرة. وکان من الممکن أن یحسب ذلک للسیاسة السوریة، ویغیر من طابع القمة، ویحولها من قمة حرب، کما هو متوقع، إلی قمة مصالحة!. والأهداف التی کانت تعقد من أجلها القمم العربیة توارت، وهذا أفقدها مبرر انعقادها واستمرارها، فتذهب غیر مأسوف علیها. أقول هذا وقد کنت من أشد المدافعین والعاملین على دعم ومساندة قرارات جامعة الدول العربیة، کآخر ما تبقی من صیغ العمل العربی المشترک، وها أنذا أقول أن وجودها صار عبئا وجب التخلص منه، وقد بدأت بذرة هذا الموقف تنمو داخلی مع تقلد عمرو موسی لمنصب الأمین العام للجامعة عام 2001، ومنذ اللقاء الأول معه لم أتفاءل کثیرا. لا من نهجه ولا من طریقة تعامله، ولهذا قصة أخرى قد تروی فی یوم ما.

 

(للکاتب المصری محمد عبد الحکم دیاب )

ن/25

 

 


| رمز الموضوع: 139454