کارتر شخص غیر مرغوب فیه بإسرائیل
یقوم الرئیس الأمیرکی الأسبق جیمی کارتر بزیارة إلى الدولة العبریة هذه الأیام، وسط تزاید الجدل فی الأوساط السیاسیة الإسرائیلیة حول مواقف الرجل من دولة الاحتلال، وقد قام العدید من الأحزاب والقادة فی إسرائیل سواء من هم فی سدة الحکم أو فی مقاعد المعارضة بما یمکن أن نطلق علیه "تحریضا" شرسا ینم عن عقلیة حاقدة وعنصریة على کل من یفکر بانتقاد الدولة العبریة أو الاختلاف فی النظر إلى ممارساتها أو فی أن یدعوها إلى التعقل والعودة إلى رشدها فی التعامل مع القضیة الفلسطینیة.
من المعروف أن الرئیس جیمی کارتر کان قد ألف کتابا یدور حول الممارسات الشنیعة التی تقوم دولة الاحتلال الإسرائیلی بها فی الأراضی الفلسطینیة المحتلة واعتبر أنها ترقى إلى مستوى التمییز العنصری، وهو عندما فعل ذلک فإنه لم یفعله لأنه أراد استعادة أمجادا مفقودة أو محاولا من خلال کتابه أن یضع نفسه تحت الأضواء مجددا.
باعتقادنا أنه فعل ذلک فی ظل تجربة له استمرت على ما یزید عن ثلاثة عقود من الزمن کان الرجل خلالها متابعا قریبا لما هو جار فی المنطقة وبشکل قل ما یولیه ساسة أمیرکا – على الأقل فیما یتعلق بهذه المنطقة من العالم بالتحدید- وخاصة بعد أن یغادروا مناصبهم، وقد ظهر من خلال ما کتبه بأنه یعرف الکثیر عن المنطقة وعن طبیعة الصراع لا کما یبدو علیه الأمر من جهل یبدیه بعض الساسة فی ذلک البلد وخاصة الرئیس الحالی السید جورج دبلیو بوش الذی لا زال فی سدة الحکم .
وحیث أن کتاب السید جیمی کارتر لیس هو مجال هذا المقال فإننی سوف اقفز عنه لکی أسجل بأننی لاحظت کیف هو سیر الأمور فی هذه المنطقة من العالم، وکیف تنعکس المسائل بشکل یبعث على الدهشة، حیث أن المعاییر تنقلب رأسا على عقب. فالدولة العبریة التی کانت فی لحظة من التاریخ تتمنى أن تعیش کدولة "طبیعیة" فی المنطقة، أخذت تمارس ما لم یکن فی الحسبان بالمطلق، وصار ما توافق علیه هو المعیار وصار ما ترفضه وتعارضه هو السائد، عجیب أمر هذا الزمان ، عجیب أمر هذه الأمة.
لا أزال أذکر أنه وحتى فترة قریبة قد لا تصل إلى 50 عاما، وفی الدول الغربیة تحدیدا، بأنه إذا ما أراد أحد أن یصف شخصا ما بالخسة والنذالة فإنه یقول له أو یسأله فیما إذا کان یهودیا، أما الآن فإن الأمور تسیر على العکس تماما حیث صار یتم هذا لوصف العرب أو المسلمین، برغم أن الیهودی بشکل عام - إلا من رحم ربی- أینما کان لا انتماء له وقد یکون هذا هو أحد الأسباب التی دعت الدول الغربیة لإقامة دولة إسرائیل، وکان أحد الأغراض من إقامة الکیان هو التخلص من الیهود الموجودین فی أوروبا، وفی هذا السیاق فقد نقلت وکالة - قدسنا الإیرانیة- عن الأمیر الحسن ابن طلال ولی عهد المملکة الأردنیة السابق قوله عن الیهود بأنهم "جهاز مخابرات متنقل بین الحضارات الإنسانیة، دون ولاء لأی منهم"، هذا القول للأمیر الحسن بتقدیرنا وهو المعروف بحصافته وذکاءه لا یمکن أن یأتی هکذا بشکل عابر أو لأنه یرید أن یقوله فقط، بل لأن هذا آت کنتیجة وبعد کثیر من الفحص والتمحیص والدراسة.
یبدو أن الوقت الذی کانت فیه الدول العربیة "حتى ولو مجتمعة" هی التی تقرر ما هو مقبول وما هو مرفوض، وبعد أن کانت هی التی تصدر اللاءات تلو اللاءات برغم ضعفها وهزیمتها قد أفل وولى، وأصبح علیها أن تتناغم مع المرفوض إسرائیلیا ومع المقبول أیضا إسرائیلیا. فدولة الاحتلال التی تمارس البلطجة فی کل اتجاه ضد الفلسطینیین ولا تتردد فی أن تقتلهم بالجملة وأن تمارس کل أنواع الموبقات بحقهم وتقوم بکل الموبقات السیاسیة کذلک، فهی تقاطع هذا وتمنع ذاک، وتهاجم هذا ولا ترحم ذاک من ساسة العالم، أصبحت "إسرائیل" محجا لکل من یرید "الستیرة" من هؤلاء القادة الذین صاروا یشعرون بالرعب من وسائل إسرائیل الخبیثة فی الهجوم على کل من یتجرأ بقول ولو کلمة حق فیما یتعلق بالممارسات الإسرائیلیة.
إسرائیل التی تمارس کل أنواع البلطجة استطاعت خلال أعوام نشأتها أن تفرض على الکثیر من الدول أن تتناغم مع السیاسات الإسرائیلیة وصارت تتدخل فی کل شاردة وواردة فی الکثیر من الدول الغربیة، فحتى کتابة المقال فی کثیر من دول العالم صارت معاییره مختلفة إذا ما تعلق الأمر بالموضوع الإسرائیلی ، وقد تعرض الکثیر من الکتاب والصحفیین إلى محاربتهم بحجة اللاسامیة والعنصریة من اجل کتاب کتبوه هنا أو مقال نشروه هناک، وإسرائیل لا تتردد فی أن تتدخل فی ما یخص ثقافة وتعالیم الأدیان للآخر، وکان آخر مثال على ذلک هو ما قالته بالأمس وزیرة خارجیة دولة الاحتلال تسیبی لیفنی وبدون أن یرف لها جفن خلال مشارکتها فی ما یسمى بمؤتمر الدیمقراطیة المنعقد فی العاصمة القطریة الدوحة حین طالبت من الدول العربیة أن تغیر مناهجها.
الوزیرة الإسرائیلیة بالطبع لم تتکلم عن البرامج المتعلقة "بغسیل الدماغ" وکل ما یتم من "تعبئة" القادمین الجدد من المهاجرین الیهود إلى إسرائیل وکل ما تتضمنه تلک البرامج من تحریض وکراهیة ضد العرب بشکل عام والفلسطینیین خاصة قبل أن یسمح لهم بالانطلاق إلى أماکن إقامتهم الجدیدة فی الدولة العبریة والتی هی بالضرورة فی بیوت أو أراض تخص هؤلاء الفلسطینیین الذین تم التحریض ضدهم.
لم یتوقف الأمر عند حدود وزیرة الخارجیة الإسرائیلیة وما قالته فی قطر، وإنما قام رئیس دولة الکیان الإسرائیلی شمعون بیریس بما قیل أنه وکما نشرت وسائل الإعلام المختلفة توبیخ للرئیس الأمیرکی جیمی کارتر بسبب الکتاب الذی نشره الأخیر وانتقد فیه الممارسات الشائنة لدولة الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطینی الرازحین تحت عربدة احتلال مستمر منذ ما یزید على الأربعة عقود من الزمن.
وحول زیارة السیدة وزیرة الخارجیة الإسرائیلیة إلى العاصمة القطریة فإن المفارقة اللافتة هی أن هذا المؤتمر ینعقد تحت عنوان الدیمقراطیة وکان بودی أن أتوجه بالسؤال إلى القائمین على هذا المؤتمر على أی أساس تتم دعوة ممثل لدولة الاحتلال وما علاقة هذه الدولة التی تحتل الأراضی الفلسطینیة والعربیة وتمارس کل ما تمارسه بالدیمقراطیة، لیس هذا فحسب، لا بل تردد بأن هنالک سبعة من الوفود العربیة قاطعت المؤتمر بسبب وجود ممثل لدولة الاحتلال وبرغم ذلک فقد قامت قطر "بإدارة الظهر" لهؤلاء وفضلت المشارکة الإسرائیلیة على المشارکة العربیة وهذا ما اعتقد بأنه من عجائب الأمور.
إسرائیل التی کانت - فی یوم ما یبدو أنه کان بعیدا جدا وأنه لن یعود - محاربة من قبل الدول العربیة فی السابق على مختلف الجبهات السیاسیة والاقتصادیة والدبلوماسیة، وکانت المقاطعة الاقتصادیة والدبلوماسیة تفعل فعلها ولو بشکل "ضعیف" أو خجول ، وکانت العلاقات معها تتم من "تحت" الطاولة ولیس بهذه العلنیة الفجة، من الواضح أن إسرائیل ترفض مثل هذه الممارسات الآن، بمعنى أنها لا تقبل أن تتم الأمور بشکل سری کما کان علیه الحال فی السابق، هذا عدا عن أن الکثیر من الدول وخاصة العربیة تخلت عن الخجل أو التحفظ فی علاقاتها مع دولة الکیان العبری، وصار الکل یتحدث عن أن علاقاته مع دولة الاحتلال إنما یصب فی المصلحة العربیة والفلسطینیة.
أعتقد بأن الممارسات الإسرائیلیة ضد الشخصیات العالمیة التی کان آخرها هذا الذی قام به قادة إسرائیل ضد الرئیس الأمیرکی جیمی کارتر لو أنها تمت ممارستها على ید أی کان، لقامت الدنیا ولم تقعد ولتم تشغیل "ماکینة" الإعلام الإسرائیلی ومن یسیر فی رکبها ضده ولتم وصفه ووسمه بالعنصریة ومعاداة السامیة ولن یتوقف السیل إلا بعد أن یجر هذا الذی یقوم به إلى مکان ربما خلف الشمس.
المشکلة هی أن الرئیس الأمیرکی جیمی کارتر هو الذی استطاع أن یحقق سلاما لم یکن لدولة الاحتلال أن تحلم به مع أکبر دولة عربیة هی مصر التی کانت إسرائیل تتمنى أن تسالمها، أما وقد انتقد ممارسات إسرائیل فإنه أصبح شخصا غیر مرغوب به وقد یتم وصفه مستقبلا بأنه عنصری أو معاد للسامیة. والآن یتم التنکر له ولدوره، فقط لأنه قال کلمة صدق أو حق فی الممارسات البغیضة لدولة الاحتلال.
أما القضیة الأخرى التی تتعلق بالسید کارتر فهی أنه آت وکما تشیر التقاریر المختلفة من أجل أن یلتقی بقادة حماس وربما بالقادة الإیرانیین، أی أن مهمته فی نهایة المطاف هی مهمة سلمیة أو إنسانیة إذا جاز التعبیر، وهو وکما تقول التقاریر سوف یحاول أن یقول للعالم بأن الحل لا یکمن فی أن یتم غزو قطاع غزة أو فی محاربة أو الهجوم على إیران لا بل بالتفاهم مع حرکة حماس وجمهوریة إیران الإسلامیة، إذا ما الضیر فی أن یتم تسهیل مهمة الرجل بدلا من وضع العصی فی دوالیب عربته أو مهمته.
تجربة الرئیس جیمی کارتر الحالیة مع دولة الاحتلال هی جزء من العدید من التجارب الطویلة مع هذه الدولة، وهی – إسرائیل-تثبت بأنها تنظر إلى المسائل بشکل مختلف عما ینظر إلیه العالم وبأنها تتعامل مع الآخر بغض النظر عمن یکون هذا الآخر بأنه یجب أن یکون فی خدمة الدولة العبریة، وهذا على أیة حال هو دیدن الیهود وما جاء بتفاصیل بروتوکولاتهم، الغیر هو الآخر وهو الأقل مرتبة، وأنهم هم شعب الله المختار، وأما الآخر فلیس سوى عنصر آخر مختلف وأنه قد تم إیجاده أو أنه خلق فقط من أجل خدمة بنی إسرائیل.
( المقال للصحفی الفلسطینی من بیت لحم رشید شاهین )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS