اهانة لمصر وکرامتها وشعبها
بالأمس نشرت صحیفة الاهرام المصریة خبرا على صدر صفحتها الاولى تقول فیه انها تکشف بالأدلة القاطعة عن خطة لحرکة المقاومة الاسلامیة حماس لاقتحام الحدود المصریة من خلال قصف مکثف بمدافع الهاون، ونسف الجدار الحدودی الفاصل، ولم تکشف الصحیفة عن مصادر معلوماتها هذه، ولکن من الواضح ان اجهزة امنیة متخصصة فی التحریض والتعبئة النفسیة هی التی اوعزت بنشر الخبر بالطریقة التی نشر فیها.
الاخطر من ذلک، وفی مثال آخر على الحملة التحریضیة هذه، استضاف برنامج القاهرة الیوم فی التلفزیون المصری، وفی فقرته المتعلقة بعرض الصحف، مساء الاثنین (امس الاول) الدکتور عبد المعطی بیومی استاذ الافتاء فی جامعة الازهر لیتحدث عن هذا الخبر، وعن ما أسماه بـ فتوى صدرت عن احد کبار المشایخ فی قطاع غزة، تبیح قتل الجنود المصریین على الجانب الآخر من الحدود. واعتبر هذه الفتوى من کبائر الامور، وانتهاکا صارخا لسیادة مصر وکرامتها الوطنیة، وقواتها المسلحة.
حرصت شخصیا على متابعة البرنامج، وآراء الدکتور الضیف، واسلوب مقدم البرنامج الذی یتعمد استثارته للإسهاب فی التأکید على هذا الخطر العظیم الداهم على مصر وسیادتها وکرامتها الوطنیة من ابناء قطاع غزة، ومن هذا المفتی المحرض على انتهاک هذه السیادة، وقتل حماتها من الجنود المصریین.
بعد ترکیز شدید، ووسط حملات مکثفة مدروسة من التحریض اختیرت کلماتها بعنایة فائقة، لتکریه ابناء الشعب المصری الطیبین بأشقائهم المقاومین المرابطین باسم الامة والعقیدة فی فلسطین فی مواجهة مجازر اسرائیلیة یومیة، اکتشفت ان هذا المفتی یدعی الکلاّب، وهو امام مسجد صغیر جدا اسمه مسجد عباد الرحمن فی مدینة خان یونس، مثلما ورد فی البرنامج. ولم یسمع به، او بمسجده الا قلة قلیلة حتى من ابناء خان یونس نفسها، ولا نعرف کیف قال ما قاله حول قتل الجنود المصریین، وما اذا کان قد نطق به فعلا.
الشیخ المذکور غیر معروف على الاطلاق، ولا یوجد فی قطاع غزة او فلسطین کلها، من یصدر الفتاوی منذ الحاج امین الحسینی، ولم اسمع شخصیا ان هناک ائمة او مشایخ فی قطاع غزة بالذات فی عشر حجم الشیخ یوسف القرضاوی یصدر فتاوی دینیة. حتى الشیخ احمد یاسین زعیم حرکة حماس رحمه الله، لم یکن معروفا عنه اصدار فتاوی، وکذلک قادة حرکة حماس او الجهاد الاسلامی الشهداء منهم او الأحیاء. ومع ذلک تخرج علینا الاهرام بهذه الفتوى الغریبة، وتعمل على تضخیمها، وتوظیفها بشکل شریر لتحریض الشعب المصری ضد اشقائه المحاصرین المسجونین فی قطاع غزة.
الأدهى من ذلک ان الدکتور بیومی الذی بالغ فی استنکار موقف هذا المفتی المجهول وفتواه، وتطاولها على مصر وسیادتها، افتی بحق الجنود المصریین على الجانب الآخر من الحدود باطلاق النار، وقتل هؤلاء المنتهکین للتراب المصری والسیادة المصریة دون تردد، لأن مصر لا تقبل بان یتطاول علیها احد، او ینتهک سیادتها احد.
هذا التحریض السافر، والفبرکة الأمنیة والاعلامیة المقصودة التی ترافقه، لیست جدیدة، وتضرب جذورها بعمق فی تاریخ طویل من التحریض ضد العرب، والفلسطینیین، مارسته وحدات خاصة فی الامن المصری، مرتبطة مباشرة بالقصر الجمهوری، وتوجه بـ الروموت کونترول ( التحکم عن بعد ) من قبل المجموعة المؤثرة داخله. ولعلنا نذکر مثلا لیس بالبعید فی هذا الصدد، واثناء اقتحام الحدود فی رفح من قبل الفلسطینیین المحاصرین قبل اشهر معدودة، عندما قال السید احمد ابو الغیط وزیر الخارجیة انه سیکسر رجل کل من ینتهک الحدود من ابناء قطاع غزة. ولعلنا نتذکر ایضا حملات الهجوم الشرسة التی تعرض لها النجم الکروی المصری محمود ابو تریکة الذی تعاطف مع ابناء قطاع غزة المحاصرین، وهی الحملات التی اتهمته بعدم الولاء لمصر، وشککت فی وطنیته، وآخر القصة معروفة.
ولو عدنا الى الوراء قلیلا، وبالتحدید الی اواخر السبعینات من القرن الماضی، وقبیل زیارة الرئیس محمد انور السادات للقدس المحتلة وتوقیعه اتفاقات کامب دیفید، نجد الصحف القومیة المصریة مثل الاهرام و الاخبار و اخبار الیوم طافحة بالمقالات البذیئة ضد العرب والفلسطینیین منهم بالذات، خاصة من قبل کتاب مثل انیس منصور وابراهیم سعدة، تخصصوا فی التحریض والردح، وعملیات التکریه هذه، مثل الحدیث عن الفیلات الفخمة للفلسطینیین فی الاردن ودول الخلیج ( الفارسی ) ، بینما الشعب المصری یتضور جوعا.
الحملة التحریضیة الجدیدة ضد ابناء قطاع غزة المحاصرین تتجاهل کلیا، وبشکل متعمد، مشارکة الحکومة المصریة، المسؤولة قانونیا واخلاقیا واسلامیا، عن هؤلاء وأمنهم ورفاههم، فی احکام اغلاق الحدود، وتشدید الحصار، ومنع وصول الطعام والدواء والحاجات الاساسیة، والسماح بخروج المرضی والجرحی والمصابین للعلاج.
ابناء قطاع غزة اطلقوا الآلاف من نداءات الإغاثة وصرخات الاستعطاف للسلطات المصریة لفتح معبر رفح وتخفیف الحصار عنهم، والسماح بدخول المواد الغذائیة والطبیة، ولکن هذه السلطات رفضت رفضا مطلقا التجاوب، وبأوامر اسرائیلیة وامریکیة، وبالغت فی اغلاق الحدود، ونسف الأنفاق، ومنع دخول لقمة خبز واحدة لملیون ونصف ملیون جائع ومحاصر من العرب والمسلمین والبشر فی قطاع غزة.
فبرکة فتاوی عن تحلیل قتل الجنود المصریین على الحدود هی تمهید واضح لمجزرة تعد لها قوات الامن المصریة لأبناء قطاع غزة اذا ما حاولوا تکرار عملیة اقتحام الحدود مرة اخرى بحثا عن لقمة خبز، او علبة حلیب لاطفالهم. الفتوی الحقیقیة والاخطر هی التی صدرت عن الدکتور عبد العاطی بیومی واساتذة آخرین تحلل لرجل الامن المصری اطلاق النار على الفلسطینیین بهدف القتل فی حال عبورهم الحدود، وتهیئة الشعب المصری المتعاطف لقبول هذه المجزرة على اعتبار ان الفلسطینیین هم المعتدون.
اقتحام المحاصرین للحدود المصریة عندما وقع قبل شهرین کان سلمیا، ولم یتعرض احد للجنود المصریین، ولم تتم ای عملیات سلب او نهب، رغم ان ثلاثة ارباع ملیون شخص عبروا الى الجانب الآخر من الحدود فی الیوم الاول، وهو رقم کبیر، وکان من الطبیعی والمنطقی ان تحدث عملیات شغب او صدامات، ولکن ابناء قطاع غزة کانوا، رغم جوعهم واحباطهم، فی قمة الحضاریة واظهروا حرصا اکیدا على الروابط مع مصر وشعبها، ولم یقدموا علی مخالفة امنیة واحدة، وکامیرات التلفزة العالمیة کانت شاهدا على هذا الاقتحام الحضاری المسؤول للحدود.
الحکومة المصریة ترید افتعال ازمة مع قطاع غزة، وحرکة حماس على وجه التحدید، لحرف اهتمامات الشعب المصری المجوع المحاصر فعلا، نحو عدو خارجی ، لنسیان همومه الداخلیة فی الجهاد من اجل الحصول على رغیف خبز مدعوم لإطعام اطفاله، والاستشهاد فی طوابیره امام المخابز. هذه هی الحقیقة التی نستخلصها من عملیات التحریض المفاجئة ضد الفلسطینیین، و حماس على وجه الخصوص.
هذه الحکومة الفاسدة، وبعد ثلاثین عاما من النهب وسرقة مال الشعب المصری وثرواته على ایدی حیتانها الکبار، واعادته الى طوابیر الخبز، بدلا من طوابیر اللحوم والدجاج والکمالیات والوظائف والتنمیة الصناعیة والزراعیة، ترید ان تفتعل معرکة مع اضعف الناس، واکثرهم معاناة و وطنیة، وحبا لمصر وشعبها، وتقدیرا لتضحیاتها وشهدائها الذین سقطوا بالآلاف دفاعا عن الأمة والعقیدة الاسلامیة وقضایاها فی العالمین العربی والاسلامی.
من ینتهک سیادة مصر وکرامتها الوطنیة لیس من یعبر حدودا وهمیة الى الدولة الأم بحثا عن علبة حلیب لأطفاله، وانما من یجوع الشعب المصری ویحرمه من لقمة عیش کریمة شریفة، بینما هو یأکل الکافیار ، أو وجبات الطعام المستوردة من مطاعم لندن وباریس، ویرکب السیارات الفارهة المظللة الزجاج، حتى لا یرى الحفاة العراة فی شوارع المحروسة، وقد طحنهم الفقر والجوع والشمس الحارقة.
من ینتهک سیادة مصر هو من یبیع غازها ونفطها الى اسرائیل بأقل من نصف اسعار هذه المواد فی الاسواق العالمیة، ویرفض ان یکشف لأبناء وطنه عن الحقیقة فی هذا الخصوص رغم النداءات المتکررة.
من ینتهک سیادة مصر وکرامتها وعزتها هو الذی یصمت عن مقتل مواطن او مواطنة مصریة على ایدی الجنود الاسرائیلیین فی سیناء، ثم یتحول الى شرطی لقتل الافارقة الفقراء الذین یریدون اقتحام الحدود الى اسرائیل بحثا عن لجوء سیاسی او فرصة عمل، بینما تستقبلهم اسرائیل فی الجانب الآخر من الحدود بالعطف والاغذیة والمعاملة الجیدة، حتی تقول للعالم انظروا الی المصریین المتوحشین کیف یقتلونهم بالرصاص، وکیف نعاملهم نحن الدیمقراطیین الانسانیین. القائمة طویلة، ولا یتسع المجال للمزید من الاسهاب فی ذکر الامثلة، وکل ما نرید ان نختتم به هو القول ان ما یحدث من تحریض ضد الفلسطینیین المحاصرین المقاومین من قبل اجهزة النظام المصری وإعلامه هو امر معیب، ولا یلیق بمصر وشعبها العظیم، وتاریخها المشرف فی الدفاع عن الامة والعقیدة، فاختیار الضعفاء المظلومین المجوعین کأعداء والتحریض علیهم لیس من شیم الشعب المصری وتراثه الانسانی والاخلاقی العظیم فی نصرة الضعفاء والمستضعفین.
نحن الذین نحب مصر، ونقدر جمیلها، ونریدها ان تستعید دورها ومکانتها، وتصبح مصر الکبیرة التی نعرفها ونتوق الیها، اما هؤلاء فهم الذین یکرهونها، ویرونها بقرة حلوبا للنهب والسلب فقط.
( المقال لعبد الباری عطوان فی القدس العربی )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS