أؤکد لکم..إسرائیل بلغت عمر التقاعد
بمناسبة مرور ستین عاما على تأسیس إسرائیل تقام هذا الشهر احتفالات کبیرة بطول البلاد وعرضها تحت عنوان (تقویة أطفال إسرائیل)..العنوان یعکس حالة القلق المحموم من المستقبل..وهو قلق تعززه دراسات وبحوث إسرائیلیة..فغیر التهدید الخارجی من حالة العدائیة المتزایدة وفشل کل محاولات التطبیع والدمج مع الدول التی عقدت معاهدات سلام معها..وغیر تهدید داخلی متمثل فی الفساد المستشری وتآکل ما یسمى(منظومة القیم الصهیونیة) التی استند إلیها الصهاینة فی إقامة کیانهم. غیر هذا وذاک هناک ما هو أکثر رعبا.. وهو(أسلمة)الصراع واتخاذه بعدا دینیا الأمر الذی لا یزید فقط رقعة العداء لإسرائیل بکامل العالم الإسلامی بل یجعله أکثر حدة وخطورة وهو ما ظهر فی حرب لبنان الأخیرة والقوة السیاسیة والعسکریة المتزایدة لحماس.
هذا الرعب یزداد أکثر وأکثر بالحدیث عن أی انتخابات حرة فی البلدان المجاورة لإسرائیل لأن الشارع هواه إسلامی وستأتی أنظمة ذات توجه إسلامی لا تؤمن إلا بزوال إسرائیل..الأصوات تعلو الآن فی إسرائیل محذرة من أن الأنظمة العربیة الحالیة لا یفترض أنها ستدوم طویلا ..
أحد أخطر مظاهر تحلل منظومة (القیم الصهیونیة) التی یتحدثون عنها الآن بخوف حقیقی..هو ضعف(روح التضحیة) من أجل (إسرائیل) والذی یظهر فی تزاید حالات الهروب من التجنید الأمر الذی جعل عبء العمل العسکری یقع على کاهل نسبة قلیلة من المجتمع(ابنی أولمرت تهربا من الخدمة العسکریة بالسفر للخارج).
شلومو غازیت الرئیس السابق لجهاز الاستخبارات العسکریة الإسرائیلیة یرى أن رفض إسرائیل للتجاوب مع الرغبة العربیة لحل الصراع یحمل فی طیاته دمار إسرائیل...وأن تخلید الوضع القائم هو الذی سیؤدی إلى تصفیة إسرائیل ناصحا قیادة الدولة بالموافقة حتى على هدنة طویلة المدى تتنازل مقابلها عن حدود 1967..وصب جام غضبه على برنارد لویس(المستشرق المشهور ورجل المخابرات البریطانیة السابق)الذی دعى قادة إسرائیل لرفض التفاوض مع العرب..لکن یبدو أن الأمور تسیر فی اتجاه التفاوض والهدنة الطویلة. وما تحرکات کارتر إلا مماحکة تمهیدیة لذلک.
یروون فی إسرائیل حادثة طریفة حدثت مع أحد الکتاب الإسرائیلیین والتی تعکس مدى انعدام الأمل(ببقاء إسرائیل) فقد ذهب هذا الکاتب إلى طبیب فسأله الطبیب السؤال التقلیدی عن مهنته فأجاب: أنا کاتب.فسأله الطبیب: ماذا تکتب الآن ؟ قال:عن مستقبل إسرائیل.فضحک الطبیب وقال: آه.. إذن أنت تکتب القصة القصیرة.
هذا هو المزاج العام السائد فی إسرائیل الآن.. مزاج الشعور بالنهایة..أو نهایة القصة القصیرة على حد تعبیر الطبیب ..الکل یکابر ویغالط لکن الجمیع یشعرون بأنها أتیة أتیة .....
أثناء الحرب لبنان الأخیرة نشرت صحیفة(معاریف) مقالا لصحفی إسرائیلی اسمه یونتان شیمقال فیه(قبل مائة عام أقاموا أولى المدن العبریة تل أبیب 1909..وبعد مائة عام من العزلة2009 ستصبح أنقاضا)هذا الشعور لا ینبع فقط من حالة العسکرة الدائمة التی یعیشها المجتمع الإسرائیلی وهو الأمر الذی یصعب استمراره على الدوام..بل من (مصادر أعمق کثیرا) فالحدیث الآن عن القوة العسکریة والاقتصادیة التی تتمتع بها إسرائیل بات مشکوکا فیه بقوة .. وهذا واقع الحال الآن فی المستوطنات التی تعیش رعبا یومیا من صواریخ القسام..لنا أن نتخیل أن مجرد توفیر الشعور بالأمن للیهود الذین یعیشون فی إسرائیل أصبح موضوعا للنقاش الواسع..وهذا فی حد ذاته بعد 60 عاما من استقرار الدولة والمجتمع أمرا مروعا..أضف إلى ذلک أن إسرائیل هی الدولة الوحیدة فی العالم التی مجرد وجودها –ولیس أمنها فقط - مثار جدل ونقاش حتى الآن..ویکفى أن نعلم أن المفکر الأمریکی الأشهر نعوم تشومسکی(الیهودی النبیل)وصف المجتمع الإسرائیلی بأنه لم ینتج سوى هتلرات صغیرة..وأن هذه الدولة خطر على الیهود أنفسهم..- قاصدا إسرائیل - وتتجه فی خطى ثابتة نحو العدم..
موضوع نهایة إسرائیل متجذر فی الوجدان الصهیونی.وحتى قبل إنشاء الدولة أدرک کثیر من الصهاینة أن المشروع الصهیونی مشروع مستحیل البقاء والاستمراریة..
هاجس النهایة الذی یطارد الإسرائیلیین له أسباب کثیرة..أهمها أن هناک نظریة تاریخیة تسری على کل المجتمعات الاستیطانیة وهى أن المجتمعات التی استطاعت أن تبید السکان الأصلیین(مثل أمیرکا وأسترالیا) کتب لها البقاء أما تلک التی أخفقت فی إبادة السکان الأصلیین(الممالک الصلیبیة والجزائر وجنوب أفریقیا) فکان مصیرها الزوال.
ویدرک الإسرائیلیون أنهم ینتمون للنوع الثانی والمفارقة أنهم یعیشون على نفس الأرض التی أقیمت فیها الممالک الصلیبیة التی تذکرهم بالإخفاق والزوال القریب.
الدکتور المسیری ذکر أن هناک دراسات إسرائیلیة لا تنتهی عن المقومات البشریة والاقتصادیة والعسکریة ومشکلات الاستیطان والهجرة التی قامت علیها الممالک الصلیبیة التی بادت وعن العلاقة بین هذه المجتمعات الاحلالیة وبین الوطن الأصلی المساند لها. فی محاولة – تبدو یائسة - لفهم عوامل الإخفاق والفشل التی أودت بها.
الکاتب الإسرائیلی الشهیر یورى افنیرى کتب عام 1983 بعد غزو بیروت(ماذا ستکون النهایة) وذکر أن الممالک الصلیبیة احتلت رقعة من الأرض أوسع من تلک التی احتلتها الدولة الصهیونیة وأنهم کانوا قادرین على کل شیء ومع ذلک فقد ذهبوا مع الریح.
إبراهام بورج(نجل یوسف بورج أحد المؤسسین الأوائل للدولة الإسرائیلیة والذی کان قائدا للحزب الوطنی الدینی المفدال ووزیر فی حکومات إسرائیل المتعاقبة منذ العام 1951 وحتى 1988) قال إن نهایة المشروع الصهیونی على عتبات أبوابنا. جیلنا سیکون آخر جیل صهیونی.
وذکر فی کتابه(أن تنتصر على هتلر) (أن خیار القوة بالنسبة لإسرائیل کاختیار نهائی کفیل بتدمیرها.. سنتحول إلى قلعة تختنق بدروعها وتحصیناتها.المجتمع الإسرائیلی الآن یفترسه الذعر..أرى مجتمعی یذوى أمام ناظری عندما ندع الجیش ینتصر فإنه غیر قادر على أن یعی أن القوة لیست هی الحل..مجرد الحدیث عن محو غزة یدل على أننا لم نستوعب الدرس بعد).ویضیف:( إسرائیل تعانی صدمة نفسیة مستدیمة.. إننا نعیش بشعور أن کل العالم ینفر منا التشدد یسیطر على هویتنا.. إننا مجتمع یعیش على سیفه ألیس جدار الفصل الذی نقیمه فی الأراضی الفلسطینیة خیر دلیل على انفصام الشخصیة الذی نعانیه؟ إسرائیل دولة فاشیة بلطجیة ومستقویة وقاسیة وإمبریالیة وسطحیة فاقدة لأصالة الروح ومنطویة على نفسها..الدعوات المتتالیة إلى قتل الفلسطینیین وهدم منازلهم وترحیلهم والقتل وشرعنة سیاسة الترحیل من خلال مشارکة أصحاب هذه السیاسة فی الائتلاف الحکومی دلیل على انتشار الفاشیة لدینا ..غالبیه الإسرائیلیین یسألون أبناءهم أین یتوقعون أن یعیشوا خلال الـ25 عاما المقبلة ویصدم الآباء حین یجیبهم الأبناء بأنهم لا یعرفون..) انتهى کلام إبراهام ...وأضیف إلیه تلک الجملة الناطقة التی قالها الشاعر الإسرائیلی حاییم جورى(کل إسرائیلی یولَد وفی داخله السکین الذی سیذبحه...) .
کل هذا فی جانب والأخبار التی تحدثت عن أن الوکالة الیهودیة اتخذت قرارا بالتوقف عن محاولة إقناع الیهود فی أرجاء المعمورة بالهجرة إلى إسرائیل..فی جانب أخر.. نحن الآن نتحدث عن فشل أکبر قوة دفع على الإطلاق للحرکة الصهیونیة والتی تعتبر الهجرة الیهودیة إلى إسرائیل.وتحویلها إلى مرکز الذاکرة الیهودیة والثقافیة والملجأ الأمن لکل الیهود من أهم مهامها ..!!
الیهود فی أرجاء العالم باتوا یرون أن مخاطر العیش فی إسرائیل أکبر من أی مخاطر أخرى قد تتهددهم فی الخارج
( 70% من الیهود الأمریکیین لم یزوروا إسرائیل ولا یعتزمون زیارتها..50 % منهم متزوجون زواجا مختلطاًًَََ... 50% من الشباب الیهودی هناک لا یهمهم إذا زالت إسرائیل من الوجود).نسبه الهجرة العکسیة من إسرائیل إلى الخارج تزایدت فی الفترة الأخیرة بشکل کبیر والذی یظهر فی سعی أعداد متزایدة من الإسرائیلیین للحصول على جوازات سفر أوروبیة لاستخدامها فی الفرار من الدولة عند الحاجة...وهو ما أثر سلبا على الروح المعنویة للشعب الیهودی وعلى مدى استعداده للتطوع للخدمة العسکریة والقتال والتضحیة والمخاطرة بالنفس من أجل سلامة الوطن فضلا عن أنها تؤثر سلبا على فکرة التوحد الاجتماعی بین الإسرائیلیین وبعضهم البعض.مؤدیا فی القریب العاجل – إن شاء الله - إلى شرخ اجتماعی وسیاسی وطائفی بین الإسرائیلیین الذین لا یمکنهم الحصول على جوازات سفر أجنبیة ولا یعرفون إلى أین یذهبون وبین أولئک الذین لدیهم الفرصة للفرار والذهاب بعیدا.
أحد قادة الجالیة الیهودیة فی کندا ذکر أن الأساطیر التی کانت إسرائیل تحاول إقناع یهود العالم بها لم تعد تنطلی على أحد خاصة تصویر إسرائیل بأنها الحصن الأخیر فی مواجهة کل الذین یکنون العداء للیهود..وأشار إلى أن 85% من الیهود فی مدینة مونتریال التی تضم أکبر تجمع یهودی فی کندا هاجروا أصلا من إسرائیل..هؤلاء کانت إسرائیل قد بذلت جهودًا کبیرة من أجل تهجیرهم من الاتحاد السوفییتی سابقًا..لکنهم بعد أن عاشوا فی إسرائیل قرروا ترکها والتوجه لکندا..
حرکه التنویر الیهودیة( الهسکالاه)التی أسسها موسى مندلسون فی القرن الـ18 والتی تدعوا الیهود إلى أن یخرجوا عن عزلتهم وانطوائهم وان یعتبروا الیهودیة عقیدة دینیة.. للیهودی أن یتبعها فی حیاته الخاصة ولکن علیه أن یندمج فی الشعب الذی یعیش فیه وأن یأخذ بعاداته وثقافته.
هذه الحرکة تزداد فی تأثیرها وأتباعها الذین یؤمنون بأن الخلاص الحقیقی یکمن فی انتشار العدالة فی کل العالم!!! و لیس بالضرورة العودة إلی ارض المیعاد وتردید کلمات مثل التلمود وصهیون والهیکل ومملکه داوود..
لقد أصبحت الصهیونیة لحظة مقتضبة فی التاریخ الیهودی کما ذکر الأدیب الإسرائیلی(یهو شواع) مؤلف الروایة الشهیرة(السید مانى) التی تتناول مشکلة الهویة الیهودیة ومشاکل الفرد الإسرائیلی وعلاقته بمجتمعه فی فترة ما بعد حرب 1973 .
و أخیرا... لنا أن نعلم أن لوید جورج رئیس الوزارة البریطانیة التی أصدرت وعد بلفور قال إن الجنرال اللنبی(الذی قاد القوات الإنجلیزیة التی احتلت فلسطین)شن وربح آخر الحملات الصلیبیة وأعظمها انتصارا.
أنه التاریخ الموصول جیدا بین مشروع الممالک الصلیبیة والمشروع الاستعماری الذی أفضى إلى سایکس بیکو والمشروع الصهیونی الذی أفضى إلى إسرائیل.. وهو ما یسهل علینا فهم وتفسیر الاحتضان الأوروأمریکى لإسرائیل .. خنجر الغرب فی خاصرة درة الشرق وأم الدنیا.. کی تبقى أبدا معزولة عن محیطها الإستراتیجی شرقا.. وکی تبقى أبدا- لا سمح الله – کما یریدون لها أن تبقى.. معزولة.. محسورة... مذهولة...متعبة وهى الحقیقة التاریخیة التی أیقنتها أوروبا بعد حطین بنصیحة خبیثة من البابا أنوست الثالث وریتشارد ملک انجلترا..ولازالت حتى الآن..رغم الغطرشة المتقنة التی یضللونا بها..صرفا لنا عن جوهر الصراع.
أرجو أن لا نکون مثل الرجل الذی انخدع بالمحال فکذب بما رأى وصدق بما یسمع.
( المقال بقلم الدکتور هشام الحمامی )
م/ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS