التفاوض هو الخیار الأفضل المتاح حالیاً
فالرئیس بوش ونائبه تشینی کلاهما لا مستقبل سیاسی لهما بعد انتخابات الرئاسة فی نوفمبر القادم، وهنا مکمن الخطر فی الإدارة الحالیة التی تسیر منذ سبعة أعوام وفق أجندة خاصة بها.
إنَّ الموقف الأمیرکی من إیران هو بلا شک القضیة الأبرز الآن فی ملفات الإدارة الأمیرکیة، وقد امتنعت هذه الإدارة عن الأخذ بتوصیات مجموعة بیکر/هاملتون الداعیة إلى الحوار مع إیران عوضاً عن سیاسة التصعید المتواصل فی الأزمة معها. ولم تکن هذه الدعوة الأمیرکیة، الصادرة عن شخصیات بارزة فی الحیاة السیاسیة الأمیرکیة بوجهیها "الجمهوری" و"الدیمقراطی"، ناتجة عن رغبة بالتراجع أمام طهران أو بالتفاوض معها من موقع الضعف، بل کانت دعوة تستهدف تحقیق المصالح الأمیرکیة فی الشرق الأوسط بعد الأضرار الجسیمة التی أصابتها حصیلة النهج الحالی للإدارة الأمیرکیة.
الفرق بین نهج إدارة بوش وبین نهج توصیات بیکر/هاملتون، أنّ الأخیر یرید إضعاف إیران من خلال الحوار معها ومن خلال حلّ الصراعات الأخرى فی المنطقة التی تستفید طهران منها فی صراعها مع واشنطن. وهذا النهج المقترح یراهن على أنَّ الحوار مع طهران سیساعد على ترتیب الأوضاع فی العراق بأقل حجم من الخسائر الأمیرکیة.
نهج بیکر/هاملتون یرى أنَّ الحوار مع إیران فی ظلِّ الدعوة لمؤتمر دولی شبیه بمؤتمر مدرید عام 1992، سیعزّز أیضاً مکانة واشنطن على المستویین الإقلیمی والدولی وسیکسبها أصدقاء جدد دون خسارة أیٍّ من حلفائها الآن. وفی طیّات التوصیات مراهنة على اتفاق إسرائیلی/سوری بشأن الجولان المحتل، ینعکس إیجاباً على المسألتین الفلسطینیة واللبنانیة، إضافةً إلى انسجام سوری مستقبلی مع السیاسة الأمیرکیة فی المنطقة کما حدث مع مصر بعد معاهدة الصلح مع إسرائیل. لذلک کان من التوصیات أیضاً إشارة خاصّة إلى الحوار مع سوریا کعامل مساعد لنجاح الاستراتیجیة الأمیرکیة المنشودة للعراق وللمنطقة.
أمّا نهج إدارة بوش فهو یراهن على العزلة الدولیة لطهران من خلال الاعتماد على قرارات مجلس الأمن، کما یراهن على تصعید الأزمات الداخلیة فی فلسطین ولبنان، إضافةً إلى استمرار الموقف السلبی من دمشق.
إنّ الخیار المتاح لهذه الإدارة الأمیرکیة بالتصعید عسکریاً ضدّ إیران، هو خیار باهظ الثمن إقلیمیاً ودولیاً وأمیرکیاً، ولا تقدر الإدارة تمریره الآن دون مرجعیة مجلس الأمن أو الکونغرس الأمیرکی، ولا یتحمّل العالم نتائج ذلک اقتصادیاً وسیاسیاً وأمنیاً.
کذلک، فإنّ المراهنة على مزید من الضغوط على سوریا والمعارضة اللبنانیة وحرکة "حماس"، لم تحقق نتائج سیاسیة أفضل لإدارة بوش.
حتى المراهنات المشترکة مع إسرائیل على تصعید أجواء التوتّر السیاسی المذهبی فی المنطقة، وعلى توظیف أخطاء عربیة هنا أو إیرانیة هناک، لن تضمن تواجداً أمیرکیاً فاعلاً فی المنطقة، وستکون واشنطن هی الخاسر الدولی الأول، فما هی قدرة الإدارة الأمیرکیة على تدارک تفاعلات هذه الصراعات العربیة الداخلیة، وهی التی تتعثّر الآن فی ضبطها داخل العراق رغم وجود أکثر من 150 ألف جندی أمیرکی!.
إنّ الأطراف المتصارعة کلّها تعانی حالیاً من صعوبة التراجع واستحالة التقدّم. هی مرحلة امتزجت فیها رواسب الماضی السیء بحاضر سیاسة "الفوضى الخلاقة"، ونتائج هذا المزیج تهدّد أمن المنطقة کلّها ووحدة أوطانها کما تهدّد الاستقرار العالمی بأسره.
قد تکون هناک مراهنات عربیة وإقلیمیة على متغیّرات إیجابیة حصیلة الانتخابات الأمیرکیة القادمة، لکن ذلک لا یسقط أیضاً بعض المراهنات الإسرائیلیة على متغیّرات فی جغرافیة أوطان المنطقة وکیاناتها السیاسیة.
فصحیح أنّ حکومة طهران تحاول تحسین موقعها السیاسی، وتحصین وضعها الأمنی من خلال تحالفات وعلاقات مع أطراف عربیة، وصحیح أنّ هناک أخطاءً متبادلة حصلت فی المواقف أو التصریحات بین أکثر من طرف عربی وآخر، لکن صحیح أیضاً أن حجم التحدّیات والمخاطر لا یمیّز بین وطن عربی وآخر، ولا بین فئة وأخرى من المواطنین. فالأمّة العربیة کلّها تعیش الآن حال انقسام وصراعات فی ظلّ نموّ أطماع دولیة وإقلیمیة تستهدف الأرض والثروات ووحدة الشعوب.
إنّ ما یتطلّبه التضامن العربی، فی الحدَّ الأدنى الآن، ما زال غائباً ومعطلاً، بسبب انعدام الوفاق والتنسیق بین الریاض والقاهرة ودمشق، وما لذلک من تأثیرات سلبیة على الأوضاع فی کلٍّ من لبنان وفلسطین.
إنّ الفشل الراهن فی سیاسة إدارة بوش تجاه کلٍّ من العراق ولبنان وفلسطین، یکتمل الآن من خلال العجز الحاصل فی کیفیة التعامل مع الملف الإیرانی رغم قرارات مجلس الأمن. فواشنطن تدرک أنّ المشکلة مع إیران لا تُحلّ بمزید من القرارات، بل بأحد طریقین: الحرب أو التفاوض. وحتى الآن تتجنّب إدارة بوش خیار الحرب على إیران بسبب محاذیره العسکریة والسیاسیة والاقتصادیة، وتجد إدارة بوش نفسها أمام الخیار الآخر (أی التفاوض) فی ظل احتمال قبول الطرف الإیرانی بتجمیدٍ مؤقت للتخصیب النووی.
طبعاً، تدرک الأطراف المستهدفَة من قبل إدارة بوش أنّ صمودها کان مهمّاً فی کلّ السنوات الماضیة، لکنّها غیر قادرة الآن على التقدّم أکثر ممّا فعلت. أی أنّها وصلت إلى الحدّ الأقصى الممکن فی هذه المرحلة، وهو الصمود وعدم التراجع أمام حجم الضغوطات الکبیرة التی مارستها واشنطن، وما تزال، بالتعاون مع إسرائیل ومع أطراف دولیة ومحلیة.
إذن، یبدو من واقع حال إمکانات وظروف الإدارة الأمیرکیة، والأطراف التی تستهدفها هذه الإدارة فی منطقة الشرق الأوسط، أنّ التفاوض هو الخیار الأفضل المتاح الآن أمام الجمیع من أجل تحقیق تسویات تحقّق "سلاماً مؤقتاً" بینها، فی إطار مناخ دولی وإقلیمی مناسب لتنازلات ومکاسب على مستوى کل طرف.
( المقال للدکاور صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن)
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS