الرئیس بوشْ کانَ یشعُرْ .. أنَّ الزوالَ أقربْ !
لا أدری ما الذی حملنیْ وأنا أتأمَّل خطاب الرئیس الأمیرکی جورج بوش بثوبه الصهیونی الفاقع فی الکنیست الإسرائیلی مساء الخمیس الماضی للاحتفال بالذکرى الستین لاغتصاب فلسطین التاریخیة ونقلنی ذلک التأمل إلى التاریخ العربی القدیم وتحدیداً الوقوفْ عندَ شخصیة زعیم یهود بنی النضیر فی المدینة المنورة حیی بن أخطب .
ربما أن مفاصل حدیث الرئیس الأمیرکی معَ مفاصل الوقائع التاریخیة فی مواجهاتْ المجتمع العربی معَ الیهود المحاربین قدیماً وحدیثاً أعطت تلک الدلالات قد یراها البعض متناقضة وقد نراها نحن متوافقة ولکن خارج إطار الصورة التقلیدیة .
أما الموقف التاریخی فهو معروف بأن حیی بن أخطب زعیم یهود بنی النضیر حرَّض بنی قریظة على نقض العهد والتخطیط العسکری لاستهداف الرسول صلى الله علیه وسلم والمجتمع المدنی الإسلامی بمحاولة اغتیال للرسول الأکرم و بمساندة الحراک العسکری الذی نفذته قریش من خلال محاصرة المدینة المنورة هذا التحریض جاء فی وقت شعر فیه یهود بنی قریظة بأنهم فی حالة حرج شدید لاضطراب الأمور من حولهم فی حال نقضوا العهد وحاصرهم المجتمع العربی الإسلامی خاصة أن النبی صلى الله علیه وسلم والمجتمع المدنی الإسلامی قدَّم للیهود کل فرص التعایش والشراکة فی بناء الدولة المدنیة الإسلامیة بل والتزمَ لهم بأن ما علیهم على المسلمین ومالهم للمسلمین کما نصت على ذلک وثیقة المدینة التاریخیة .
لکن الأمرْ عند أولئک الیهود المحاربین کان على خلاف هذه العهود وهذا التسامحْ من الرسالة الإسلامیة الکبرى ولذا فقد نفذّوا العدید من محاولات الغدرْ والتواطؤ السیاسی والعسکری لتفتیت الدولة الإسلامیة وتصفیة قیاداتها أما حدیث حُیی بن أخطبْ زعیم بنی النضیر وقد أجلی بعد خیانتهم إلى خارج المدینة لکنه عادَ متخفیاً وأخذ یُحرِّض زعیم بنی قریظة کعب بن أسد رغم شعور بنی قریظة أن البؤرة الجغرافیة التی یعیشون فیها ستکون مهددة لو کرروا نقض العهد مع المسلمین إلا أنَّ إصرار حُیی بن أخطب واستحضاره للنصوص التوراتیة المحرفة وذات البعد الأیدلوجی العقائدی العمیق ثم التزامه لکعبِ بن أسد بأن یکون معه فی ساعة العُسرة جعل بنی قریظة یُقدمون على ما أقدموا علیه والذی کان بالفعل سبب زوال شوکتهم وتصفیة بؤرتهم الجغرافیة بعد خیانتهم العسکریة فی ظهر المسلمین خلال غزوة الأحزاب إلا أن التسامح الإسلامی فی نظام الحروب بعد محاسبة المقاتلة أمَّن کلَّ المدنیین من العقاب المعروف للخیانة العظمى وخرجوا سالمین .
ربما المقابلة کانت فی تحریض الرئیس الأمیرکی للإسرائیلیین بالتقدم نحو الحروب وخاصة العدوان على غزة والتغوُّل فی قتل المدنیین أو الحرب على لبنان وقد کان القوم یشرقون به فی کل لحظة وقد اصفرَّت وجوههم رغم غبطتهم به وتصفیقهم الحاد والهستیری لهذا الصهیونی الفرید الذی جاءَ لضمان أمن إسرائیل وشتمَ من على منبرهم حماس والجهاد الإسلامی والقاعدة .
ولربما تسائل البعض أی مقاربة نتحدث عنها وقد تمکن الیهود من اختراق الاقتصاد الخلیجی والهیمنة السیاسیة الاستراتیجیة على النظام الرسمی العربی مع مشاریع إسناد ضخمة لهم ولواشنطن تبدأ من الإعلام والنفط العربی ولا تنتهی بالسلاح الاستراتیجی الداعم لهم لکن الحقیقة التی یُدرکها الرئیس الأمیرکی والأصدقاء الصهاینة فی واشنطن وتل أبیب معاً بأن مسار الحرب والمواجهة مع الأمة العربیة قد انکسر بالفعل صعوداً لمصلحة العمق الإسلامی وهبوطاً لضمان أمن إسرائیل بل لضمان مجرَّد وجودها .
هذا الاهتزاز والرعب الذی ملأ صدور الیهود الصهاینة وحلفائهم لم یکنْ من خلال الضجیج من أی طرفٍ آخر یتصارع معهم أو یتوافق لمصالحه الإقلیمیة التوسعیه ولکنه عبر خط صعود ثابتْ فی ذلک الانکسار مثَّل حالة تقدم مضطردة فی إعادة بناء مفهوم ومنهاج المقاومة الإسلامیة فی الوطن العربی کانت صدارته وبلا تردد لدى حماس ومن ثمَّ المقاومة الإسلامیة الوطنیة العراقیة ومن یهتدی بهدیهم .
لقد شکلت الصدمة النفسیة للصاروخ الذی أطلقته ألویة الناصر صلاح الدین والجبهة الشعبیة القیادة العامة فاخترقَ الهدوء الیهودی فی عسقلان رسالة رمزیة مؤثرة لمعنى هذا التصاعد الاستراتیجی فی حضور المقاومة فی المشهد الأمنی الإسرائیلی الذی ظنَّ منذ مؤتمر مدرید 93 والنظام العالمی الجدید الذی بشر به الرئیس الأمیرکی جورج بوش الأب أن مرحلة الدفاع عن الکیان الصهیونی فی فلسطین المغتصبة عام 48 قد ولَّى وأن الحلف الصهیونی الأمیرکی إنما یطرح إعادة توظیف حدود الرابع من حزیران 1967 بعد قضـم مساحات شاسعة منها وسحب أی مقومٍ حقیقی للدولة الوطنیة السیادیة وبعد کل ذلک یبدأ الحوار مع العرب على ما تبقى ما الذی من الممکن أن تتصدق به واشنطن وتل أبیب إلى أصحاب الأرض.
لقد أضحت قضیة العودة فی الضمیر العربی وفی الحراک الضخم للمجتمع المدنی الفلسطینی والقومی والإسلامی خطاباً هادراً فی الشارع فی ذکرى النکبة بل أصبح الحدیث عن أنه لا معنى للتحریر إلا بالتحریر الأکبر لفلسطین التاریخیة والقدس کل القدس عقیدةً یُجَدد التبشیر بها هذه الأیام فی أوساط الشباب والأطفال من أبناء الشعب العربی عموماً والفلسطینی خصوصاً.
هذا السیل الهادر من الجموح المعنوی والمراجعة التاریخیة وتکرّس الموقف الأیدلوجی الإسلامی الصلب فی الضمیر العربی معَ کل مخالفات المشهد السیاسی المنهزم للنظام الرسمی العربی إلا أن هذا البعد أضحى وجدانیاً بعبعاً مخیفاً لتل أبیب وشرکائهم فی الکارثة فی واشنطن وإن طافَ کاهن الصهیونیة الأکبر بالعربِ بعد وعوده التوراتیة فی فلسطین فستبقى الحقیقة الممثلة على الواقعْ فی هذا التصاعد التاریخی لمعرکة العودة الکبرى حالة فکریة ووجدانیة وسیاسیة شعبیة لم یسبق للوطن العربی أن عاشها منذ نکسة حزیران .
ولا بد من أن نسجل الحقیقة بأن الفضل لتلک المعاناة والدماء من أبناء الشعب الفلسطینی التی دعمت المشروع التحرری المرکزی لحرکة المقاومة الإسلامیة فی فلسطین حماس فقد کان موقف حماس العسکری والأیدلوجی والتضامنی مع الأمة الرکیزة الاستراتیجیة وقاعدة الانطلاق للبعث العربی الإسلامی الجدید نحو الإیمان بالتحریر الأکبر .
ومن وراء هذا السیاق مواقف ونضالات عدیدة للقوى الفلسطینیة الأخرى من فصائل المقاومة والکفاح السیاسی ومن الحراک الثقافی الضخم لفلسطینی المهجرْ الذین قفزَ إنجازهم تاریخیاً منذ تحریر القرار الفلسطینی والرأی العام من هیمنة مشروع أوسلو الآثم .
ولذا فإن الرجل وإن کان تلبَّس بثوب الصهیونیة الدینیة ووعوده التوراتیة وهو یطمئنهم ویحرضهم على الحرب وهو فی قرارة نفسه وأهم من ذلک فی الضمیر الجمعی للیهود المحتلین قد باتوا أکثر من أی وقتٍ مضى یستحضرون عواقب ما فعلوه بالملایین من الأطفال والنسوة والعجزة الذین هُجّروا من فلسطین وقتّلوا وشرِّدوا لیستعمر أرضهم المشروع الصهیونی البدیل للأرض والتاریخ والإنسانْ فباتتْ أفئدتهم فارغة یحسبون کل صیحة علیهم .. فیخدعون أنفسهم بخطاب حیی بن أخطب الجدید .
( مهنَّـا الحبیل( الوطن الکویتیة) )
م/ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS