بوش یجعل حیاة المعتدلین العرب صعبة، بل مستحیلة
وفی خطابه المنتظر فی شرم الشیخ شن هجوما شدیدا على إیران وحزب الله وحرکة "حماس"، وعبر عن الإیمان العمیق بإمکان التوصل الى اتفاق سلام بین الفلسطینیین والإسرائیلیین قبل نهایة العام، دون أن یقدم شیئا یساعد فی تحقیق هذا الهدف، بل وضع شرطا على الفلسطینیین بضرورة محاربة "الإرهاب" حتى یحصلوا على الدولة الموعودة، وطالب العرب بتجاوز الغضب السابق تجاه اسرائیل، الأمر الذی خلف خیبة کبیرة وإحباطا لدى الفلسطینیین والعرب، خصوصا لدى المعتدلین منهم، الذین علقوا ولا زالوا یعلقون آمالهم عما یمکن أن یقدمه لهم سید البیت الأبیض، رغم أنه قضى حوالی ثمانی سنوات فی الرئاسة الأمیرکیة، أثبت فیها أنه أکثر الرؤساء الأمیرکیین دعما لإسرائیل، لدرجة أنه قدم ورقة الضمانات الامیرکیة التی اعتبرت وعد بلفور الأمیرکی لإسرائیل.
ولم یقتصر إحباط العرب المعتدلین مما تقدم، بل هالهم عودة الرئیس الأمیرکی الى المطالبة بالإصلاح والدیمقراطیة، لأن تحقیق تقدم فی الشرق الأوسط یتطلب اصلاحات اقتصادیة مصحوبة فی الوقت ذاته بإصلاحات سیاسیة. وانتقد بوش السیاسات المعهودة کثیرا فی الشرق الأوسط، حیث تکون البلاد عبارة عن رئیس أوحد فی السلطة ومعارضة فی السجن، وقال إن أمیرکا قلقة جدا من وضع السجناء السیاسیین فی المنطقة، ومن وضع الناشطین الدیمقراطیین الذین یضطهدون ویقمعون، ومن إغلاق الجرائد ومنظمات المجتمع المدنی وأضاف: حان لدول الشرق الأوسط أن تکف عن هذه الممارسات وأن تطلق السجناء وتشرکهم بالحوار السیاسی.
إن بوش مخادع لأنه تخلى عن دعوته للإصلاح والدیمقراطیة عندما وجد أن "حماس" فازت فی الانتخابات الفلسطینیة وأن "الإخوان المسلمون" حققوا نتائج جیدة فی مصر، وعاد لإعطاء الأولویة للاستقرار وما یعنیه ذلک من دعم للأنظمة القائمة، وبذلک یثبت أن الدیمقراطیة أداة من أدوات السیاسة الخارجیة الأمیرکیة وهی أمل أن تکون على مقاس المصلحة الأمیرکیة أو لا تکون أبدا.
إن عودة بوش لنبش مسألة الإصلاح والدیمقراطیة فی منطقة الشرق الأوسط تهدف لتحقیق عدة أهداف أولها: أنه یرید أن ینهی عهده وهو یطرح هذه القضایا الهامة حتى تسجل فی سجله فی محاولة لتبییض صفحته السوداء. وثانیا: أن بوش یرید أن یسلط الأضواء على قضیة الإصلاح والحریات الدیمقراطیة لحرف الأنظار عن القضایا الأخرى التی أخفق فیها إخفاقا تاما، خصوصا قضایا إیران والعراق ولبنان وفلسطین وسوریة وأفغانستان وغیرها. وثالثا: یرید أن یقول لملوک ورؤساء المنطقة أن یقبلوا بالسیاسة الإسرائیلیة خصوصا فی مجال الدعم المطلق لإسرائیل حتى وإن کانت سیاسة مهینة لهم، وألا فإنه سیفتح مجددا ملفات الاستبداد السیاسی والفساد المستشری فی بلادهم والأقلیات والحریات.
ورابع الأسباب التی دفعت بوش الى نبش قضیة الإصلاح والدیمقراطیة هو: غسل یدیه من وعده بإقامة الدولة الفلسطینیة لأن السبعة اشهر الباقیة على رئاسته لن تحمل تنفیذ هذا الوعد لأن إسرائیل غیر جاهزة للسلام وترید أن تفرض على الفلسطینیین الاستسلام الکامل وتصفیة قضیتهم من کافة أبعادها، وهم غیر جاهزین لذلک، لذلک أخذ بوش یتخلى عن وعده ویتحدث عن الاتفاق على ماهیة الدولة وحدودها کهدف للتحقیق خلال هذا العام.
فأکثر الفلسطینیین اعتدالا لا یستطیع أن یقبل الحد الأقصى الذی یمکن أن تطرحه اسرائیل، والذی یتضمن تصفیة قضیة اللاجئین والاحتفاظ بمعظم القدس والکتل الاستیطانیة والسیطرة على الأغوار وإقامة دولة فلسطینیة فی حدود الجدار، وضمن مقومات تجعلها محمیة إسرائیلیة ولا تحمل من مقومات الدول سوى الاسم. والدولة الفلسطینیة لا یمکن أن تقیم مؤسساتها القویة والشفافة وتحارب "الإرهاب" وتحقق الإصلاح والتنمیة وأرضها تحت الاحتلال. فمن یرید السلام ویرید دولة علیه أن یعطی الأولویة لإزالة الاحتلال.
إن ما سبق لا یعنی أن الإدارة الامیرکیة ستکف عن محاولاتها لفرض اتفاق على الفلسطینیین خلال هذا العام، اتفاق یکون إعلان مبادئ أو اتفاق إطار أو مهما کان اسمه، یساعد إدارة بوش على الادعاء بأنها أنجزت شیئا فی ملف الصراع فی الشرق الأوسط، ویساعد حلیفتها الاولى اسرائیل، ویساعد ایهود أولمرت على البقاء فی الحکم وربما النجاح فی الانتخابات الإسرائیلیة القادمة، ویعطی للرئیس أبو مازن ورقة تساعده على الاستمرار فی المفاوضات التی لم تتقدم ولم تحقق سوى نتائج کارثیة من خلال قیام اسرائیل باستخدامها للتغطیة على استمرار العدوان والاستیطان والجدار وخلق الحقائق على الأرض التی تجعل الحل الإسرائیلی هو الحل الوحید المطروح عملیا.
إن السیاسة الامیرکیة فی عهد بوش جعلت حیاة المعتدلین العرب صعبة، إن لم أقل مستحیلة، والرد علیها لا یکون بالاستمرار فی نفس السیاسة الفلسطینیة والعربیة التی تجاهلت العرب ومصالحهم وحقوقهم والاستخفاف بهم أمام العالم کله.
الحل یکمن فی جعل کل الخیارات والبدائل مفتوحة، ولیس الحدیث فقط عن إبقائها مفتوحة، والبقاء عملیا تحت رحمة الخیار الواحد الذی أدخلنا فی متاهة لا نعرف کیف نخرج منها؟
( بقلم الکاتب و السیاسی الفلسطینی هانی المصری )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS