qodsna.ir qodsna.ir

"رب ضارة نافعة" فی الاجماع العراقی على رفض "الاتفاقیة" مع واشنطن

 "رب ضارة نافعة"، مثل عربی شائع یتبادر الى الاذهان هذه الایام، ونحن نتابع انباء الاعتراضات والمسیرات الشعبیة العراقیة احتجاجاً على ما یسمى "اتفاقیة امنیة امیریکیة – عراقیة" وعلى نحو یشیر الى بروز اجماع وطنی عراقی مدرک لخطورة هذه الاتفاقیة ومصمم على رفضها خصوصاً انها باتت السهم الاخیر فی جعبة ادارة بوش  التی تغادر البیت الابیض فیما الفشل یحاصرها، والارتباک یزعزع صورتها منذ ان اتخذت قرار الحرب على العراق فاحتلاله قبل خمس سنوات ونیّف لیتصاعد بالمقابل الاعتراض الشعبی والسیاسی الامریکی بوجهها مع تصاعد الخسائر البشریة والاقتصادیة والسیاسیة والاخلاقیة الفادحة لتلک الحرب.

وعلى الرغم من المحاولات البائسة التی یبذلها الجانب العراقی المشارک فی توقیع "اعلان المبادئ" فی 26/11/2007 للتخفیف من مخاطر الاتفاقیة على الصعیدین العراقی والاقلیمی، فان هذا الجانب لا یستطیع ان ینکر حجم المخادعة والمراوغة الهائل الذی تبذله الحکومة الامریکیة للحیلولة دون عرض هذه  "الاتفاقیة" على الکونغرس الامریکی الذی لا یصادق الا على المعاهدات، وهذا ما یفسر التلاعب بالاسم  (اتفاقیة لا معاهدة) رغم ان المضمون هو مضمون معاهدات بالدرجة الاولى.

 کما لا یستطیع احد ان ینکر الحرص الامریکی على اخفاء دور المتعاونین مع المحتلین والمحاصرین فی "المنطقة الخضراء" والذین یکتشف العراقیون کل یوم مدى ضلوعهم، لا فی مشروع الحرب على بلادهم واحتلالها وتدمیر وحدتها فحسب، بل ایضاً فی مخطط ادامة هذا الاحتلال لبلادهم، ونهب خیراتها وتحویلها الى قاعدة عسکریة وسیاسیة ونفطیة هائلة للمشروع الامبراطوری الامریکی المترنح تحت ضربات المقاومة العراقیة الباسلة.

 واذا کانت خدعة "نقل السیادة" الى العراقیین والتی اشرفت على تمریرها الامم المتحدة فی 30/6/2004 لم تنطل على العراقیین، ولم تنجح فی تغطیة الاحتلال وقواته بالمسمیات الجدیدة " قوات متعددة الجنسبة" ، ولم تغیّر من واقع الاحتلال ومن ممارساته الوحشیة ضد شعب العراق بکل فئاته ومناطقه ومدنه، فان مصیر "الاتفاقیة" التی یجری التفاوض علیها لاعلانها فی 31/7/2008 لن یکون افضل من مصیر الخدعة السابقة خصوصاً مع شعب مجاهد ومجّرب وعریق فی اسقاط کل المعاهدات الاجنبیة والاحلاف الاستعماریة، کمعاهدة "بورتسموث" الشهیرة المعقودة مع سلطات الاستعمار الانکلیزی عام 1948، وکحلف بغداد السیء الصیت الذی اسقطته ثورة 14 تموز قبل نصف قرن تماماً، وکشرکة نفط العراق التی جرى تأمیمها فی 1/6/1972 لیستعید العراق سیطرته على موارده النفطیة والتی تحاول "الاتفاقیة" الجدیدة، و "قانون النفط" الموازی لها، وضع الید الامریکیة علیها.

قد یکون من المفید تبیان مخاطر ما تتضمنه الاتفاقیة المزمع اعلانها فی نهایة تموز (یولیو) القادم، سواء لجهة تقدیمها "ضمانات امنیة امیریکیة للعراق"، و "تسلیح وتدریب قوات الامن العراقیة"، و "مجابهة  تنظیمات المقاومة"، بذریعة مقاومة ما یسمى الارهاب "والذی منحت الاتفاقیة الجانب الامریکی " حق احتکار تفسیر الارهاب" لیطال کل مناهض للاحتلال"، وصولاً الى احتفاظ الجانب الامریکی "بحق السیطرة على الاجواء العراقیة  حتى ارتفاع 29 الف قدم"، کما احتفاظه "بحق اعتقال وسجن ای عراقی یعتقد الجیش الامریکی انه یشکل تهدیداً لامنه" و "بحق شن اعمال حربیة لملاحقة الارهاب من دون الرجوع الى الحکومة العراقیة"، و "بحصانة قانونیة للجنود الامریکیین تحول دون ملاحقتهم بغض النظر عن الجرائم التی یرتکبونها"، و"بحصانة قضائیة مشابهة للعاملین فی الشرکات الامنیة الامریکیة"، بالاضافة الى ما تردد من ان الجانب الامریکی یسعى فی بعض الملاحق السریة الى حیازة "حق انشاء سلسلة من القواعد العسکریة الامریکیة الدائمة ( وقد بدأ انشاء بعضها بالفعل) وهی قواعد لا تحتاج – حسب النص المقترح – الى تجدید الموافقة على وجودها لانها مرتبطة بالاتفاقیة التی یمتد عمرها الى 99 عاماً.

ومن المفید کذلک ان یقوم خبراء القانون الدولی بابراز مدى انتهاک هذه الاتفاقیة المعقودة بین محتل (بکسر التاء) ومحتل (بفتح التاء) للاتفاقیات الدولیة ذات الصلة والتی لا تسمح لمن کان یحتل بلداً اخراً ان یفرض على هذا البلد اتفاقات جائرة تمس سیادته الوطنیة وابسط مقومات استقلاله.

ومن المفید ایضاً التذکیر بان وظیفة هذه الاتفاقیات لا تنحصر بادامة الاحتلال الامریکی للعراق، بل وتحویله الى استعمار دائم، فحسب، ولا تسعى فقط الى اخراج العراق من انتمائه القومی ودوره الحضاری کما حاولت اتفاقیات (کمب دیفید) ان تخرج مصر من دورها القومی فی صراع الامة مع اعدائها، بل ان وظیفة هذا الاتفاق ایضاً هی فی  تحقیق الهدفین اللذین وقفا وراء حرب بوش على العراق وهما: اولا تأمین السیطرة على موارد النفط العراقی (وقد بلغت اسعاره ارقاماً قیاسیة، فیما المخاوف تتصاعد من احتمالات نضوبه مما یعطی للاحتیاطی النفطی العراقی اهمیة خاصة)، وثانیاً ضمان امن الکیان الصهیونی وقد بدا اکثر اهتزازاً وتصدعا ًمع تصاعد المقاومة الفلسطینیة، ومع انتصارات المقاومة اللبنانیة، ومع احتدام الصراعات الحزبیة والسیاسیة داخله.

لکن الفائدة الاکبر المرجوة من مواجهة هذه الاتفاقیة تکمن فی قدرة العراقیین (وقد توحدوا على مختلف مشاربهم وتیاراتهم ومکوناتهم الاجتماعیة على رفضها)، على ترجمة هذا الرفض الى تحالف وطنی عراقی عریض عابر لکل آلوان الطیف العراقی وقادر على الخروج  من حساسیات الماضی وجراحه، وحسابات الحاضر ومصالحه الضیقة، الى رحاب مشروع  الاستقلال الوطنی الناجز، والنظام الدیمقراطی التعددی الذی لا اقصاء فیه ولا استئثار، لا احتکار فیه ولا استبعاد، لا انکار فیه لحق الاخر ولا اغفال.

فالعراقیون الذین نجحوا خلال خمس سنوات ونیف ان یثبتوا للعالم باسره، وللامریکیین بشکل خاص، انهم باتوا بمقاومتهم وجهادهم وصمودهم، الرقم الاصعب فی المعادلة الامریکیة الداخلیة والخارجیة، والبند الاول فی جدول اعمال استحقاقاتهم الانتخابیة، التشریعیة والرئاسیة، مدعوون الیوم الى استکمال الانجازات التی حققوها عبر المقاومة بإنجازات ملموسة على طریق تحریر بلدهم والتعجیل باجلاء المحتل عن ارضهم، وهی انجازات یدرک کل عراقی، بالبداهة، ان تحقیقها مرهون بتلاقی القوى الوطنیة العراقیة، قومیة واسلامیة ویساریة ولیبرالیة، عربیة وکردیة وترکمانیة، حول برنامج المقاومة المرتکز على وحدة وطنیة داخلیة والمتطلع الى عراق عربی دیمقراطی موحد.

ان هذه الدعوة الواضحة التی حملها المخلصون للعراق قبل العدوان، وبعده، وطیلة سنوات الاحتلال، لا تنکر بالطبع حجم الجراح المتبادلة بین فئات عراقیة متعددة، ولا تقفز فوق اخطاء وخطایا وقعت قبل الاحتلال وبعده، ولا تغفل وجود حواجز، بل سدود، دمویة ونفسیة وسیاسیة، قامت بین العراقیین على مدى خمسین عاماً،  لکن هذه الدعوة تدرک فی الوقت ذاته ان دروس الماضی هی عبر نستفید منها لا سجون نبقى اسرى جدرانها، وانه اذا کانت حکایات التاریخ البعید والقریب، واساطیره احیاناً، تفرق بین العراقیین، فان ضرورات المستقبل توحد بینهم، وای ضرورة اهم من رؤیة العراق محرراً موحداً، عربیاً دیمقراطیاً، قادراً على صون موارده وتطویر طاقاته وامکاناته.

اما تجارة الایقاع بین العراقیین فهی بلا شک تجارة رائجة یجیدها منتفعون کثر بمحنة العراق من داخل ارض الرافدین وخارجها، وهی قادرة بوسائل متعددة، ان تحاصر ای تحرک یرید توحید الطاقات والجهود، وتضع بین دوالیبه العصی، وعلى طرقاته الالغام المتفجرة، ویجهل اصحاب هذه التجارة قوله تعالى فی کتابه العزیز "أُولَئِکَ الَّذِینَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا کَانُوا مُهْتَدِین".

فأبناء العراق مدعوون الى التوحّد فی مواجهة الاحتلال وافرازاته وفی مقدمها "اتفاقیة التعاون والصداقة بین جمهوریة العراق والولایات المتحدة الامرکیة" کما جاء فی "اعلان المبادئ" الذی صدر فی الخریف الفائت متناسیاً ان التعاون والصداقة تقوم بین دولة مستقلة وحرة وذات سیادة لا بین خاضعین لاملاءات المحتل وبین اسیادهم المحتلین..

اما ابناء الامة واحرار العالم فمدعوون الیوم اکثر من ای وقت مضى الى الالتفاف حول مقاومة العراقیین ونضالهم والامتناع عن اعطاء اشارات مؤذیة وخاطئة یستخدمها المحتل وادواته للایحاء "بسلامة وضعهم"، و"قوة موقفهم"، و"شرعیة منظومتهم"، وبأن اعترافاً عربیاً واسلامیاً یتصاعد "بحکومة" لا تجرؤ ان تقیم خارج تحصینات المنطقة الخضراء، بل ان سفارات عربیة تفتح من جدید فی بغداد المحتلة اذعاناً لاوامر بوش فی زیاراته الاخیرة، فیما کان ینتظر العراقیون ومعهم احرار الامة ان تفتح عواصم اشقائهم العرب ذراعیها لرجال المقاومة العراقیة وممثلیها.

والمفارقة فی هذا کله انه یجری فیما الدول المتحالفة مع واشنطن تسحب جنودها من العراق، الواحدة تلو الاخرى (واخرهم بولندا)، وفیما الناخب الامریکی یتجه لانتخاب مرشح رصیده الاکبر فی بلاده انه کان وحیداً فی الکونغرس ضد الحرب على العراق قبل اعلانها، ووحیداً بالدعوة منذ سنوات الى سحب قوات بلاده من بلاد الرافدین.

( للکاتب معن بشور )

ن/25


| رمز الموضوع: 139555