حتى لا نقع فی فخ أوسلو مرة أخرى
وضعت "تهدئة غزة أولاً" شعبنا الفلسطینی أمام مرحلة حاسمة وخطیرة من مراحل الصراع الفلسطینی–الصهیونی، فإما أن تؤدی هذه المرحلة بشعبنا إلى ما هو أسوأ مما أوصلته إلیه عملیة أوسلو، وإما أن تؤدی به إلى إعادة صیاغة النظام السیاسی الفلسطینی وفقاً للشرعیة الفلسطینیة وانسجاماً مع إرادة شعبنا.
لا شک أن التهدئة فی هذا الوقت أمر ملح وضروری للشعب الفلسطینی، الذی خرج منتصراً من جولة من جولات الصراع الشرس مع العدو الصهیونی، عانى شعبنا خلالها الأمرین، وتحمل من الصعاب والأذى ما لم تستطع أن تتحمله الجبال الشم. ولم تکن معاناة شعبنا بسبب الحصار الظالم على غزة والممارسات القمعیة والإجرامیة الصهیونیة فحسب، وإنما کذلک بسبب الموقف الشعبی العربی الضعیف والمتخاذل، فی ظل تآمر دولی على القضیة الفلسطینیة، تشارک فیه أطراف رسمیة عربیة. فکان لا بد من تهدئة مؤقتة تکون بمثابة استراحة محارب، یلتقط فیها شعبنا أنفاسه المتعبة، ویستعد لجولة جدیدة وحاسمة من الصراع مع أعدائه، الذین أتقنوا حیاکة مؤامراتهم ورسم مخططاتهم لهذه الجولة.
وفی ظل حالة الانقسام الحاد الذی یعیشه شعبنا، لا أحد یستطیع أن یتوقع إلى أین ستأخذ شعبنا هذه التهدئة، التی فتحت جولة جدیدة من العراک السیاسی فی الساحة الفلسطینیة، بین القوى السیاسیة الفلسطینیة نفسها، وبین الفلسطینیین والاحتلال الصهیونی. فإصرار فریق نهج التسویة السیاسیة على مواصلة التساوق مع الولایات المتحدة الأمریکیة والتعاون الأمنی مع الاحتلال الصهیونی ضد المقاومة الفلسطینیة، یؤجج الصراع الداخلی ویکرس حالة الانقسام، مما یضعف شعبنا ویجعل من الصعب علیه مقاومة المخططات الصهیوأمریکیة.
ولذلک فإن انتصار شعبنا فی هذه الجولة الحاسمة، ونجاحه فی تجاوز هذه المرحلة الخطیرة، یعتمد على قدرته على إحداث توافق داخلی فلسطینی یقوم على الالتزام بالشرعیة الفلسطینیة وعدم الضرب بإرادة شعبنا عرض الحائط والانجرار وراء الوعود الأمریکیة الکاذبة، خاصة أن تلک الوعود ثبت أن هدفها هو خداع الشعب الفلسطینی وإلهائه وحرف مسیرة جهاده، وتمکین الاحتلال الصهیونی من مواصلة الإجراءات الأحادیة الجانب، التی تهدف إلى تکریس الاحتلال وتجزئة الشعب الفلسطینی ونهب أرضه.
إن خطورة هذه المرحلة الجدیدة تکمن فی محاولة توظیف الاحتلال الصهیونی والولایات المتحدة الأمریکیة معاناة شعبنا وحصار غزة وحالة الانقسام الفلسطینی لجر حرکة المقاومة الإسلامیة "حماس" إلى مستنقع التسویة للقضیة الفلسطینیة. فإن نجحت هذه المحاولة، نکون قد وصلنا إلى ما هو أسوأ بکثیر من أوسلو، إذ من المتوقع – کما تنص اتفاقیة التهدئة فی مراحلها المتقدمة – أن تضطلع قوات عربیة ودولیة بمهمة التعاون الأمنی مع الاحتلال الصهیونی والمشارکة فی تحجیم المقاومة الفلسطینیة وتفکیک بنیتها، وهی المهمة ذاتها التی کانت یتولى تنفیذها عدد من أجهزة سلطة أوسلو بمقتضى اتفاقیات أوسلو.
أما إذا رفضت حرکة حماس الانجرار إلى هذا الشرک الکبیر، وهذا ما نتوقعه ولا نتوقع غیره، فإن الولایات المتحدة الأمریکیة ستطلب من سلطة أوسلو رفض أی محاولة تقوم بها حرکة حماس لإنهاء حالة الانقسام، وسیحرک الاحتلال الصهیونی عناصره فی غزة لإثارة الفتنة والفوضى والانفلات الأمنی، لیضمن إبقاء وضعنا الفلسطینی على ما هو علیه من السوء، ولیستمر فی إنجاز مخططاته ،التی تهدف إلى تجزئة الشعب الفلسطینی وتهوید مدینة القدس المحتلة والتوسع الاستیطانی الرأس والأفقی. وفی المقابل، ستستمر المفاوضات العبثیة بین فریق التسویة وحکومة الاحتلال الصهیونی، وستستمر حرب أجهزة عباس وفیاض على المقاومة، ولذلک لا بد من رهن التهدئة فی غزة بوقف تعاون هذه الأجهزة أمنیاً مع قوات الاحتلال الصهیونی.
ولتحویل التهدئة إلى نصر حقیقی للشعب الفلسطینی، لا بد من توظیف فترة التهدئة لرأب الصدع الفلسطینی وإنهاء حالة الانقسام الداخلی، وإعادة بناء النظام السیاسی الفلسطینی على أسس وطنیة وسیاسیة سلیمة، وعدم السماح لفریق التسویة الاستمرار فی مفاوضاته العبثیة والتمادی فی انصیاعه للإملاءات الأمریکیة والصهیونیة على حساب شعبنا وقضیته. کما لا بد من التأکید على إلزام القوى السیاسیة الفلسطینیة کافة بالشرعیة الفلسطینیة وإجبارهم على احترام إرادة الشعب الفلسطینی وخیاراته، وذلک عبر تثبیت شرعیة حرکة حماس وفک عزلتها العربیة والدولیة وعدم عرقلة عملیة الإصلاح التی بدأتها.
کما لا بد من مواصلة تطویر المقاومة الفلسطینیة وزیادة قدرتها على مواجهة الاحتلال، الذی لا یزال یتوعد غزة بحرب شرسة حتى بعد أن دخلت التهدئة مرحلة التنفیذ. فالمقاومة هی وحدها القادرة على کبح جماح الاحتلال ومنعه من شن حرب واسعة على غزة والدفاع عن شعبنا ومقدساتنا وأرضنا، وهی الوسیلة الوحیدة التی یمتلکها شعبنا لإفشال المخططات الصهیوأمریکیة الرامیة إلى تصفیة القضیة الفلسطینیة وإعادة صیاغة منطقتنا وفق المطامع الصهیوأمریکیة.
إن التصریحات الأمریکیة والصهیونیة تؤکد أن الهدف الحقیقی من وراء التهدئة هو القضاء نهائیاً على نهج المقاومة وتکریس النهج الاستسلامی، ولذلک فقد لقیت هذه التهدئة موافقة صهیونیة وتشجیعاً أمریکیاً وأوروبیاً. فمثلاً، صرح نائب المتحدث باسم الخارجیة الأمریکیة "توم کیسی" بأن الهدف من التهدئة هو إجبار المقاومة الفلسطینیة على إلقاء سلاحها، ولیس فقط وقف إطلاق النار، زاعماً أن اتفاقیة التهدئة فی غزة لن تخرج حرکة حماس مما وصفه بالعمل الإرهابی.
( للدکتورمحمد اسحق الریفی )
ص/ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS