معرکة الاستیطان فی القدس و الارهاب الصهیونی
تقریر وکالة قدسنا /القدس المحتلة
تصحو السیدة نادیا الکرد من نومها، وتتوجه فوراً الى ساحة منزلها الواقع فی حی الشیخ جراح فی القدس المحتلة لفحص ما إذا کان المستوطنون الیهود المقیمیون فی جزء من المنزل، ألحقوا فیه أی ضرر جدید.
تجد نادیا، وهی فی أواخر الخمسینات من العمر، کومة من النفایات فی الحدیقة، فتحملها وتلقی بها أمام باب البیت الذی استولى علیه المستوطنون، وهی تصرخ فیهم طالبة منهم أن یتوقفوا عن إلقاء نفایاتهم علیها. ومن على سطح البیت، یطل علیها مستوطن لا یتجاوز السادسة عشرة مرتدیاً زیاً أسود وقبعة وتتدلى على کتفیه جدیلتان سوداوان، ویرمقها بنظرات تتفجر غضباً من دون أن ینبس ببنت شفة.
بیت الکرد واحد من أربعة بیوت فی قلب حی الشیخ جراح الفلسطینی وسط القدس المحتلة سیطرت علیها الجمعیات الاستیطانیة الیهودیة فی السنة الأخیرة، وزرعت فیها مستوطنین معظمهم من الشباب المستعدین دوماً للقتال.
ویمکن التعرف على البیوت الأربعة بسهولة فی الحی، فمنها تتدلى عشرات الأعلام الصهیونیة، الکبیرة منها والصغیرة، وأمامها یتجمع عدد من المستوطنین المتطرفین بزیهم الأسود. یتبادل أصحاب الحی والمستوطنون نظرات الغضب والحقد، وأحیاناً یشتبکون بالأیدی، فتأتی الشرطة وتعتقلهم، لتفرج لاحقاً عن الیهود فیما تخضع الفلسطینیین للمحاکمة بتهمة الاعتداء على مواطن إسرائیلی.
ویقول تقریر نُشر یوم امس السبت، فی وسائل إعلامٍ مختلفة، أن حی الشیخ جراح لیس استثناء، فکل الأحیاء فی هذه المدینة الفلسطینیة المحتلة منذ عام 1967، والتی یصل عدد سکانها الى 270 ألف مواطن، یتعرض لحرب استیطانیة یومیة مفتوحة تهدف الى السیطرة على أراضیها وعلى کل بیت وحجر فیها، وتغییر ملامحها من عربیة الى یهودیة، وخلق حقائق على الأرض یصعب معها إیجاد حل قائم على الفصل.
وکان النشاط الاستیطانی فی المراحل الأولى منصباً على البلدة القدیمة التی تشکل روح القدس، وعلى بناء مستوطنات جدیدة محیطة بالمدینة. لکنه انطلق الى بقیة أحیاء القدس وضواحیها بعد مفاوضات "کامب دیفید" عام 2000 التی اقترح فیها الرئیس الأمیرکی السابق بیل کلینتون تقسیم المدینة على نحو تُمنح فیه الأحیاء الفلسطینیة الى الدولة الفلسطینیة، والأحیاء الیهودیة الى الدولة العبریة.
ویقول التقریر أن حکومة الاحتلال ومعها الجمعیات الاستیطانیة المتطرفة والبلدیة الیمینیة فی القدس، اتبعت منذ اقتراح کلینتون سیاسة تقوم على عدم ترک جزء عربی خالص فی المدینة.
وتسیطر الجمعیات الاستیطانیة على 70 بؤرة استیطانیة فی البلدة القدیمة التی تبلغ مساحتها کلیومتراً مربعاً واحداً.
وقال رئیس دائرة الخرائط فی جمعیة الدراسات العربیة فی القدس خلیل التفکجی أن "إسرائیل" اتبعت أربع طرق للسیطرة على مبانی البلدة القدیمة هی: السیطرة على مبانٍ بحجة الأمن، ومصادرة أملاک الغائبین، والسیطرة على أملاک یهودیة قدیمة، والسیطرة على مبانٍ عبر عقود استخدام من جانب مستأجرین.
ومن بین البیوت التی سیطر علیها المستوطنون فی البلدة القدیمة من القدس، فندق "مار یوحنا" الذی یضم 24 غرفة فندقیة، وبیت شارون المؤلف من ثلاث طبقات وغیره.
ویُفاجأ المتجول فی قلب البلدة القدیمة من القدس بوجود البؤر الاستیطانیة فی کل شارع وزاویة، فی حین انصبّ الاستیطان فی المرحلة الثانیة على الأحیاء المحیطة فی البلدة القدیمة مثل حی الشیخ جراح ووادی الجوز وسلوان وجبل المکبر وراس العمود والصوانة ووادی حلوة وغیرها.
وتظهر البؤر الاستیطانیة فی قلب هذه الأحیاء، وتوسّع بعض هذه البؤر لیشمل مئات الوحدات الاستیطانیة. ویمکن للزائر لهذه الأحیاء أن یتعرف على البؤر والأحیاء الیهودیة فی قلب الأحیاء الفلسطینیة من خلال الأعلام الصهیونیة التی ترفرف على المبانی، أو من خلال البنیة التحتیة المنظمة التی حظیت بها تلک الأحیاء من خدمات البلدیة.
ففی جبل الطور، یمتد حی استیطانی مؤلف من 200 وحدة سکنیة فی قلب الجبل بشوارعه الحدیثة وحدائقه وشبکة کهربائه المختلفة التی تمیزه عن الأحیاء العربیة الفقیرة ذات الشوارع القدیمة المُحفّرة والخالیة من الحدائق والمرافق العامة.
ویدفع أهالی القدس ضریبة للبلدیة مماثلة للضریبة التی یدفعها الیهود، لکن المستوطنین فی القدس یحظون بخدمات حدیثة متطورة لا یحظى بمثلها أصحاب المدینة الذین یشارکونهم "الغرم دون الغنم".
أما الحلقة الثالثة من الاستیطان فی القدس، فهی المستوطنات التی تحیط بالمدینة کالسوار بالمعصم وعددها 18 مستوطنة یقطنها 200 ألف مستوطن. وکانت "إسرائیل" أعلنت ضم القدس بعد احتلالها عام 1967. وفی السنوات التالیة ضمت إلیها عشرات الکیلومترات من الأراضی المجاورة. وقال التقریر إن مساحة القدس قبل عام 1967 کانت ستة کیلومترات مربعة، وعملت "إسرائیل" على توسیعها الى 72 کیلومتراً مربعاً.
ویشق جدار الضم والتوسع العنصری طریقه وسط المدینة متنقلاً من بیت إلى بیت لعزل القدس عن الضفة الغربیة، کما یُخرج الأحیاء العربیة المکتظة من المدینة. وبحسب الباحثین فی شؤون المدینة، فإن عدد سکان المدینة الذین أخرجهم الجدار منها وصل الى مئة ألف مواطن.
ویتواصل البناء الاستیطانی الیهودی فی القدس من دون توقف على رغم استئناف المفاوضات.
وتهدف عملیات التجریف الجاریة فی الجبل الى بناء 50 وحدة سکنیة استیطانیة جدیدة. ویحمل الحی الاستیطانی الجدید فی جبل المکبر اسم المستوطنة المقامة فی الجبل وهی "ارمونا نتسیف".
وتقف وراء النشاط الاستیطانی فی القدس حکومة الاحتلال والبلدیة والجمعیات الاستیطانیة مثل "العاد" و"کوهانیم" و"عطیرت کوهانیم" وغیرها. وتتلقى هذه الجمعات تبرعات سخیة من أثریاء یهود حول العالم مثل الملیاردیر الشهیر موسکوفتش.
وبینما تتولى الحکومة إقامة أحیاء ومستوطنات جدیدة، تتولى الجمعیات الاستیطانیة الاستیلاء على البیوت والمبانی العربیة عبر طرق مختلفة. ففی حی الشیخ جراح، جرى الاستیلاء على البیوت الأربعة بحجة خرق عقد الإیجار، علماً أن البیوت بنیت عام 1952، أی قبل احتلال المدینة وضمها.
وقالت الناشطة فی الحی أمل القاسم أن البیوت الأربعة جزء من 28 بیتاً تعمل جمیعة یهودیة متطرفة تحمل اسم "نحلات شمعون" على السیطرة علیها. وأضافت أن المبانی الـ 28 أقامتها "وکالة الأمم المتحدة لغوث وتشغیل اللاجئین الفلسطینیین" (اونروا) على أراضٍ حکومیة لإسکان لاجئین فروا من بیوتهم تحت القصف الإسرائیلی عام 1948.
وفی حی سلوان، أعادت البلدیة المتطرفة بعث التاریخ القدیم لتبریر إزالة حی کامل فی البلدة مؤلف من 88 بیتاً هو حی البستان. وتقدم البلدیة روایة "تلمودیة" لهدم الحی تفید أن الملک داود کان یتمشى فی هذه الأرض التی أقیم علیها الحی، وأنها ترید إعادة إنشاء حدیقة باسمه بعد إزالة الحی.
وقال فخری ابو ذیاب أحد أصحاب البیوت التی شلمها قرار الهدم أن البلدیة ترید تغییر معالم المنطقة الواقعة على بعد 70 متراً فقط من السور الجنوبی للمسجد الأقصى، من إسلامیة یهودیة ضمن سیاستها الرامیة الى تهوید المدینة وتشرید سکانها. وأضاف أن البلدیة عرضت على أصحاب البیوت الـ 88 عبر محامیهم أن تمنحهم أراضی فی منطقة أخرى خارج المدینة لیقیموا فیها بیوتاً بدیلة من التی سیجرى هدمها، لکنهم رفضوا.
وتضم بلدة سلوان، التی تعتلی جبلاً مطلاً على المسجد الأقصى 50 ألف مواطن. ولم تحمها طبیعتها الجبلیة الوعرة وشدة اکتظاظ سکانها، من المستوطنین الذین استولوا على بنایة تقع وسطها وأقاموا فیها. ویقول أهالی البلدة أن شرطة الإحتلال توفر دوریات على مدار الساعة لمرافقة المستوطنین الذین یسکنون فی هذه البنایة الواقعة فی قلب بلدتهم.
وبدأت "إسرائیل" سیاسة خاصة فی القدس منذ احتلالها عام 1967 مختلفة عن تلک التی اتبعتها فی بقیة أنحاء الضفة. وشملت هذه السیاسة هدم وإزالة أحیاء سکنیة برمتها، ومصادرة أراض وإقامة مستوطنات علیها، وتخصیص أکثر من نصف مساحة المدینة للحدائق العامة "ارض خضراء". وحددت البناء بـ 12 فی المائة فقط من أراضی المدینة، وفرضت رسوماً باهظة على إقامة المبانی تصل الى 30 ألف دولار للمسکن الواحد. وعمدت الى هدم کل مبنى یقام من دون ترخیص.
وفی البناء، اتبعت "إسرائیل" سیاسة تقوم على عدم منح رخص بناء على أی ارض لیس فیها سند ملکیة "طابو"، وهو ما أدى الى حرمان أهل المدینة من البناء فی نصف المساحة المخصصة للبناء. ثم جاء الجدار الفاصل الذی التف حول المدینة بطول 207 کیلومترات، وصادر منها نحو 40 دونماً، وهدم فی طریقه عشرات المبانی والمنشآت. وتشیر إحصاءات متطابقة الى أن "إسرائیل" هدمت منذ احتلال المدینة أکثر من 8500 مسکن بذرائع وحجج متنوعة.
وبدأت "إسرائیل" سیاستها الرامیة للاستیلاء على ارض القدس وتغییر المیزان الدیموغرافی فیها، منذ الیوم الأول لاحتلال المدینة. ففی الحادی عشر من حزیران (یونیو) عام 1967، أقدمت على هدم حی المغاربة وحی آخر فی محیط المسجد الأقصى. وکان حی المغاربة یضم 135 مبنى بین بیت ومدرسة ومسجد ومنشأة. وفی محیط المسجد الأقصى، هدمت "إسرائیل" 200 بیت ومبنى، ثم هدمت فی الفترة نفسها قرى اللطرون الثلاث الواقعة شمال غربی المدینة التی کانت تضم خمسة آلاف بیت ومبنى.
ومنذ عام 1973، اتبعت "إسرائیل" سیاسة تهدف الى الحفاظ على ما تسمیه "غالبیة یهودیة" فی القدس الکبرى التی تضم القدس الشرقیة والغربیة بحیث لا تزید نسبة العرب عن 22 فی المائة من إجمالی سکان المدینة. وأوقفت المصادقة على کل المخططات الهیکلیة للقرى والتجمعات الفلسطینیة. وأصدرت قانوناً یمنحها الحق فی مصادرة بطاقة الهویة من أی مواطن مقدسی یمضی سبع سنوات خارج المدینة أو یحصل على جنسیة دولة أجنبیة.
ودفع حرمان أهالی القدس من البناء على أرضهم بالطرق القانونیة الى اللجوء الى البناء غیر المرخص، وهو ما وجدت فیه "إسرائیل" فرصة لهدم عدد کبیر من المبانی الجدیدة. وبحسب إحصائیة لمرکز أبحاث الأراضی، فإن 20 ألف مسکن فی القدس مهددة بالهدم نتیجة ما تسمیه "إسرائیل" "مخالفات بناء".
وتصل احتیاجات النمو الطبیعی للمواطنین الفلسطینیین فی القدس الى ألفی وحدة سکنیة سنویاً، ما یدفع المواطنین، تحت ضغط الحاجة، الى البناء من دون ترخیص، الأمر الذی یعرض مبانیهم الى الهدم.
وتشکل بلدة سلوان النموذج الأوضح للبناء من دون ترخیص. وقال ابو دیاب: "لیس أمامنا خیار آخر، فهم یرفضون منحنا تراخیص للبناء وإقامة بیوت لأبنائنا لدفعهم الى الهجرة، وبالتالی فقدان حق الإقامة فی المدنیة، لذلک نحن نبنی وهم یهدمون".
انتهی / شا / 24