مجزرة "الحریة" تفضح الکیان الصهیونی

الصورة بدأت تتغیّر ونتائجها ستکون محددة فی المستقبل بالنسبة إلى الأطراف المعنیة بالصراع العربی/ الإسلامی – الإسرائیلی، وهنا رصد لأهم التغیرات التی ستحدث مستقبلا، وهی تطورات وإنْ تبدو صعبة للبعض ممن یقیسون الأشیاء بمعاییر اللحظة، فهی لا محالة آتیة لأن الجرائم الإسرائیلیة التی تزداد مع کل مرة عنصریة وتحدیا للقیم الإنسانیة وللمواثیق الدولیة لا یمکن أن تظل إلى الأبد هکذا بلا رد:
أولا؛ بالنسبة إلى إسرائیل فقد کشفت تلقائیة المظاهرات التی اندلعت فی المدن العالمیة شرقا وغربا أن هذا الکیان العنصری بدأ یفتضح أمره وأن خطابه المضلل حول "الدیمقراطیة" والدفاع عن "القیم الغربیة" فی مواجهة "الإرهاب" لم یعُد قادرا على إخفاء جوهره العنفی المتناقض مع القیم الکونیة ومع المواثیق الدولیة.
وقد بدت الدول الحلیفة له عاجزة أمام مجزرة "الحریة" عن إصدار بیانات تحفظ ماء الوجه لهذا الکیان الذی تأسس على الإرهاب ولا یستطیع أن یعیش إلا به، فقد تخللت بیانات الدول "الصدیقة" عبارات الدهشة والصدمة وعدم التصدیق، وهی کلمات تعنی أن هذه الدول لم تعد تستطیع إخفاء الحقیقة بعد الآن ولا الوقوف فی وجه الاحتجاجات الدولیة ضد الجرائم التی ترتکب ضد الإنسانیة.
ولعل المفارقة بالنسبة إلى الإسرائیلیین أن أمریکا "الحلیف الاستراتیجی والتی یعنّ للکثیرین أن یقولوا إنها تأتمر بالأوامر الإسرائیلیة" لم تستعمل حق الفیتو لأول مرة ضد بیان یدین إحدى جرائم إسرائیل حتى وإنْ کان بیانا هادئا ومعوّما، لکنه أدان عنفها وقتلها وعنجهیتها ودعا صراحة إلى إنهاء الحصار الذی تفرضه على غزة..
مجزرة "الحریة" أول شرخ حقیقی فی جسد العنصریة الصهیونیة والأکید أن الشروخ ستتکاثر وستتسع..
ثانیا؛ لا شک أن أهم المنتصرین فی معرکة الضمیر الإنسانی ضد الصلف والإرهاب هی ترکیا لأنها اجترأت على محو الهالة التی یحیط بها الکیان الصهیونی ذاته بکونه "دولة تنتمی إلى العالم المتحضر"، وأعادت صورته إلى طبیعتها لیکتشفه العالم کما هو کیانا یؤمن بالقتل العبثی ویمارس أبشع الجرائم ولا قیمة للقانون الدولی عنده.
والمثیر هنا أن ترکیا نجحت فی أن تثیر الأسئلة من جدید حول یهودیة الکیان الصهیونی، فقد تحرکت منظمات وشخصیات یهودیة لتتبرأ من هذه الصورة القبیحة التی ترسمها إسرائیل للیهودیة کأحد الأدیان الإبراهیمیة الثلاثة، وهی أدیان تنهض على الکثیر من المشترک وتستطیع أن تتحاور وتتناقش لبناء عالم یسوده الأمن والوفاق والتسامح، وهی قیم تدوس علیها إسرائیل صبح مساء.
لقد صنعت ترکیا نجومیتها فی الشرق الأوسط حین قالت للجمیع، وخاصة للأنظمة العربیة الخائفة المرتعدة، أن الجرائم الصهیونیة لیست قدرا وأن لجم إسرائیل وإجبارها على الالتزام بالقوانین الدولیة ممکن التحقق وإلا فإن العالم سیتحول إلى غابة یأکل القوی فیها الضعیف.
ترکیا تحولت إلى أمل لیس فقط إلى الشعب العربی الذی لم یجد من یقول لإسرائیل کفى، بل إلى کل المنظمات والشخصیات السیاسیة والفکریة والإعلامیة بالعالم التی ترید أن یتساوى الجمیع أمام القانون الدولی وأن تکف بعض الدول "الکبرى" عن الکیل بمکیالین فی التعاطی مع التجاوزات واختراق القوانین الدولیة.
لا شک أن ترکیا ستقود "ثورة الصغار" ضد سطوة القوى الکبرى وخاصة أمریکا التی تتحمل وحدها، کما قال القائد القذافی، وزر الجرائم الصهیونیة، وقد بدأت هذه الثورة فعلا من خلال الاتفاق الثلاثی الترکی الإیرانی البرازیلی فی خصوص النووی الإیرانی والتی رفضته أمریکا لأنه یعنی الاعتراف بنجومیة أردوغان وإضفاء الشرعیة على اتجاهه شرقا وإمضائه الکثیر من الاتفاقیات ذات الأبعاد الاستراتیجیة مع سوریا والسعودیة وإیران وغیرها.
وهناک من المحللین من قال إن الکومندوس الإسرائیلی تعمد استهداف الأتراک ضمن قافلة الحریة لیضع أردوغان فی مأزق ویحرجه مع الجماهیر التی تصفق له وهناک من یقول إنها تلقت الضوء الأخضر من واشنطن لممارسة الجریمة وأن إلغاء اللقاء المبرمج بین أوباما ونتنیاهو کان مسرحیة، لکن السحر انقلب على الساحر وخرج أردوغان أکثر شرعیة وشعبیة ونجومیة فی العالم وانحصر نتنیاهو فی الزاویة.
ثالثا؛ أما عربیا فإن الصورة لا تحتمل الکثیر من الانتظار والتسویف کما تفعل الجامعة العربیة عادة، فالفرصة مواتیة الآن لأن یغادر العمل العربی وخاصة الزعماء المؤثرین دائرة الصمت التی ضیعت علیهم الکثیر من فرص الفعل واستعادة المبادرة خاصة أن الضمانات الأمریکیة التی تقدم إلیهم کانت دائما بلا قیمة بل أعطت الضوء لإسرائیل کی تزید من حجم جرائمها.
الآن لا خیار إلا الضغط الدبلوماسی على الإدارة الأمریکیة کی تکف عن الکذب والتسویف وترفع غطاءها عن إسرائیل، وإذا لم تستجب فلیرموا بالمفاوضات إلى الجحیم ولْیعطوا الحریة للشارع العربی کی ینتفض ولْتستعد الأمة خیار المقاومة.
أیها الزعماء احذروا فإن الاستمرار فی الصمت یفتح الأبواب أمام تغیرات لا أحد یتحکم فیها أو یکون بمنأى عن تداعیاتها.
( عن العرب اللندنیة )
ن/25