إکراهات التفاوض: «رخصة وطنیة» لاستمرار احتلال مقنّع!
إکراهات التفاوض: «رخصة وطنیة» لاستمرار احتلال مقنّع!
ماجد الشّیخ
هی المرة الأولى ربما التی یأخذ فیها لغو الکلام، والضغوط المباشرة وبالواسطة، من أجل دفع السلطة الفلسطینیة للموافقة على المفاوضات المباشرة، کل هذا العناء الأمریکی والإسرائیلی.. وبعض العربی کذلک، وکأن هناک نتیجة مضمونة سوف تفضی إلیها هذه المفاوضات الموعودة، لا سیما وهی تبدأ من نقطة غیر مسبوقة؛ لا عبر ما أفضت إلیه مفاوضات سابقة مع إیهود باراک عام 2000، ولا تلک التی جرت مع إیهود أولمرت عام 2008.
وها هو نتانیاهو یرید البدء من نقطة صفریة، بلا مرجعیة وبلا جدول زمنی، وبلا أفکار مسبقة، وهو لذلک یدرک جیدا أن کل ما سیقترحه لن یحظى بقبول فلسطینی، فی غیاب القدرة والرغبة الأمریکیة لممارسة ولو حد أدنى من الضغوط السیاسیة علیه وعلى حکومته، لدفع المفاوضات المباشرة نحو حیازة ولو بصیص أمل ضئیل، بتقدیم تنازلات إسرائیلیة ترضی الجانب الفلسطینی، ما سوف یرتب على هذا الأخیر تحمیله مسؤولیة فشل إو إفشال تلک المفاوضات العتیدة، التی "کافح" و"یکافح" الأمریکیون من أجل الوصول إلیها، جراء حاجتهم لها کمصلحة مباشرة لهم، وسط عناد الوقائع والمعطیات الإقلیمیة والدولیة المحیطة بحروبهم الخارجیة.
وسط هذه المعمعة المتجددة فی جدل إدارة الأزمة، وفی ظل إدارة الظهر للصراع، لا یبدو أن إدارة أوباما تمتلک حلولا سحریة، فهی أعجز من أن تستطیع تقدیم دولة فلسطینیة مستقلة بحدود العام 1967، لا لأن نتانیاهو وائتلافه الحکومی بترکیبته الیمینیة المتطرفة المؤثرة على القرار الإسرائیلی العام، یرفض ذلک، أو لا یقبل بإمکانیة وجود دولة بمواصفات ترضی الجانب الفلسطینی أو مشایعیه من العرب، بل لأن الأمر الواقع الاستیطانی قد تجاوز بکثیر إمکانیة نشوء دولة مستقلة حقا، ولأن الإدارة الأمریکیة الحالیة وفق نتانیاهو "یمکن تحریکها بسهولة، وفی الاتجاه الصحیح" اتجاه الائتلاف الحکومی الإسرائیلی.
هکذا انتهت وعود الخطابات، إلى وعید فرض مفاوضات مباشرة، لیس من بین وعودها أیّ ملمح من ملامح المصادقة على إقامة دولة فلسطینیة، فلا وعود أوباما الخطابیة، ولا وعود نتانیاهو المماثلة، أمکنها أو یمکنها أن تقنع أی طرف بمصداقیتها، طالما هی تتجه توجهات إدارة الأزمة، لا إیجاد حلول واقعیة لها. وبذا فإن کسب نتانیاهو جولة مقاومة الضغوط الأمریکیة، وتهدیده استحالة استمرار العمل بتجمید بناء الاستیطان، إذا ما أرید للائتلاف الحکومی أن یستمر، یعنی أنه ماض فی سبل مواجهته للتنصل من وعد إقامة دولة فلسطینیة، عبر التسویف والمماطلة تفاوضیا وصولا إلى اللاحل، کحل یمتلک ناصیته کأمر واقع، فمثلما انتهت المفاوضات غیر المباشرة إلى مرابع الفشل، کذلک فإن من قادها إلى هذا المآل، لن یکون معنیا إلا بقیادتها إلى ذات المآل، حتى ولو حضرت قضایا الوضع النهائی، وهی التی تتطلب تفاوضا مباشرا بحسب نتانیاهو.
وطالما أن واشنطن لا تبدی استعدادا للوصول إلى حل سیاسی محتمل، أو ممکن على طاولة المفاوضات المباشرة، یقبل به الطرفان الإسرائیلی والفلسطینی، فقد تتکشّف تلک المفاوضات عن وجه سافر من أوجه السلوک الإسرائیلی المراوغ ونزوعه للمماطلة، فکما وجه نتانیاهو وائتلافه الحکومی الحالی لا یقل غطرسة عن سلوک إسرائیل فی کل مراحلها التفاوضیة، کذلک هو الوجه الآخر- الأمریکی الذی لا یدیر حلولا تفاوضیة، بقدر ما یدیر أزمات تتعمّق کلما جرت مقاربتها من قبله، وهو الأحوج إلى مقاربات مختلفة تساعده فی مواجهة الأزمة الاقتصادیة، وفی مواجهة حروبه الخارجیة.
لکن أخطر ما یمکن أن تتسم به المفاوضات المباشرة غدا، هو أن تبدأ بشروط إسرائیلیة وموافقة ضمنیة أو غیر ضمنیة أمریکیة وعربیة، حیث یجری حصار الطرف الفلسطینی المفاوض حصارا مطبقا، فی محاولة لإجباره على الموافقة على تلک الشروط التی لا تحمل فی طیاتها سوى صیاغات تصفویة، من قبیل الاندفاع الإسرائیلی نحو فرض "دولة ذات حدود مؤقتة" تخترقها المستوطنات والجدار العنصری والحواجز العسکریة، وتحیطها مخططات الأسرلة والتهوید، ویتواصل على جنباتها الاستیطان ویتزاید انتشار البؤر الاستیطانیة کالفطر، من دون أن تستطیع السلطة الحالیة، أو سلطة "الدولة القادمة" على صهوة مفاوضات الشروط الإسرائیلیة، والأمر الواقع، النفاذ من شبکة إکراهات التفاوض؛ وفق الشروط الإسرائیلیة الرافضة أصلا لأی موقف فلسطینی أو عربی یُشتم منه أنه یشبه أی شرط، أو ما یمکن اعتباره شرطا من الشروط.
لکن أبرز ما بات یُخشى منه الآن، هی تلک الأهداف الکامنة خلف المفاوضات المباشرة وفی أعقاب بدئها مباشرة، من قبیل ممارسة المزید من الضغوط الأمریکیة وربما بعض العربیة کذلک، من أجل القبول بذاک العرض الإسرائیلی الذی یجری تداوله، وقد وصل مؤخرا إلى الجانب الفلسطینی عبر جهات عدة، فحواه إقامة دولة فلسطینیة بحدود مؤقتة على مساحة تتراوح بین 80 و90 بالمئة من مساحة الضفة الغربیة.
ومکمن الخشیة هنا، یترکز على أن الائتلاف الحکومی الإسرائیلی یخطط لجعل الحدود المؤقتة للدولة العتیدة حدودا نهائیة، وهو ما یعنی ضم القدس وإقامة دویلة فلسطینیة مصغرة منزوعة السلاح خلف حدود الجدار العنصری، تحیطها "شبکة أمان" إستیطانیة واسعة مدججة بالسلاح، وهذه هی الخطوط العریضة لما یمکن تسمیته "مخطط الحدود والأمن" الذی حاول المبعوث الأمریکی جورج میتشیل تسویقه والفوز به أثناء فترة المفاوضات غیر المباشرة، وأخفق؛ جراء رفض الجانب الفلسطینی.
إن مفاوضات لا تسعى ولا تنجح فی إنهاء الاحتلال الثانی لما تبقى من فلسطین التاریخیة، هی بمثابة "رخصة وطنیة" للاستمرار بالاحتلال مقنّعا، ولا یهم إن کانت مباشرة أو غیر مباشرة، بمرجعیة أو من دونها، طالما أن أسس التفاوض لا تقوم على قواعد راسخة ومکینة، وهی لا ترقى حتى إلى کونها نهجا منسجما ومتماسکا وذات خبرة کفاحیة، یستند إلى التراث الکفاحی الوطنی لحرکة التحرر الوطنی فی الإطار الفلسطینی.. والعربی.
ولأن تلک المفاوضات العتیدة یقاربها الإسرائیلیون بشروط مجحفة، والأمریکیون نظرا لحاجتهم وحاجة مصالحهم المباشرة، والسلطة الفلسطینیة کونها خیارها الیائس وجدارها الأخیر، فهی إلى الفشل أو الإفشال أقرب، وأقرب إلیها أن تنتهی کما بدأت وانتهت جولات تفاوضیة سابقة.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS