الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

رؤیة المشهد الفلسطینی من زاویة أخرى

 

رؤیة المشهد الفلسطینی من زاویة أخرى

نصر شمالی

 

عندما انعقد المؤتمر الصهیونی الیهودی الأول عام 1897، وأقرّ مبدأ إقامة الدولة الیهودیة، لم یکن اغتصاب فلسطین خیاره الوحید، بل خیاره المفضّل. ولم یکن قراره مستقلاً بل أملی علیه. والوطن القومی الیهودی المزعوم لم یکن تلبیة لاحتیاجات محض یهودیة، بل کان واحداً من الإجراءات الکثیرة التی اقتضتها عملیة التحول التاریخیة فی بنیة النظام الدولی، فالمؤتمر جاء فی توقیته وترکیبته متفقاً مع بدایة ظهور الکارتیلات الاحتکاریة. أی أنّه باختصار، انعقد بالضبط فی لحظة تحوّل الرأسمالیة إلى إمبریالیة.

إنّ الصهیونیة الیهودیة وجه من وجوه الإمبریالیة، وأداة فعالة متمیّزة من أدواتها، فهی ملازمة للاحتکار بل منصهرة فیه عضویاً، وما القاعدة الإسرائیلیة إلاّ دولة حدود استیطانیة، وخطّ تماسّ حربی، وذراع فتّاکة لذلک الجسم الکلّی الاحتکاری الذی صار قادته الحقیقیون غیر الرسمیین، ینظمون کلّ عام اجتماعاً دولیاً فی دافوس! والحال أنّ الیهود الصهاینة لیسوا وحدهم من انصهر عضویاً فی الجسم الاحتکاری العالمی. إنّ أوساطاً من مختلف القارات والأدیان والقومیات بلا استثناء فعلت ذلک بطریقة أو بأخرى. غیر أنّ الیهود، لأسباب مفهومة، جاؤوا فی المقدّمة واحتلوا مواقع رفیعة مؤثّرة، ولنلاحظ أنّ هناک (من العرب أیضاً) من یغبط الیهود أو یحسدهم على مواقعهم، ویمنّی النفس بقبوله عضواً مندمجاً مثلهم، وإن بعدهم!

لقد تمیّزت الأوساط الیهودیة المتنفّذة، فی جمیع العصور، بولائها للنظام العالمی السائد، وبنشاطها المتمیّز فی خدمته، لا فرق عندها أن یکون العصر إغریقیاً رومانیاً وثنیاً، أو عربیاً إسلامیاً، أو أوروبیاً أمریکیاً، مسیحیاً أو علمانیاً، رأسمالیاً أو اشتراکیاً، ولا فرق عندها أن یکون عادلاً أم ظالماً، فوظیفتها الاقتصادیة الرئیسة مالیة غالباً ودائماً، ربویة عموماً، وهی عانت الویلات بسبب وظیفتها هذه فی أزمنة کثیرة، لکنها حققت الازدهار الکبیر بفضل هذه الوظیفة بالذات فی أزمنة کثیرة أخرى!

فی أوروبا، فی القرون الوسطى الأوروبیة المظلمة، کانت الأوساط الیهودیة عموماً تمارس وظیفة الإقراض بالربا. وکانت تترتّب على تلک الوظیفة رهونات عقاریة یتبعها الحجز على ممتلکات المقترض العاجز عن السداد، ونقل الملکیة إلى المرابی. ولذلک کان الملاّک العقاریون المدینون یلجأون إلى تنظیم حملات العدوان ضدّ الیهود، ویحرّضون الرعاع ویعبّئونهم بوسائل مختلفة لهذا الغرض، کی یتخلّصوا من التزاماتهم المالیة وینقذوا ممتلکاتهم المهدّدة بالمصادرة، مستفیدین من الفوضى ومن تعطّل العمل بالقانون.

کانت أوروبا الإقطاعیة متخلّفة فی جمیع المیادین، حیث المجتمعات فی غالبیتها من الأقنان، یحکمها ملاّک أجلاف، وتکاد تفتقر تماماً إلى المؤسسات الحرفیة وإلى السلع المصنّعة الکافیة لحدّ أدنى من التبادل السلعی الواسع، لذلک کانت لوظیفة الإقراض بالربا أهمیة خاصة وموقع مرموق، لکنّ انعدام مجالات توظیف الأموال المتراکمة فی مشاریع إنتاجیة یجعل هذه الأموال مصدراً لشرور کثیرة عظیمة. وبالفعل کان المرابون یکنزون ویجمّدون کمیات هائلة من الکتلة النقدیة، الأمر الذی یدفع الحکومات إلى التدخّل خلافاً للقانون، فتشجّع بدورها حرکات العداء والعنف ضدّ المرابین خصوصاً والیهود عموماً، کی تمتلک الظرف المناسب الذی یمکّنها من الاستیلاء على کمیّات النقود المتراکمة فی خزائنهم!

غیر أنّ أوضاع الیهود فی أوروبا الإقطاعیة لم تکن سلبیة دائماً، حیث کان الإقطاعیون والحکام یشملونهم برعایتهم الکاملة، ویشجعون قدومهم من خارج حدود الدولة، لتنشیط العملیة الاقتصادیة عموماً وللمساعدة فی تنظیم الدورة المالیة خصوصاً، لکنّ هذه العملیة کانت محکومة بحدود إصلاحیة سطحیة وضیقة، وأثرها سرعان ما کان یتلاشى، فیتکرّر احتکار الکتلة النقدیة من قبل الیهود، وتنشب الأزمة، وتتکرّر عملیات العدوان والاضطهاد ضدّهم، وتتوالى المصادرات لأموالهم وممتلکاتهم!

کان الاقتصاد الطبیعی الأوروبی القائم على تلبیة الحاجات البسیطة المباشرة، بحاجة دائمة إلى وظائف الیهود المالیة، لأنّه کان محظوراً على المسیحیین القیام بها. ففی عام 1491 هدّد مجمّع بمبرغ بطرد کلّ مسیحی یمارس الربا مباشرة أو بواسطة الیهود، ولم تکن تلک سوى الصدامات المبکّرة بین النظام الإقطاعی والبورجوازیة الولیدة.

وعندما بدأت البورجوازیة بالصعود إلى مواقع مؤثّرة وجدت فی المرابین الیهود المتعاونین مع النظام القدیم معوّقاً لصعودها وعامل إرباک لمشاریعها، فاضطهدتهم بدورها بضراوة أشدّ، کعقبة لا تطاق! لقد کانت البورجوازیة تعمل على إقامة علاقات اقتصادیة متقدمة، بالانتقال من الاقتصاد الطبیعی إلى الاقتصاد التبادلی، الأمر الذی یعنی تغییراً فی البنى الفوقیة للمجتمع وأولها البنى السیاسیة، بینما الیهود بقروضهم وسیاستهم یدعمون البنى القائمة، وعلى رأسها الملکیة المطلقة، لأنهم کانوا یستفیدون إلى أبعد الحدود من النظام الاقتصادی المتخلف الذی یضمن تمیّزهم وتفوقهم مالیاً! لقد مرّ زمن طویل قبل أن یقوى عود البورجوازیة الأوروبیة ویعترف لها بدور قیادی، ثمّ بدأت بتأسیس مصارفها، فأدّى ذلک إلى الحدّ کثیراً من نفوذ المرابین الیهود. وبعد أن تحقّق لها ذلک تحوّلت من الرفض المطلق للوظائف المالیة الیهودیة إلى حمایتها ورعایتها، فهذه الوظائف تقلصت إلى درجة أصبح معها استیعابها وتوظیفها ممکناً، بل ضروریاً، مثلما کان یفعل الملوک والنبلاء، إنّما على أسس جدیدة حدیثة ومعقّدة. وسرعان ما استوعبت الأوساط الیهودیة المتنفّذة جوهر هذه الأسس، وبدأت تعمل انطلاقاً منها، وبخاصة فی میدان المصارف الحدیثة التی تحمل الجوهر الربوی ذاته، بل هی أبدت براعة منقطعة النظیر فی هذا المیدان، الأمر الذی جعلها عضواً نشیطاً فعالاً فی الأجهزة القیادیة للنظام الرأسمالی فی تطوراته المتوالیة حتى یومنا هذا، وهو ما لمسه العالم أجمع فی الأزمة المالیة الأخیرة أکثر من أیّ زمن مضى!

الخلاصة، لقد وقعت فلسطین فی قبضة هذه الأجهزة الدولیة الصهیونیة الربویة، القدیمة الحدیثة، التی اضمحلت أخیراً وبدأت بالانحدار. ورؤیة المشهد الفلسطینی من هذه الزاویة التاریخیة ضروریة لفهم حقیقة الذین یدیرون تمثیلیة المفاوضات الیوم، على سبیل المثال.

إنّ المدیرین هم الإسرائیلیون بالذات، مثلما أنّ الإسرائیلیین هم المدیرون بالذات! إنّ میتشل وبلیر هما نتنیاهو ولیبرمان والعکس صحیح! وإنّ الشجاعة فی رؤیة هذه الحقیقة ومواجهتها، على هولها، هی المدخل إلى خلاص العرب، بینما الخوف من رؤیتها ومن مواجهتها یعنی ضلالهم وضیاعهم.

ن/25

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 139889







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)