من تخلى عن الآخر: الفلسطینیون أم العرب؟
من تخلى عن الآخر: الفلسطینیون أم العرب؟
عبد اللطیف الحناشی
"وللقلب على القلب دلیل حین یلقاه" أبو العتاهیة.
تعددت فی الآونة الأخیرة کتابات ومواقف لبعض الفلسطینیین تزعم أن "العرب تخلوا عن فلسطین والفلسطینیین وترکوهم یواجهون لوحدهم مصیرهم.. وأن "الأنظمة العربیة قد باعت القضیة بأرخص الأثمان وعملت بکل الوسائل والطاقات للضغط على السلطة الفلسطینیة للقبول بالمفاوضات". کما اتهم بعضهم الجامعة العربیة بإعطاء الضوء الأخضر للقیادة الفلسطینیة للسیر قدما فی المبادرات الخاصة بالقضیة الفلسطینیة، وذلک فی محاولة منها لإخراج السلطة "من دائرة حرجها المتفاقم أمام سطوة الرأی العام الفلسطینی والعربی والإسلامی...".
فهل یبدو إطلاق مثل هذه "الاتهامات" أو هذه "المآخذ" دقیق وواقعی؟ أم هو هروب إلى الأمام ومحاولة لإلقاء المسؤولیة على الآخر نتیجة الضغط والعجز والفشل؟
لا بد من الإشارة بدایة إلى أن هذه الاتهامات تبدو قدیمة قِدَمَ القضیة الفلسطینیة ذاتها، غیر أن تواترها أصبح أکثر بعد قیام منظمة التحریر الفلسطینیة، وهو أمر یبدو طبیعیا باعتبار العلاقة الروحیة والأخلاقیة والقومیة والسیاسیة التی تربط العرب بالقضیة الفلسطینیة.. ثم اتخذت المسألة أبعادا أخرى نوعیة بعد اتفاقیات أوسلو سنة 1993 وقیام "السلطة الفلسطینیة". إذ أخذت تتردد مثل تلک الاتهامات على لسان بعض القیادات والکتاب المحسوبین على النهج الذی یقوده السید محمود عباس بکثافة، کما أن مضمون تلک الاتهامات لا یتخذ فی الغالب طابعا سیاسیا بل مالیا، أی عندما تتلکّأ بعض الدول العربیة المانحة أو تتباطأ فی الوفاء بالتزاماتها المالیة تجاه السلطة لسبب أو آخر فتسرع عندئذ تلک المجموعة باتهام الأنظمة بالتخلی عن القضیة وعن الشعب الفلسطینی، کما تعتبر التباطؤ ذاک أحد أشکال الضغط التی تمارسها الأنظمة على السلطة الوطنیة الفلسطینیة وعلى "المسیرة الوطنیة ومقومات الصمود الفلسطینی"؟!
من الطبیعی أن یمیز المرء بین مواقف الشعوب ومواقف الحکام فی أی قضیة من القضایا، وخاصة إذا کانت بحجم قضیة فلسطین وتعقیداتها ونوعیة العدوّ وطبیعته، وعلى خلفیة ذلک وقفت الجماهیر العربیة وبدون شروط أو حسابات مع القضیة الفلسطینیة فی جمیع مراحل تطورها.
فقبل إنشاء الکیان دعمت تلک الجماهیر النضال الفلسطینی ضد الانتداب البریطانی وضد سیاسة الاستیطان والهجرة والتعدی على المقدسات "أحداث البراق 1929" وشارک عدد کبیر من الشباب العربی فی انتفاضة 1936 الفلسطینیة وتأسست فی أغلب الأقطار العربیة المستعمرة والمستقلة، على قلتها، لجان مساندة لنضال الشعب الفلسطینی کان من مهامها جمع الأموال والتبرعات لصالح القضیة وجمع الإمضاءات للتندید بالنشاط الصهیونی فی أرض فلسطین، وبالتواطؤ الأنجلیزی الصهیونی... غیر أن القیادات الفلسطینیة وعلى رأسها الحاج أمین الحسینی خذل تلک الجماهیر ورضخ لإرادة الملوک العرب وأوقف الثورة المزدوجة بدون مقابل سیاسی..
ورغم ما تولد عن ذلک من إحباط لم یتردد الآلاف من الشباب العربی المعدم من الالتحاق بفلسطین بهدف الدفاع عنها وعن عروبتها، وتبرعت النسوة بأغلى ما یملکن من مصوغ من أجل فلسطین واستشهد العشرات من الشباب العربی فی تلک الحرب.. غیر أن "القیادة" انتصرت کالعادة للحکام وضیعت الشعب والأرض.. وتواصل هذا العطاء مع تأسیس حرکة فتح ومنظمة التحریر الفلسطینیة.
فإلى جانب ما کانت تقدمه الحکومات العربیة، بغض النظر عن طبیعتها ومواقفها وتوظیفها للقضیة لأهدافها السیاسیة الخاصة، من مال وعتاد ومواقف سیاسیة مساندة فی المحافل الإقلیمیة والدولیة، لم تبخل الجماهیر بدورها فلبت نداء الثورة ووقفت إلى جانبها فی مختلف معارکها العسکریة: الکرامة سنة 1968 إلى حرب 1973 إلى اجتیاح جنوب لبنان سنة 1978 إلى غزو بیروت واحتلالها سنة 1982 وإخراج المقاومة من الأرض اللبنانیة.
کما لم یتوان الشباب العربی فی الانتظام فی صفوف الثورة والقتال معها والاستشهاد فی سبیل القضیة، کما خاضت النخبة العربیة معارک فکریة وسیاسیة من أجل فلسطین فی داخل العالم العربی وخارجه، وکانت کل تلک الممارسات تعبیرا عن إیمان تلک الشرائح الاجتماعیة بالقضیة وبخطر المشروع الصهیونی الذی یستهدف فی العمق کل العرب ولیس الفلسطینیین لوحدهم، وبالتالی فإن دعمها لا یمکن أن یکون منّة أو صدقة بل هو واجب أکید ومؤکد على کل عربی حرّ لتعزیز الصمود الفلسطینی..
لقد کانت علاقة الثورة بالأنظمة العربیة طیبة فی الغالب، باستثناء بلدان الطوق التی کانت على خلاف مستمر معها، وکانت المنظمة تلعب فی کثیر من الأحیان على التناقضات التی کانت تشق الأنظمة وحاولت أن تجیرها لصالحها "العراق، سوریا، الأردن..." بحکمة تارة، وبغباء فی أغلب الأوقات...
ومهما کان الأمر فقد کانت القیادات الفلسطینیة، وعلى رأسها یاسر عرفات، تُحسن المناورة و"الابتزاز الشریف" ولم تکن تستجدی هذا أو ذاک من الأنظمة العربیة، بل کانت تعتبر أن کل ما یقدم إلیها هو حق وواجب، ولم تکن فی حالة وئام کلی مع تلک الأنظمة التی کثیرا ما حاولت الإیقاع بها والمناورة ضدها والسعی للانقلاب علیها، غیر أن تشبث تلک القیادات بالحد الأدنى الوطنی والتفاف الجماهیر الفلسطینیة والعربیة حولها شکل دائما درعا حامیا للکثیر من توجهاتها ومواقفها وسلوکها، فکانت تناضل من أجل أن یکون قراراها مستقلا لکن بغطاء عربی..
غیر أن انخراط تلک القیادات فی مؤتمر مدرید وبالطریقة التی فرضت علیها ورفع البعض من القیادات والأطراف لشعار "فلسطین قضیة الفلسطینیین"، ثم دخول قیادة المنظمة فی مفاوضات سریة من وراء العرب ودون علمهم، ثم التوقیع على اتفاقیات أوسلو وصولا إلى القبول بسلطة "وطنیة" تحت الاحتلال، سواء من قبل حماس أو فتح، شکلت کلها منعرجا خطیرا أثّر بعمق على القضیة الفلسطینیة وعلى الفلسطینیین أنفسهم وعلى علاقة العرب أنظمة وجماهیر بتلک القضیة...
فقبل عملیة السلام بقلیل تخلت غالبیة الدول العربیة عملیا عن دعمها العسکری للفلسطینین، واکتفت بالدعم المالی والسیاسی، ثم بدأ التراجع فی مواقف العدید من الدول، رغم إمکانیاتها الاقتصادیة الجیدة، فی التلکؤ عن تقدیم الدعم المالی خاصة بعد حرب الخلیج الأولى وحاولت دفع قیادة المنظمة بقوة نحو خیار التفاوض السلمی..
کان العرب على وعی بالتناقضات والانقسامات السیاسیة التی کانت تشق الجسم الفلسطینی إلى ما قبل استشهاد یاسر عرفات، وکان هؤلاء على وعی واقتناع بطرافة "الدیمقراطیة الفلسطینیة" وغرابتها. کان البعض یتعامل مع کل ذلک بحب وإعجاب، فی حین فرضت الضرورة والمصالح على البعض الآخر التعامل مع ذاک الواقع الفلسطینی باشمئزاز..
أما بعد أن وصلت العلاقة إلى ما هی علیه الحال من سوء وحرب بین فتح والجماعات الإسلامیة من جهة، و"تحالف وودّ" بین قیادات سلطة رام الله والعدوّ وأجهزته القمعیة المختلفة والمتنوعة من جهة أخرى.. فقد تغیرت الأمور والمعادلات وأصبح من غیر المنطقیّ أن یتهم بعض الفلسطینیین العرب، أنظمة وشعوبا، بالتخلی عن القضیة، فلیس من السهل على الجماهیر العربیة أن تفهم کیف تتعاون السلطة مع مختلف أجهزة العدوّ وتحرس مصالحه، بل تساعد أفراده على القبض على المناضلین والتصدی لمحاولات تنفیذ العملیات الفدائیة التی تستهدف المستوطنین والغزاة فی الضفة الغربیة..
وعن کیفیة ابتلاع المستوطنین الأراضی الفلسطینیة واستیلائهم على البیوت والمساکن الفلسطینیة ویقضمون أراضی القدس والمقدسات بحراسة الجیش الإسرائیلی وصمت "قیادات السلطة"، یقول بعض الفلسطینیین إن أغلب الأنظمة العربیة قد تخلت عن مسؤولیاتها تجاه فلسطین والقضیة الفلسطینیة، وإن دورها قد تحول "من ظاهرة صوتیة تتقن الشجب والاستنکار إلى ظاهرة تواطؤ وتآمر مفضوحة..". لنفترض أن ذلک صحیح، لکن ألیس من المنطقی أن یتساءل المرء عن ما قامت به القیادة الفلسطینیة، الوصیة على الشعب الفلسطینی کما تدعی، غیْرَ الشجب والاستنکار بل التواطؤ الضمنی حینا والصارخ أحیانا والتآمر المکشوف لبعض القیادات مع الاحتلال أحیانا؟!.
لقد حولت قیادات أوسلو القضیة الفلسطینیة من مشروع تحرر وطنی بأفقه القومی والإنسانی إلى مشروع "تسوّل" باستجداء الولایات المتحدة الأمریکیة ودول الاتحاد الأوروبی من ناحیة للضغط على إسرائیل بعد أن أسقطت کل الخیارات الممکنة وحولت المفاوضات إلى إستراتیجیة أبدیة لا بدیل عنها غیر المفاوضات، وهی من ناحیة أخرى تستجدی الأموال من الدول المانحة لدفع الرواتب "حوالی 180 ألف موظف فی القطاعین المدنی والأمنی" وشراء الذمم...
لذلک لا تبدو سلطة أوسلو بحاجة أکیدة للدول العربیة وخاصة المانحة منها، فبإمکان الأطراف الدولیة الفاعلة التکفّل بالأمر دون عناء. أما الجماهیر العربیة فلا یبدو أن القیادة الفلسطینیة بحاجة إلى حیویتها وعطائها، إذ لا یمکن مطالبتها مثلا التظاهر من أجل الضغط على حکوماتها حتى تدفع لتلک القیادة الأموال أو أن تتظاهر للضغط من أجل عودة المفاوضات أو دعم القدس، فی حین أن تلک الجماهیر تعرف طبیعة تلک القیادة ووظائفها وسلبیتها تجاه الأرض والقدس والمناضلین...
ولکن ماذا یمکن أن ننتظر من الدول العربیة التی توصف عادة بالرجعیة والعمالة للغرب غیر الذی قدمته من مال وعتاد ومساعدات مختلفة؟! إننا لا نجانب الحقیقة بقولنا إن ما تمتعت به فصائل منظمة التحریر الفلسطینیة من إمکانیات مالیة ولوجستیة ومن دعم متنوع، من العرب وغیر العرب، لم تتمتع به أی حرکة من حرکات التحرر الوطنی المعاصرة الأخرى! غیر أن الفساد الذی کان ینخر المنظمة، منذ أیام تواجدها فی لبنان، وهو الذی تفاقم وتعزز بعد أوسلو، قد عطّل وطمس بل أباد کل شیء جمیل فی ما کان یعرف بحرکة التحرر الوطنی الفلسطینی.
لذلک فإن مسؤولیة تدهور الحرکة التحرریة الفلسطینیة والتخلی عن العمق العربی: الحضن الرافع والدافع والحیویّ للقضیة تتحمله جمیع الفصائل الفلسطینیة دون استثناء، وهو الأمر الذی أدرکه "اللقاء التشاوری من أجل فلسطین الذی انعقد فی نهایة شهر سبتمبر/ أیلول فی بیروت بحضور شخصیات عربیة وفلسطینیة من الداخل والخارج الذی أکد على البعد العربی للقضیة الفلسطینیة ودعا للعمل على إحیائه کأحد سبل النجاة من المجهول الذی ینتظر القضیة بفضل قیادات أوسلو..
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS