ذکرى عرفات: رکام البندقیة ورماد غصن الزیتون
صبحی حدیدی
فی اللیالی الفلسطینیة الراهنة، الظلماء المدلهمة بغیوم داکنة تتجمع من کلّ حدب وصوب، یُفتقد الرئیس الفلسطینی یاسر عرفات (1929 ـ 2004)؛ لیس بوصفه البدر الذی یمکن أن یبدد سحب الظلام، فالطعون حول شخصه وشخصیته وأسالیبه فی التنظیم والسیاسة والمال لم تکن قلیلة ولا طفیفة، بل بوصفه القائد الذی قال 'لا' حاسمة، فی توقیت حاسم لعلّه کان الأشدّ خطورة منذ مؤتمر مدرید، 1991، وتوقیع اتفاقیات أوسلو، 1993. ذکرى رحیله السادسة مرّت قبل أیام، لیس دون تذکرة قاسیة بأنّ القیادة الفلسطینیة الراهنة لم تُجهز على بوصلة عرفات التفاوضیة الشهیرة، أیاً کانت المظانّ ضدّها، فحسب؛ بل تکاد تفقد کلّ بوصلة، وربما کلّ مرجعیة، فترقد على هشیم من الخسائر المتعاقبة، السیاسیة والأخلاقیة على حدّ سواء.
والمرء بحاجة إلى طاقة تسامح فوق عادیة، وإلى تنازلات هائلة عن حقوق المنطق الأبسط، لکی یأخذ على محمل التصدیق ما قاله الرئیس الفلسطینی محمود عباس فی رام الله مؤخراً، إحیاء لذکرى عرفات، ولا سیما تلک العبارة الصاعقة: 'نحن على العهد باقون، وأتحدى إن کان هناک أی تنازل واحد منذ 48 لغایة الآن، عن أی ثابت من ثوابتنا'. أو إشادته بأجهزة السلطة السیاسیة التی تعمل 'بشفافیة شهدت بها کلّ المؤسسات الدولیة، کالبنک الدولی وصندوق النقد الدولی'؛ أو تلک الأمنیة والقانونیة التی 'تواجه العبث والفساد لتوفیر المناخ المناسب لاستکمال بناء دولتنا العتیدة وتجسید حلم الدولة المستقلة على أرضنا بالرغم من قسوة الاحتلال وعربدة المستوطنین وعنفهم ضد مساجدنا وکنائسنا وأشجار زیتوننا'.
ولقد کان من الطرافة السوداء ان یقتبس عباس عبارة عرفات الشهیرة، فی أوّل خطبة له أمام مجلس الأمن الدولی، 1974: 'جئتکم أحمل غصن زیتون وبندقیة. لا تسقطوا غصن الزیتون من یدی'؛ لیس لأنه أسقط صفة الثائر عن بندقیة عرفات (العبارة فی الأصل تسیر هکذا: 'جئتکم بغصن الزیتون فی یدی، وببندقیة الثائر فی یدی، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من یدی')، فحسب؛ بل أیضاً لأنّ هذه السلطة أسقطت البندقیة مبکراً (وهذا حدیث شائک یطول الخوض فیه، بالطبع)، کما أُسقط من یدها غصن الزیتون بقرار إسرائیلی، وطارت جمیع حمائم السلام، إذا لم تکن وئدت وهی تحطّ على أی کتف، أو تحلّق فی أیّ سماء!
طریف، طرافة مأساویة هذه المرّة، حدیث ناصر القدوة، قریب عرفات وعضو اللجنة المرکزیة لحرکة 'فتح' ومسؤول مؤسسة یاسر عرفات، عن 'قطعة الدلیل الأخیر' عن مسؤولیة إسرائیل فی اغتیال عرفات، وکأنّ هذه 'القطعة' هی المشکلة الوحیدة التی تحول دون إدانة إسرائیل! یتجاهل القدوة، إذْ لا ینبغی لأحد مثله أن یجهل، الدلیل القاطع الذی وفّره الصحافی الإسرائیلی یوری دان، فی کتابه 'أرییل شارون: حوارات حمیمة'، الذی صدر بالفرنسیة فی باریس، سنة 2000: اقترح شارون على الرئیس الأمریکی السابق جورج بوش قرار تصفیة عرفات، فوافق الأخیر شریطة أن تتمّ العملیة دون أن تترک أیّ دلیل یکشف هویة الفاعل. فهل تمّت العملیة بالفعل، یطرح دان السؤال، فیجیب شارون: خیر أن لا نتحدّث عنها الآن. ولسنا نعرف طبیعة العقاب الذی سینزله القدوة بالجهة الإسرائیلیة التی یمکن أن تکون المسؤولة عن التنفیذ، ولکنّ المرء یمکن أن یجزم منذ الآن بطبیعة سلطات التنفیذ التی یمتلکها القدوة، أو السلطة الفلسطینیة بکامل مؤسساتها وأجهزتها!
ذلک یفضی إلى حدیث الساعات الأخیرة من عمر عرفات، حین قام بزیارة فرنسا محمولاً على نقّالة طبیّة، وفاضت روحه فی مشفى عسکری فرنسی، على نقیض زیارته الرسمیة الأولى إلى باریس، ربیع 1989، حین جاءها ضیفاً على سیّد الإلیزیه آنذاک فرانسوا میتیران، محمولاً على أکتاف عرب فرنسا وأصدقاء القضیة الفلسطینیة. کان عرفات آتیاً من حصار ضیّق فی مبنى 'المقاطعة' فی رام الله، فرضته سلطات الإحتلال الإسرائیلیة على رئیس 'دولة' لا تتمتع بصلاحیات بلدیة صغیرة فی ضواحی تل أبیب؛ وکان، سنة 1989، قد أتى إلى باریس من حال مشابهة، تمزج المنفى بالحصار. من جانبها، کانت واشنطن بوش تقاطعه على العکس من مواقف العالم بأسره تقریباً، وکانت فرنسا جاک شیراک لا تستقبله سیاسیاً کما فعلت فی الزیارة الأولى، بل طبیّاً وإنسانیاً.
وأذکر أننی، کما أشرت ساعتئذ، استرجعت ذکرى تلک الزیارة الأولى وأنا أتابع مشاهد النقالة التی کانت تحمل عرفات إلى المشفى الباریسی، وکان جلیاً أنه لن یعود إلى فلسطین المحتلة إلا فی الأکفان. ورغم موقفی الشخصی الناقد، فی العمق وفی الجوهر، لکثیر من خیارات الراحل السیاسیة والفکریة والتنظیمیة؛ فإننی، فی العمق وفی الجوهر أیضاً، أخذت أنظر باحترام عمیق إلى عرفات الأخیر هذا: القائد الذی رفض إحناء الرأس فی کامب دافید، صیف 2002، طیلة تسعة أیّام من الضغط الهائل الذی مارسه الرئیس الأمریکی الأسبق بیل کلینتون، على نحو غیر مسبوق فی تاریخ علاقة البیت الأبیض بقضایا الشرق الأوسط.
حین وصلت تفاصیل التسویة إلى حقوق الشعب الفلسطینی الأساسیة، خصوصاً القدس وحقّ العودة والإستیطان، قال عرفات 'لا'، مدویّة ثابتة، و... مدهشة، إذْ تصدر عن رجل مولع بـ 'سلام الشجعان' دون سواه! ولقد استحقّ سخط واشنطن مذاک، ثم تکفّل المجتمع الإسرائیلی بانتخاب شارون لکی یذیق عرفات المزید من ألوان الضغط والمهانة والعزل والحصار؛ وفی غضون السیرورة بأسرها، کان النظام العربی یُجْهز على ما قد یتبقى فی نفس الرجل من علائم أمل، ومظاهر صمود. قال 'لا' حین کانت الـ 'نعم' هی المنجاة والإجابة الوحیدة فی آن، ولو أنه أحنى الهامة ما کنّا أغلب الظنّ أبصرناه محمولاً هکذا على نقّالة طبیّة، وما کان سیلزم المقاطعة محاصَراً. الأرجح أنه کان سیواصل تجواله فی عواصم العالم، على متن طائرة أفضل وأحدث، معززاً مکرّماً أکثر بکثیر من أقرانه الحکّام العرب، الذین مسحوا رقم هاتفه فی رام الله، راغبین أو مُکرهین!
ولسوف یسیل، کما سال من قبل، مداد کثیر فی وصف محاسن ومساوىء هذا الزعیم، خصوصاً تلک الحلقة الضیّقة التی قرّبها منه، وأطلق لها الید فی الفساد والإفساد والتسلّط والترهیب، ومحاکاة مختلف جرائم الإستبداد العربی. ولکنّ الأخلاق البسیطة، فضلاً عن موضوعیة الوقائع ذاتها، تقتضی عدم التقلیل أبداً من حجم المأزق الذی کان عرفات یعیشه خلال السنوات الماضیة، من جانب أوّل؛ ومقدار المرّات التی دُفع فیها إلى الجدار الأخیر، أو حُشر فی الزاویة الأضیق، من جانب ثانٍ. وصفة 'الناجی' لم تلتصق بالرجل دون عشرات الأسباب والوقائع والأزمات والمآزق التی تبرّر ـ منفردة أو مجتمعة، بخصوص العمل الوطنی الفلسطینی أو ذاک العربی، وعلى ساحات داخلیة او إقلیمیة او دولیة ـ أحقیة الرجل بالصفة، الحمّالة لأکثر من معنى واحد فی کلّ حال.
لکنّ عرفات، ومنذ رفضه الخنوع لاشتراطات کامب دافید ـ 2 وحتى حصاره فی مبنى 'المقاطعة' بعد صعود شارون، دُفع إلى حافة اتخاذ القرار الأخطر فی حیاته قاطبة: إمّا الخضوع والإستسلام وبیع التضحیات الفلسطینیة الجسیمة بثمن بخس، لیس بینه وبین الهزیمة سوى فارق ضئیل؛ أو الصمود مرّة أخرى ـ کانت الأخیرة، کما اتضح فیما بعد ـ على الخطّ المبدئی الذی اختاره فی کامب دافید وطابا، حین کانت ضغوطات کلینتون ـ باراک السیاسیة لا تقلّ شراسة عن ضغوطات بوش ـ شارون العسکریة.
ذلک إنّ عرفات کان یعرف، تماماً کما کان الساسة ورجال الأمن الفلسطینیون الفاسدون المحیطون به والمنخرطون الیوم فی خیار وقف الإنتفاضة مجاناً وتصفیة المقاومة الفلسطینیة یعرفون، أنّ شارون لا یرید السلام، ولم یکن فی أیّ یوم عضواً فی معسکر السلام. فما الذی کان سیحصل علیه مقابل إرضاء شارون وبوش؟ طائرة هلیکوبتر جدیدة، أم تنفیذ توصیات لجنة میتشل؟ مدرّج مطار جدید، أم دولة فلسطینیة أکثر قیمة؟ زیارة البیت الأبیض، أم صفحة غیر سوداء فی سجلات التاریخ؟ وما الذی کان سیتغیّر حقاً، على صعید السلطة الوطنیة الفلسطینیة ذاتها، إذا استجابت لمطالب شارون الخمسة، وکیف وبأیّ معنى ستبقى هذه السلطة وطنیة حقاً، وفلسطینیة؟
شارون کان یرید التالی من عرفات: تنفیذ حملة اعتقالات فعلیة، شاملة، ساحقة، وماحقة؛ تجرید جمیع 'المنظمات الإرهابیة' من أسلحتها، والدولة العبریة هی وحدها التی تعرّف الإرهاب والإرهابیین؛ جمع هذه الأسلحة وتدمیرها بمعرفة المخابرات الإسرائیلیة، أو عن طریق وسطاء أمریکیین؛ التعهد بعدم تکرار العملیات الإنتحاریة، وضمان ذلک عن طریق خطة أمنیة دائمة یکون الضباط الإسرائیلیون جزءاً لا یتجزأ من هیکلیة تنفیذها؛ إنهاء کلّ أشکال التحریض ضدّ الدولة العبریة، فی المساجد ووسائل الإعلام کما فی الکتب المدرسیة وشاشات التلفزة الدولیة...
وماذا کانت السلطة الوطنیة الفلسطینیة ستجنی مقابل ذلک؟ ماذا عن الألف شهید فلسطینی خلال انتفاضة الأقصى؟ وماذا عن آلاف الشهداء الفلسطینیین فی انتفاضات ونضالات أخرى عدیدة، قریبة أو بعیدة؟ ماذا عن الصمود فی وای بلانتیشن وکامب دافید وطابا؟ المغنم الأکبر هو العودة إلى طاولة المفاوضات فی أفضل الحالات، کأنّ الدولة العبریة تأتی إلیها للمرّة الأولى، أو کأننا نعید عقارب الساعة عشر سنوات إلى الوراء حین کان مجرّد اللقاء مع ممثّل لمنظمة التحریر الفلسطینیة جریمة نکراء یعاقب علیها القانون الإسرائیلی.
وکیف یعقل أن یتنازل عرفات، على نقیض من إرادة الشعب الفلسطینی، فی ظلّ هذه المعطیات الإسرائیلیة بالذات، حین یتبادل جمیع الإسرائیلیین مواقع جمیع الإسرائیلیین: شارون فی عباءة بیریس، وبیریس فی عباءة شارون، والحاخام عوفادیا یوسف فی عباءة الحاخام کاهانا، وحزب العمل یغطی اللیکود، واللیکود یغطی حزب العمل، والدولة العبریة ـ بأسرها، أو تکاد ـ تعود القهقرى إلى ذاکرة مسعدة والحصار الدائم والضحیّة المدافعة عن وجودها بالنواجذ والأسنان، بالدبابات والحوّامات والمدافع والقاذفات، صفّاً واحداً متحداً؟ فإلى مَن کان یتوجّب أن ینحنی عرفات؟ إلى شارون، أم إلى بیریس، أم إلى الجمع الإسرائیلی العجیب وقد ارتدى دروع الحرب وحدها، وضرب عرض الحائط بکلّ المحرّمات... جمیعها، حرفیاً؟ أم أنّ الآمال کلها کانت قد تلاشت تباعاً، بالفعل، ولم یبق سوى مبدأ الخضوع للضغوطات، مجاناً... مجاناً تماماً؟
هذه أسئلة کان ینبغی أن تظلّ مدوّنة، بأحرف بارزة، فی أجندات کامل الرهط الذی تولى إرث عرفات، وآلت إلیه مقالید أمور السلطة الوطنیة الفلسطینیة، ومنظمة التحریر الفلسطینیة، والساحة الفلسطینیة. المعرکة (تماماً کما خلّفها عرفات، أو أسوأ ربما بسبب غیابه) ما تزال تدور حول الجوهری الأساسی، وتُوجب أن یصمد ورثة عرفات مثلما صمد الرجل، بل أکثر منه ربما، وأکثر من أیّ وقت مضى. الحصیلة لا تشیر إلى أنهم فعلوا، أو یفعلون؛ فالعکس هو الصحیح، وذکرى 'الختیار' صارت برهة للتفتیش عن رکام بندقیة الثائر، مثل رماد غصن الزیتون!
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS