ویکیلیکس وأوکار الجاسوسیة والعملاء

ویکیلیکس وأوکار الجاسوسیة والعملاء

ناصر السهلی

حین یقول عربی سیاسی، محلل أو کاتب بأننا أمام نظام أمریکی یهیمن على "القرار الدولی" فإن عربیا آخرا، سیاسیا وخبیرا وصحفیا ومتحدثا باسم الحاکم بأمره "..." یقول: نحن أمام "لغة خشبیة" و"نظریة المؤامرة"..

السؤال الذی یطرح نفسه: لماذا شعوب الأرض کانت دائما تتظاهر أمام سفارات واشنطن للتعبیر عن رفضها لتلک السیاسات التی لم تحتج کل هذه التسریبات للتأکد من أن عقلیة استتباع الدول والهیمنة هی المحددة لعلاقات واشنطن بالمجتمع الدولی؟

لم یکن الشعب العربی، الذی کان قد سبق ویکیلیکس، یهتم لبروباغندا أقلام وأصوات عربیة، تدافع عن أی منتج سیاسی أمریکی، لیدرک بأننا أمام أوکار جواسیس وعملاء یتقاضون إما الراتب أو الحمایة والدعم بوجه من یعارض هؤلاء من الحکام والأسیاد فی السفارات الأمریکیة..

لماذا تهتم سفارة "واشنطن" ببول هذا الرئیس وذاک؟.. سؤال مضحک ومدعاة للسخریة أحیانا.. لکنه فی الحقیقة مؤشر لما نشهده من عقلیة معاملة تلک السفارات لرجالاتها فی المنطقة العربیة، وغیر العربیة، بوظیفیة محددة المعالم..

فکل الهراء الذی تبثه مواقع وصحف عربیة عن أن واشنطن "أم الحریة" ولا تفکر إلا بحریة وحقوق الإنسان العربی لم تکن الوثائق بحاجة لتکشف أنه أبعد من مجرد هراء..

شعب تشیلی یعرف تماما من هو سلفادور الیندی.. رئیس منتخب بحریة فی بدایة سبعینات القرن الماضی، ولأن واشنطن لم یعجبها الأمر قتلت الرجل واتت ببینوشیه.. بلعت واشنطن لسانها على فاشیة بیونوشیه.. أمر انسحب فی معظم القارات حیث التصفیة الجسدیة والقتل والمؤامرات المخططة بعنایة "الأمریکی الطیب" الذی یجوب على دول العالم ملقیا حبات الأرز "هدیة من الشعب الأمریکی".. والقنابل والتدمیر والتصفیات الجسدیة والاجتیاحات وشراء الأصوات فی الأمم المتحدة من ماکینة التصنیع الحربی.. باسم "العالم الحر"..

أین مشکلتنا فی کل ذلک؟ فی الظاهر لا مشکلة.. لکن، لو کان هناک أقل احترام لحریة هذا الانسان العربی لکنا أمام مشهد ثوری مختلف عن الخنوع المطلوب والتسلیم بقدر "شو بعرفنی".. لو أننا أمام سلطات سیاسیة تحترم نفسها لفهمنا شیفرة هذا الانفتاح العربی "من کل منافذ بلادنا" على ما کل هو "أمریکی وغربی" "لیست قضیة المبحوح ما اقصده تماما".. والاشتباه بالطوابیر العربیة الباحثة عن لقمة عیش أو مجرد زیارة لبلد عربی آخر.. لو کنا حقا أمام نظام سیاسی مختلف فی عالمنا العربی لما وجدنا استباحة الکرامات فی المسالخ البشریة التی یصدرها الأمریکی فترة بوش وبعده..

هذه السفارات الأمریکیة التی تجمع کل المعطیات وتأخذ المواقف السیاسیة نحو البنتاغون والخارجیة لا یقابلها، وتحدیدا فی دول تعتبرها واشنطن تحت جناحیها، إلا المزید من الخنوع.. والتآمر على "الأشقاء والإخوة"..

زعماء یسخرون من شعوبهم وهم یلقون کلماتهم فی قممهم.. قراراتهم التی قیل کثیرا أنا تأتی بلغة غیر عربیة تحمل أجمل ما فی اللغة العربیة.. بینما وبدونیة مریضة تتجه عیونهم نحو بوصلة أمریکا فی تجنید نحو البعض ونحو عدو جدید: إیران!

لو أن واشنطن، ولو مرة واحدة فقأت عیوننا بالسماح للسادة الزعماء الذین تذکرهم "الوثائق المسربة" بمشروع علمی واحد لقلنا أن هؤلاء یستخدمون الذکاء العربی الذی غادرهم منذ أن نصب الواحد منهم نفسه بدل الخالق متحکما بما یأکلون ومتى وکیف یجامعون نسائهم.. مسموح أن ندخل وبکل سخافة کتاب غینیس فی التبولة والکنافة والمسخن وأعلى برج.. کل الاسمنت مسموح.. إلا فی حالة وجود ملاجئ لتقی الناس من أی کارثة او حرب.. مسموح أن نتهکم من صواریخنا، ولکننا ندفع الملیارات لنبقی عجلة الصناعة العسکریة الأمریکیة.. ومسموح أن یقال "لا للفساد والرشى" بینما تمتلئ جیوب وسطاء حکامنا بقذارة الفساد الذی یقطر دما ودمارا..

إیران التی تجند واشنطن، وبما یشبه الأوامر عبر أوکارها، انتقلت خلال عقدین من الزمن من دولة محطمة إلى دولة یُحسب حسابها.. هل لأن الشعب العربی أقل ذکاءا؟.. لا، الأکثر هجرة الأدمغة نحو فرص لحریة إبداع وتفکیر من أوضاع لا تسمح سوى باستنساخ ما یدور فی خلد الزعیم..

مالیزیا، التی انتقلت من حالة لأخرى لم تکن محکومة لا بحکام مثل حکامنا ولا نخب النفاق التی تتهم الشعب العربی بأنه مصاب بمرض "المؤامرة"..

المشکلة أن "السادة" و"أتباعهم" یسافرون، سیاحة وغیر سیاحة، یرون ما یجری فی أنحاء العالم.. من النظافة حتى الزراعة والتصنیع ونظام السیر والتأمین والضمان الصحی/الاجتماعی.. لکنهم غیر قادرین على أن یحکموا سوى بالطریقة التی تم فیها خذل حلب ایام ثورتها بوجه الفرنجة 1124 م..

هؤلاء لا یرون فی ترکیا نموذجا یحتذى به.. لما لا؟ الجواب یحتاج للکثیر من الکرامة الوطنیة والقومیة.. مشکلة هؤلاء الحکام الذین تسخر منهم سفارات أمریکا أنهم یریدون للکل أن یکون مثلهم، ومن یختار إستراتیجیة على غیر هدى أوکار الجاسوسیة یصبح محط تشویه وسخریة ومخططات للتخلص منهم.. لذا فللعرب، حکام بعض القبائل، مشکلة رئیسة الیوم، وهی لیست جدیدة، مع قناة فضائیة "الجزیرة".. وهم مستعدون للتحالف مع أی کان فی هذا العالم لیعیدوا زمن الظلمات والتعتیم..

العدو الذی یهود قدس أقداس العرب والمسلمین غیر مستعدین لسحب سفیر/ ممثل لهم وله بسبب ما تمارسه من تهوید ودمویة.. وهم مستعدون، حین یغضبون من بعضهم أن یتحفونا وعلى الهواء بلغة سوقیة تصف "فحولة" کل منهم بوجه الآخر.. وسحب السفراء وقطع الاتصالات.. بینما تتواصل الاتصالات مع مجرمی الحرب فی فترة العدوان على غزة "بغض النظر عن الرفض أو القبول بمقترحات مجرم بمستوى باراک"..

السلطة الفلسطینیة التی کان المعارضون لعبثیة مفاوضاتها یتهمون بالعدمیة تأتی وثائق ویکیلکس لتثبت أیة نظرة وظیفیة لتلک المفاوضات التی استمرت مع لیفنی واولمرت.. لکن لاحرج.. فهذا هو المشی على الرأس.. بصراحة، هل یصدق أحدکم بأن هؤلاء الحکام العرب یشعرون بحرج؟ "وتحدیدا هؤلاء الحکام الذین تنظر الیهم واشنطن کالبیادق فی لعبتها الکبیرة"..

شخصیا، وأنا أتحمل مسؤولیة کلامی واستنتاجی.. هؤلاء لا یعرفون أصلا معنى الحرج والخجل.. هؤلاء یمدون ألسنتهم بوجه شعوبهم لأنهم یعتقدون أنهم خلفاء الله فی الأرض.. ومهمة واشنطن حمایتهم.. کما فعلت مع جمهوریات الموز ومارکوس وبینوشیه.. لکنهم بالتأکید سیکتشفون أنهم لیسوا عند واشنطن أکبر حجما وأثقل وزنا من شاه إیران..

على الهامش:

هل تذکرون قصة جیفری فیلتمان وسفارته فی عوکر؟ إنها الصورة المصغرة التی ترید من خلالها واشنطن أن تحکم أوکارها هذا العالم العربی وحکامه..

ن/25