الذهاب إلى غزة على دبابة إسرائیلیة
الذهاب إلى غزة على دبابة إسرائیلیة
نقولا ناصر
فی الوثیقة التی کشفتها تسریبات "ویکیلیکس" عن اجتماع له مع وفد من الکونغرس الأمریکی فی حزیران/ یونیو 2009 قال فیه إنه "تشاور مع مصر وفتح قبل عملیة الرصاص المصهور، سائلا عما إذا کانا مستعدین لتولی السیطرة على غزة بمجرد أن تهزم إسرائیل حماس"، اعترف وزیر الحرب فی دولة الاحتلال الاسرائیلی ایهود باراک بأنه "تلقى أجوبة سلبیة من کلیهما".
لذلک فإن تعلیق رئیس دائرة شؤون المفاوضات فی منظمة التحریر الفلسطینیة، د. صائب عریقات، الذی رکز على نفی "تهمة" لم توجه للمنظمة وحکومة سلطة الحکم الذاتی التابعة لها فی رام الله إنما یحاول من ناحیة صرف الأنظار بعیدا عن حقیقة "العلم المسبق" بالعدوان الشامل على قطاع غزة، بدلیل قول عریقات إن الرئیس محمود عباس أبلغ رئیس دولة الاحتلال آنذاک، إیهود أولمرت، قبل أشهر من العدوان، بأنه یرفض "الذهاب إلى غزة على دبابة إسرائیلیة"، ویحاول من ناحیة أخرى عدم ترکیز الأضواء على التنسیق الأمنی الذی کان جاریا على قدم وساق أثناء وقبل وبعد العدوان بین الطرفین لاحتواء ردود الفعل الوطنیة علیه فی الضفة الغربیة، ویحاول من ناحیة ثالثة تحویل الأنظار بعیدا عن الترکیز على أسباب الموقف "السلبی" للمنظمة والسلطة من العدوان، وهی سلبیة مرفوضة وطنیا وممقوتة شعبیا دخلت التاریخ الوطنی الفلسطینی باعتبارها مثالا مدانا لقیادة سیاسیة معترف بها دولیا وعربیا کممثل شرعی ووحید لشعبها وقفت عملیا "متفرجة" على تدمیر جزء من وطنها وإبادة وحشیة لجزء من شعبها.
إن التقریر الذی نشر العدید من وسائل إعلام دولة الاحتلال فقرات منه أواخر الشهر الماضی عن وصول عدید قوات الاحتلال فی الضفة الغربیة إلى أدنى مستوى له منذ الانتفاضة الفلسطینیة الأولى فی ثمانینات القرن الماضی، وانخفاض عدید قوات الاحتلال التی کانت موجودة فی الضفة فی ذروة الانتفاضة الثانیة "الأقصى" التی اندلعت قبل عشر سنوات إلى النصف حالیا، مما أتاح للکتائب النظامیة فی جیش الاحتلال إجراء مناورتین تدریبیتین سنویتین کبیرتین وأفسح مجالا أوسع لتدریب قوات الاحتیاط وخفض معدل عدد أیام تدریبها وحرر قسما أکبر من القوات النظامیة وقوات الاحتیاط على حد سواء للانتشار حول قطاع غزة فی الجنوب وفی مواجهة المقاومة اللبنانیة فی الشمال، إنما هو تقریر یسلط الأضواء مجددا على خدمة عسکریة مجانیة یقدمها التنسیق الأمنی لقوات الاحتلال دون أی ثمن سیاسی فی المقابل للشریک الفلسطینی فی هذا التنسیق، مما یسوغ "تباهی" قائد عسکری کبیر فی قوات الاحتلال بالضفة فی مقابلة مع وکالة الأسوشیتدبرس مؤخرا بأن القائمة الطویلة بأسماء المقاومین الفلسطینیین المطلوبین التی کانت عادة تملأ دفتر مذکراته "لم یعد لها وجود تقریبا"، ویسوغ کذلک "عدم الراحة" الذی یشعر به البعض ضمن قوى أمن سلطة الحکم الذاتی لأن "القوات الفلسطینیة أحیانا تقوم بعمل الإسرائیلیین" ولأنها "تشارک فی الجریمة" کما قال للوکالة نفسها ضابط أمنی فلسطینی فی التاسعة والثلاثین من عمره فی نابلس رفض الافصاح عن هویته "خشیة تسریحه".
فی الرابع والعشرین من الشهر نفسه عام 2009 الذی قال فیه ایهود باراک لوفد من الکونغرس الأمریکی إنه "تشاور" مع "فتح" حول العدوان على غزة نشرت "خدمة أبحاث الکونغرس" تقریرا بعنوان "المساعدة الأمنیة الأمریکیة للسلطة الفلسطینیة" کتبه المحلل لشؤون الشرق الأوسط جیم زانوتی استعرض فیه تفاصیل مساعدات الولایات المتحدة الأمنیة لسلطة الحکم الذاتی الفلسطینی والتی "انهارت أثناء الانتفاضة الفلسطینیة الثانیة"-- مع أن المساعدات الأمریکیة "السریة" لـ"مکافحة الإرهاب" لجهاز الأمن الوقائی "استمرت أثناء الانتفاضة"-- ثم استؤنفت "بعد انتخاب محمود عباس خلفا له "الراحل یاسر عرفات" کرئیس للسلطة الفلسطینیة أوائل عام 2005، عندما أنشأت وزیرة الخارجیة الأمریکیة کوندولیزا رایس مکتب المنسق الأمنی الأمریکی "USSC" لاسرائیل والسلطة الفلسطینیة" الذی تحددت المهمة الأساسیة له فی "مکافحة الإرهاب"، أی المقاومة الفلسطینیة، وتولى رئاسته "منذ سیطرت حماس على قطاع غزة فی حزیران/ یونیو 2006 الفریق کیث دایتون.
وقد أنجز المکتب حتى الآن تدریب بضعة کتائب فی الأردن وخطط لتدریب ونشر عشرة کتائب "واحدة لکل واحدة من المحافظات التسع" فی الضفة الغربیة والعاشرة ککتیبة احتیاطی استراتیجی. وکان لا بد طبعا، فی المقابل، من "إخلاء أماکن للمجندین الجدد" فی أجهزة الأمن الوطنی الفلسطینی ومیزانیاتها ولذلک تم تسریح "ستة آلاف تقریبا" من منتسبی هذه الأجهزة حتى نهایة آذار/ مارس 2008 من خلال "خطة جذابة للتقاعد المبکر هدفها التخلص من الضباط الأقل اندفاعا وغیر المرغوب فیهم".
وحسب التقریر، فإن کل الخاضعین للتدریب، سواء المستجدین منهم أم من هم فی الخدمة، یجری "التدقیق" فی سجلاتهم الأمنیة للتأکد من خلوها من ای "صلات إرهابیة، وانتهاکات حقوق الإنسان، و/أو سجلات جنائیة" ویقوم بعملیة التدقیق "وزارة الخارجیة "الأمریکیة" وإسرائیل والأردن والسلطة الفلسطینیة قبل السماح لهم بالالتحاق بدورات التدریب إلی ترعاها الولایات المتحدة".
واللافت للنظر أن قدرا کبیرا من التمویل الأمریکی لهذا التدریب "161 ملیون دولار حسب التقریر" یصرف من خلال "حساب المراقبة الدولیة للمخدرات وفرض القانون"، فی إهانة واضحة لأی قوى "أمن وطنی" فلسطینیة وللمقاومة الفلسطینیة على حد سواء، وکأنما المقاومین وقوى الأمن التی یتم تدریبها ضدهم یعملون فی إطار الجریمة المنظمة لا فی إطار صراع وطنی وسیاسی.
ویلفت النظر أیضا ما ذکره التقریر من أنه "کقاعدة، لا یتم تزوید قوى السلطة الفلسطینیة بأی معدات ""غیر ممیتة"" دون موافقة مسبقة من اسرائیل"، ناهیک عن توقیع "خطاب اتفاقیة" بین الخارجیة الأمریکیة والسلطة الفلسطینیة "تعطی لحکومة الولایات المتحدة الحق" فی فحص المعدات المقدمة للسلطة ومراقبة استعمالها وإدارتها والتفتیش على سجلاتها ومتابعة حرکتها.
وفی استعراض التقریر لـ"أداء" القوات المدربة بتمویل أمریکی ورد الاعتراف التالی: "إن القوات المدربة فی الأردن برعایة الولایات المتحدة قد شارکت فی اعتقال أو قتل متطرفین ومتآمرین منتسبین إلى ما تصنفه الولایات المتحدة کمنظمات أجنبیة إرهابیة مثل حماس والجهاد الإسلامی الفلسطینی".
ویذکر التقریر کذلک أن شرطة السلطة التی دربها الاتحاد الأوروبی "قد انضمت" إلى القوات المدربة أمریکیا "فی کثیر من عملیاتها"، هذه العملیات التی اقتبس التقریر من الواشنطن بوست وصفا لها جاء فیه أنها "نشاط لمکافحة الإرهاب من النوع المعروف أکثر بأن القوات الاسرائیلیة تنفذه فی الأراضی المحتلة"، قبل أن یقتبس التقریر من یدیعوت أحرونوت فی أیار / مایو 2009 قول مسؤول لم تسمه فی السلطة الفلسطینیة إن "المزید والمزید من العناصر ضمن فتح وغیرها من الفصائل یتعاونون مع حماس بسبب عدم رضاهم عن سلوک السلطة الفلسطینیة" لأنهم یعتبرون التنسیق الأمنی "یجرد الفلسطینیین مما یرون فیه حقا مشروعا فی التحول إلى المقاومة فی حال استمرت القوات والمستوطنون الإسرائیلیون فی احتلال الضفة الغربیة".
وتکررت فی التقریر الإشارة إلى أن منع أی تضامن فی الضفة الغربیة مع قطاع غزة أثناء العدوان الشامل علیة قبل عامین کان من أهم انجازات التنسیق الأمنی والتدریب الأمریکی حد أن "قوات الدفاع الإسرائیلیة تخلت عن مسؤولیتها المباشرة عن ضبط الجماهیر للسلطة الفلسطینیة وتأکدت من إیصال قوات السلطة الفلسطینیة دون عوائق إلى المناطق المثیرة للقلق" قبل أن یقتبس التقریر من الفریق دایتون قوله إن ذاک الوضع قاد إلى أن "یذهب جزء جید من الجیش الإسرائیلی إلى غزة من الضفة الغربیة".
وعندما یتساءل التقریر عن احتمالات "التوصل إلى حل سیاسی ناجح" للصراع فی ضوء "الأسئلة عن الشرعیة والدافع السیاسی المحیطة بعباس و"رئیس حکومته د. سلام" فیاض وعملیات قوات السلطة الفلسطینیة"، وعندما یقول التقریر إن "أحد مصادر القلق "الأمریکی" هو التساؤل عما إذا کان التدخل الأمریکی یعزز شرعیة عباس والسلطة الفلسطینیة أو ینزعها ویسمح ل"حماس وغیرها" بالکسب السیاسی من قولهم إن "السلطة الفلسطینیة مرتهنة أکثر من اللازم للولایات المتحدة".
وعندما یتساءل عما إذا کان التدخل الأمریکی لتقویة قوى السلطة الفلسطینیة وإصلاحها یغذی فکرة أن قوى السلطة الفلسطینیة هی "شرطة إسرائیل" أکثر منها قوى ترکز على بناء دولة من منظور فلسطینی"، ثم عندما یقتبس التقریر من صحیفة هآرتس التحذیر الذی وجهته وزیرة الخارجیة الأمریکیة هیلاری کلینتون إلى عباس أثناء اجتماعهما برام الله فی الشهر الثالث من العام الماضی بأن برنامج المساعدات الأمنیة الأمریکیة له "سیکون الضحیة الأولى" إذا تمت المصالحة الفلسطینیة وتألفت حکومة وحدة وطنیة دون أن تلتزم حماس بشروط اللجنة الرباعیة الدولیة "الأمم والولایات المتحدة والاتحادان الأوروبی والروسی"، فإن هذه التساؤلات الأمریکیة تعطی شرعیة للتساؤلات الفلسطینیة المماثلة، وکذلک للسؤال عما إذا لم تکن الضمانة الوحیدة لاستمرار الوضع الفلسطینی الراهن، فی الضفة الغربیة بخاصة، هی الدبابة الإسرائیلیة نفسها التی قال عریقات إن عباس یرفض الذهاب إلى غزة على ظهرها، إلى جانب الرعایة والتمویل الأمریکیین للتنسیق الأمنی!.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS