حضاریة شعوبنا.. وهمجیتهم
بعد أن عقدت العزم على زیارة قطاع غزة، لأدخل ولآول مرة جزء غالی من أرض فلسطیننا الحبیبة، وبعد أن قدّر المولى عز وجل لهذه الزیارة أن تتم - وهو ما سأتناوله بالتفصیل لاحقاً – وبعد أن شاهدت وسمعت مواقف الأطراف مما جرى من کسر ولو جزئی للحصار الجائر المفروض على شعبنا، عجبت لتلک الحملة الشعواء التی تتصاعد ضد شعبنا المسالم المحاصر، والذی ضرب أروع امثلة الحضارة رغم معاناته المستمرة.
کٌتّاب سخروا أقلامهم للنیل من أبناء شعبنا دون استثناء، وآخرون وجهوا کل جهودهم لحشد وتجییش الشارع والرأی العام المصری ضد "الخطر الفلسطینی الجارف"، وضد الاعتداء على "سیادة وکرامة" مصر، وضد "خطر التوطین" المزعوم فی سیناء، ووصفات جاهزة تحاول جاهدة أن تُحوّل المزاج العام المتعاطف مع قضیة فلسطین وأهل فلسطین، إلى حقد ونقمة على "الهمج" القادمین من الشرق!
البرامج المتلفزة الحواریة أیضاً استدعت شخصیات کارهة لکل ما هو فلسطینی، لتبث الرعب فی قلوب المتابع والمشاهد المصری، مستضیفة رموزاً سیاسیة فلسطینیة لا تتوانى عن الطعن فی شعبها لأهدافها غیر البریئة، بل وتهدیده بابقاء المعبر مغلقاً "إلى ما لا نهایة" کما فعل نبیل عمرو، أو بزیادة جرعة الخوف لدى الشارع المصری باعتبار ما جرى موجهاً ضد أمنه کما فعل حسن عصفور، أو بالتحریض المباشر والاعتذار الملغوم عن أحداث لا وجود لها إلا فی مخیلة من یذکرها، طبعاً و لاننسى توجیهات رأسهم محمود عبّاس المحتمی فی المنطقة السوداء من رام الله وتوصیفاته المعروفة والتی لم تعد مستغربة منه أو من الحفنة المحیطة به.
ترى هل یستحق شعبنا ما یتعرض له؟ لنقف سویاً عند بعض الحقائق:
· عدد الذین دخلوا إلى شمال سیناء بعد 23/01/2008 یتراوح بین 700 و800 ألف شخص، وهذا الرقم بحسب عبد المنعم سعید مدیرمرکز الأهرام للدراسات السیاسیة والإستراتیجیة یوازی عدد سکان قطر أو البحرین.
· مئات الالاف هذه کانت تحمل معها حصیلة أشهر طویلة من المعاناة والحصار والتجویع
· الدخول کان عفویاً وجماعیاً ودون ترتیبات مسبقة
· أوصدت فی وجوههم الفنادق والنزل وأقاموا فی العراء رغم برودة الجو، ولولا کرم وضیافة أهالی شمال سیناء لسقط بعضهم ضحایا البرد والصقیع
· کان تعاطف وتضامن ودعم الشعب المصری ومنذ اللحظات الأولى غیر مسبوق، وانهالت المساعدات من کل حدب وصوب، ورکز الجمیع على رفض تجویع الشعب الفلسطینی، وعلى العلاقات الممیزة بین الشعبین، وما موقف لاعب الکرة المصری أبو تریکة ووقوف فئات الشعب المصری بکلها معه إلا دلیل على حجم التأیید والدعم
· لم تستطع کل الصحف والأقلام والبرامج التی جُیشت لاستعداء الرأی العام ضد شعبنا أن توثق حادثة واحدة، نعم واحدة فقط لا غیر، قام فیها فلسطینیون باقتحام المحال التجاریة، أو فتحها عنوة، أو نهبها، أو شراء بضاعة دون تسدید ثمنها حتى وان کان ثمنها تضاعف مرات ومرات، وحتى بعد أن صدرت الأوامر باغلاقها فی وجوههم
· لم یستطه هؤلاء أیضاً أن یرصدوا حالة اعتداء واحدة، نعم واحدة فقط لا غیر، داخل الأراضی المصریة على قوات الأمن أو المواطنین
· للأمانة وباستثناء حالتین فردیتین "تطنطت" لها الأبواق، الأولى تتعلق برفع العلم الفلسطینی فوق أحد أعمدة الکهرباء فی منطقة الشیخ زوید من قبل أحد المراهقین، وهو الأمر المرفوض جملة وتفصیلا، والأخرى عندما استعمل بعض الأفراد سلم خشبی "سیبة" للتدفئة، وهو ما أثار حفیظة أحد الأئمة فخصص خطبة الجمعة للحدیث عنه، إلى أن تقدم مواطن فلسطینی لا علاقة له بالأمر لکن ساءه ما قیل، ودفع للامام 200 جنیه بدلاً من السلم الخشبی، وهو ما یفوق ثمنه الأصلی، کتعویض عن هذا السلم، باستثناء الحادثتین لم تسجل أی حالة تسیء بشکل مباشر أو غیر مباشر لأخلاق شعبنا
· لو قسنا بمقیاس النسبة والتناسب وبالمقارنة مع المجتمعات الأخرى المتساویة عددیاً وغیر الخاضعة لظروف الحصار والتجویع، لکانت المحصلة صفر من الجرائم والأحداث، وهو ما یثبت حضاریة شعبنا
· دون انتقاص من أحد، ومع تقدیرنا للظروف المحیطة وبطبیعة النفس البشریة، ومع ایماننا بأن تصرفات الأقلیة المنحرفة لا تُشین الشعوب، لنقارن بین تصرفات شعبنا، وما حدث على سبیل المثال بعد اعصار کاترینا الذی ضرب المناطق الجنوبیة للولایات المتحدة الأمریکیة صیف عام 2005، وما تبعه من عملیات نهب وسطو وسلب للمحال التجاریة، لا لغرض سد الرمق بل لحمل کل ما یمکن من أجهزة کهربائیة وغیرها، وما حدث بعد سقوط بغداد عام 2003 من تهب للوزارات والمصارف وغیرها، لعرفنا درجة الحضارة التی تعامل بها شعبنا وهو المحتاج للطعام والشراب والدواء والکساء والأسمنت والوقود وغیرها.
· رغم ما أثیر عن نیة الفلسطینیین فی اقامة "غزة الکبرى" والتوطن فی سیناء، بل واحتلال رفح والعریش، عاد مئات الالاف إلى سجنهم فی قطاع غزة طواعیة، لیثبتوا وبالبرهان القاطع أنهم رغم الحصار والتجویع لأن یترکوا أرضهم ولن یقبلوا بغیرها وطناً
· حاولت ذات الأقلام والأصوات اختراع قصص وهمیة کمحاولات خطف جنود مصریین - لا نعرف لأی غایة! أو القبض على أشخاص وبحوزتهم أحزمة ناسفة فشلوا فی عرض أی منهم على الشاشات لعدم وجودهم أصلاً، أو قامت بتضخیم مبرمج لأحداث معینة کالحادث المؤسف على المعبر والذی سقط فیه ضحیة فلسطینی وجرح العشرات من الطرفین
· رغم کل هذا التحشید بقی کان تعامل قیادة قطاع غزة والحکومة فیه تعاملاً قائماً على الاحترام والتقدیر لدور مصر الرسمی والشعبی، ولم تصدر أی اهانات لهذا الدور، رغم حجم التحشید المسیء فی الاعلام المصری
· تم التلویح وعبر نظریات غریبة روّج لها کبیر المفاوضین الفاشلین صائب عریقات، أن الهدف مما جرى هو "رمی" قطاع غزة فی وجه مصر لتخلیص الاحتلال من أعبائه! ترى ما هی المسؤولیات الملتزم بها الاحتلال الیوم؟ ومن الذی طلب أو یطلب تحمل أعباء القطاع؟ وهل فتح معبر رفح أمام الأفراد والبضائع – بثمنها- توریطاً لمصر؟
· القضیة الأخیرة هی موضوع الأمن القومی المصری، وتردیدها فی کل مناسبة وکأن خطراً داهماً على مصر سیعبر من رفح، والسؤال هل الأمن القومی المصری لا یتحقق إلا بتواجد جنود الاحتلال على معبر رفح واشرافهم علیه؟ وهل رصدت أجهزة الأمن خلال العقود الماضیة حادثة واحدة، نعم واحدة فقط لا غیر، لفلسطینی أخل أو عرّض أمن مصر للخطر؟ هذا من المستحیلات لسبب بسیط، أن کل فلسطینی على هذه الأرض یعتبر أمن مصر أمنه المباشر، ویحرص علیه أکثر من حرصه على أمن نفسه، هکذا تربینا، وهذه هی مکانة مصر وأهلها الغالیة فی قلوبنا، وهنا اقتبس فقرة مما کتبه الزمیل المبدع رشید ثابت قائلاً: " هل فلسطین هی من قتلت عشرات آلاف المصریین؟ هل غزة مسؤولة عن ستین ألف مصری فی عداد المفقودین(هذه هی الوصفة المخففة للاقرار بأنهم ذبحوا على ید الصهاینة أثناء الأسر وذهب دمهم مطلا وبدون مساءلة من الدولة المصریة لصدیقتها فی تل أبیب)؟ وهل نحن من أدخلنا وندخل الإیدز والمخدرات والرقیق الأبیض والمبیدات المسرطنة والأعلاف المسممة والأدویة "المضروبة" للقطر المصری باستمرار؟"
هذه هی الحقائق، فمن این جاءت الادعاءات والمخاوف، ولماذا وقفت حفنة أوسلو والاعلام الموجه ضد شعبنا لتطعن فی أخلاقه وکأنه ارتکب جریمة العصر؟
ما سبق یثبت أن شعبنا کان أکثر الشعوب تحضراً وأخلاقاً خلال أیام تواجده فی مصر، وأن الشعب المصری کان أکثرها کرماً وضیافة لاخوانه، وأن من یقود الحملة الشعواء على شعبینا لا ینطلق من منطلق الحرص أو الکراهیة، بل لأهداف أکبر من ذلک، ولغایات تفوق شمال سیناء، خاصة حفنة أوسلو التی لم تعد مواقفها تختلف عن مواقف الاحتلال فی شیء، اللهم الا فی اللغة التی تتحول من العبریة للعربیة.
اتقوا الله وارفقوا بأنفسکم أولاً وبشعوبنا ثانیة، وتأکدوا أنه ما من قوة على الأرض تستطیع أن تفرق بین شعبینا، ولا أن تزعزع ایمان شعب مصر بعدالة قضیتنا، وهو الذی رفض ویرفض التطبیع لعقود من الزمن، بعد أن امتزجت دماؤه بأرض فلسطین وثراها.
ترى من الحضاری ومن الهمجی؟ من صاحب الأخلاق والفضیلة ومن صاحب الادعاء؟
کل التحیة لشعبنا الخلوق المتحضر والذی أفخر بالانتماء الیه، وکل التحیة لشعب مصر العظیم، والعار للاحتلال وأذنابه وأبواقه.
( المقال للدکتور ابراهیم الحمامی استلمته وکالة قدسنا )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS