ما أشبه اللیلة بالبارحة
هذا المقال تاریخی أکثر منه سیاسی، فمن یتناول شؤون السیاسة لا بد له من قراءة التاریخ، لیکون تحلیله منطقیاً مقبولاً، وإلاَّ فسوف یکون عمله عشوائیاً لا قیمة له. ومما یؤسف له أن أغلب المحللین السیاسیین الفلسطینیین والعرب یذهبون فی تحلیلاتهم من أحد واقعین: إما الانحیاز لطرفٍ دون آخر، أو عدم اتخاذ موقفٍ بعینه، أی عدم توریط أنفسهم فی معاداة طرفٍ على حساب طرفٍ آخر. وفی کلتا الحالتین؛ فإنه یخرج عن الموضوعیة الجادة.
المتعاطون مع الشأن الفلسطینی کُثر، وکلٍ منهم یتناول الموضوع بطریقته الخاصة، وربما وفق قناعاته الفکریة، التی ربما تکون مع هذا الفریق أو ذاک، وهذا حال العددیین من کتّابنا ومحللینا السیاسیین فیما یخص الشأن الفلسطینی، فالأرض الفلسطینیة یُنتهک عرضها وتُغتصب یومیاً على مرأى ومسمع الجمیع، ومع ذلک نجد من یتشبث ببوقٍ ینعق من خلاله، بضرورة الإیمان المطلق بالواقعیة السیاسیة، وبأن لیس بالإمکان أفضل مما کان، وذلک للحفاظ على الحد الأدنى مما یمکن أن نحصل علیه. والحقیقة أنه لیس هکذا تعلمنا من الوقائع التاریخیة، سواء منه القدیم أم الحدیث. تعلمنا أنه فی حالة الضعف یعمل أُولی الأمر، على إیجاد عدة مرتکزات لتحریر الأوطان:
المرتکز الأول – صیانة الجبهة الداخلیة للبلاد المعرضة للخطر أو التی تعرضت للخطر بالفعل، ومما یؤسف له أنه لا نجد هذا فی حالتنا الفلسطینیة، لا الآن ولا فی الأمس القریب ولا حتى الأمس البعید. ولنبدأ من الأمس البعید، جریاً على عادة النهج التاریخی فی تسلسل الأحداث، فخلال فترة الانتداب البریطانی على فلسطین، وحتى سقوط 78% من أراضیها غنیمة سائغة بأیدی الیهود، لیقیموا علیها دولة إسرائیل، لم یبذل الفلسطینیون أولاً، ولا العرب ثانیاً أدنى محاولة لرأب صدع جبهتهم الداخلیة، لتکون رکیزة لتحریر هذه النسبة العالیة من الأراضی التی افتقدوها، بل تصارعوا فیما بینهم على أمورٍ شکّلیة لا قیمة لها، عملت على ترسیخ أقدام الیهود فی فلسطین، ومن ثمَّ أضحت دولة توسعیة فی فترةٍ زمنیةٍ مذهلة، لم نرَ لها شبیهاً فی المصادر التاریخیة. الفلسطینیون من جانبهم بدأت الصراعات العائلیة تنشب بینهم، سواء بسببٍ داخلی محض، أم بسبب التدخلات الإنکلیزیة فی محاباة طرفٍ على حساب الآخر، وذلک کله من أجل شیء واحد مقدس لا ثانی له، هو الزعامة والمناصب. ومراجع التاریخ الفلسطینی حُبلى بمثل هکذا صراعات، ومن شاء التیقّن فعلیه بالرجوع لهذه المراجع.
وبعد نکبة 1948م، وتغیّر الکثیر من أنظمة الحکم العربیة، وتبنیها فکر ثوری قومی، لم یتغیّر الکثیر من المعادلة الموجودة على الأرض، فلا الأجزاء التی فُقدت من فلسطین اُستردت، ولا الفلسطینیون حاولوا تغییر هذا الواقع، نظراً لانقساماتهم الداخلیة وانتمائهم لأحزابٍ عربیة، اتخذت من نکبة فلسطین مطیّة للوصول إلى الحکم. ولمَّا حاول الفلسطینیون تغییر هذا الواقع فی منتصف ستینات القرن المنصرم، وانشئوا منظمة التحریر الفلسطینیة بقیادة السید أحمد الشقیری، بقوا على انقساماتهم. فلم ینضم لهذه المنظمة الکثیر من الحرکات والتنظیمات الفلسطینیة، بحجة أنها کیان نشأ تحت العباءة العربیة، أی منظمة تابعة ولیست مستقلة القرار، وبدأت تکیل التهم للشقیری بالتبعیة لنظام الرئیس المصری الخالد جمال عبد الناصر. وبعد هزیمة حزیران (یونیه) 1967م، قامت هذه الحرکات بانقلابٍ أبیض ضد الشقیری برضاً عربی، وانتزعت منه زعامة المنظمة. فماذا کانت النتیجة ؟. بعد أقل من شهر على هذا الانقلاب صرّح السید یحیى حمودة الرئیس الجدید للمنظمة، بأن المنظمة على استعداد للقبول بدولة علمانیة دیمقراطیة فی فلسطین، وأن الفلسطینیین والإسرائیلیین لیس بوسع کلاهما إلغاء الآخر، ثمَّ انفتح بازار التنازلات بدءاً من عام 1974م، عندما عرضت قیادة المنظمة ما سُمی بمشروع النقاط العشر الشهیر، ثمَّ القبول بدولة فی حدود عام 1967م، وأخیراً هبط السقف إلى القبول بسلطة حکم ذاتی محدود طبقاً لاتفاقیة أوسلو الموقعة عام 1993م.
أما الأنظمة العربیة فلم تعمل خلال هذه الفترة على مساعدة الفلسطینیین على تحریر أراضیهم المحتلة، بل انساقوا وراء جملة من مشاحناتهم وخلافاتهم الداخلیة، التی أدمت القضیة الفلسطینیة، فنظامٍ عربی بعینه اقتطع من فلسطین جزء مهم منه وضمه لسلطته، ولم یتبقَّ من فلسطین التاریخیة سوى قطاع غزة تحت الإدارة المصریة، وعدت الأخیرة بإعادته للفلسطینیین بعد تحریر بقیة التراب الفلسطینی. ثمَّ توالى سقف التنازلات العربیة أیضاً، عندما قَبِلَ العرب بالقرار الدولی 242، بعد هزیمة 1967م، والذی مثَّل فی حینه کارثة ألمّت بالقضیة الفلسطینیة. وأخیراً ولیزیح العرب عن کاهلهم هم القضیة الفلسطینیة، أقرّوا فی قمتهم الشهیرة فی الرباط عام 1974، الاعتراف بمنظمة التحریر کممثل شرعی ووحید للشعب الفلسطینی، أی بعد 10 أعوام من نشأتها. والحقیقة هذا الإقرار لم یتم محبةً بالفلسطینیین، ولکن لغرضٍ فی نفس یعقوب، بأن ینفضوا أیدیهم من المشکلة الفلسطینیة برمتها ورمیها فی حجر من اعتبروهم أصحاب الشأن الأول، وأن تحریر فلسطین مسئولیتهم.
أما الآن، فالصورة أضحت أکثر دراماتیکیة، فالعرب بطریقٍ أو بآخر ورّطوا الفلسطینیین فی مأزقٍ لا فکاک منه، عندما سهّلوا لهم بعد حرب الخلیج الثانیة عام 1991م، الدخول فی مفاوضات مع الإسرائیلیین، سواء علنیة أو سریة، انتهت بتوقیع اتفاقیة أوسلو – کما أسلفنا الإشارة. غیر أن هذا لا یُعفی القیادة الفلسطینیة من المسئولیة على هذا التوقیع الذی یُعتبر ضمناً تنازلاً عن 78% من أرض فلسطین التاریخیة. فلو بقوا مُصرّین على استرداد کامل حقوقهم، ولو ذاقوا لقاء موقفهم هذا الأمرین، فلن تکون فی الدنیا قوة تلومهم على هذا الإصرار، ولکنهم من قبل کانوا قد أعطوا العرب الذریعة للتملص من مسئولیاتهم، بأن جعلوا قضیتهم المرکزیة شأن فلسطینی صِرف، لا دخل للعرب فیه. فماذا کانت النتیجة المترتّبة على الدخول فی مفاوضات غیر سویة، لا یتساوى فیها طرفی المفاوضات؟. تفسخ داخلی لا قِبَلَ للفلسطینیین به، ومن ثمَّ تناحر أدّى إلى مزید من الفُرقة بین الحرکات والتنظیمات الفلسطینیة، نظراً لاختلاف توجهاتها وأیدیولوجیاتها، حتى أننا نستطیع أن نجزم بأن هذه الحرکات تکره بعضها البعض أکثر مما تبغض عدوها الرئیسی إسرائیل.
والمرتکز الثانی لتحریر الأوطان، هو الصبر والتأنی فی مواجهة العدو، فالقضیة الفلسطینیة لیست قضیة سیاسة واختلاف على حدودٍ بعینها، بل قضیة وجود یتغلّب فیها من یثابر على مبادئه، ولا یتزعزع عند أول صدمة یتعرّض لها. فلو قامت إسرائیل بقضم کل الأراضی الفلسطینیة قطعة تلو الأخرى، فهذا لا یعنی أن فلسطین التاریخیة ضاعت إلى الأبد. فلو لم یتمکن هذا الجیل ولا الذی یلیه من استردادها، فسوف یستردها یوماً جیل آخر، ولن نکون بحاجة إلى أن یوصمنا التاریخ یوماً ما، بأننا تنازلنا وفرّطنا بأکثر من ثلاثة أرباع وطننا، مقابل حصولنا على البقیة الباقیة من فلسطین التاریخیة، هذا إن سُمح لنا بالحصول على هذا الجزء کله - أی الثلاثة أرباع المتبقیة.
والمرتکز الثالث والأخیر، حتى إذا قبلنا جدلاً بأهمیة المفاوضات مع عدو یفوقنا عدةَ وتسلیحاً، فلنا فی التاریخ عبرة مما حدث مع الثورة الجزائریة، فالجزائریون بعد 130 عاماً من الاحتلال، رفضوا التفاوض مع المحتلین الفرنسیین، إلاَّ تحت دوی المدافع، حتى لا یفقدوا ورقة مهمة من أوراق التفاوض. لکن مما یؤسف له أن هذا الأمر لم یحدث فی الحالة الفلسطینیة، فمع بدء المفاوضات مع الجانب الإسرائیلی، سرعان ما خبا ومیض الانتفاضة الأولى إلى أن تلاشى، فجلسنا على مائدة المفاوضات مجرّدین عراة من أیة وسیلة نضغط بها على الطرف الآخر. بل وتمادینا فی إظهار عجزنا أمام المفاوض الغریم، بأن نبذنا ما سُمی وقتذاک بالعنف والإرهاب، أی المقاومة.
إن ما تعانیه غزة الیوم جد صعب، رغم أن غزة هی البوابة الرئیسیة لتحریر فلسطین عبر الزمان، الکل تخلّى عنها، طبقاً لمقولة والی الأمویین وقتذاک على البصرة زیاد بن أبیه، الذی قال یوماً: "أنجو سعد فقد هلک سعید". فالعرب تخلّوا عن هذه المنطقة، لأنه باعتقادهم لا طائل من التوقف أمامها بعدما هلکت، وإلاَّ فالدور علیهم؛ لذا فعلیهم بالنجاة بأنفسهم؛ وإن لم یفعلوا فالدور علیهم. والفلسطینیون بدورهم غرقوا فی مستنقع الفتنة التنظیمیة، وتصارعوا فیما بینهم، خاصةً بین التنظیمین الأکبر على الساحة الفلسطینیة، مما أدى إلى ما أسماه البعض انقلاباً على الشرعیة، وأسماه البعض الآخر حسماً عسکریاً. وسواء صح هذا أو ذاک، فالکل خاسر من هذا التناحر التنظیمی، والمستفید طرف واحد، هو عدوهم؛ لذا فصراع العائلات الذی وُجد زمن الانتداب، هی نفسه یتکرر بقالبٍ جدید یسمى صراع التنظیمات، وکما کانت فلسطین ضحیة هذا النزاع فی السابق، فغزة خاصةً وفلسطین عامةً ضحیة هذا النزاع بعد أحداث غزة، وسمیه ما شئت (انقلاب – حسم)، فالمسمیات تختلف والضحیة واحدة. حقاً إنها معادلة صعبة یُرثى لها، ویندى لها الجبین الإنسانی خجلاً.
( المقال للدکتور أسامه محمد أبو نحل الأستاذ المشارک فی التاریخ الحدیث والمعاصرــ جامعة الأزهر – غزة )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS