لـن تکـون حـرب أهلیـة فی لبـنان
لیس للقوى السیاسیة الجدیة مصلحة فی إشعالها ... والجیش ضمانة أکیدة
برغم حملات التعبئة، المفتعل منها والمقصود، المرتجل منها والمخطط له، لن ینزل شباب البیت الواحد فی الحی الواحد فی المدینة الواحدة الموحدة، إلى الشارع لیقتتلوا عبثاً، ولا قضیة.
لن یندفع اللبنانیون، مرة ثالثة، رابعة، خامسة... إلى حرب عبثیة لن تنفع ما هو غیر قابل للتبدیل فی مکونات کیانهم وفی ثوابت وجودهم.
لن تنفع التحرشات والاستفزازات ومعارک الصبیة المهووسین مع الساعات الأولى للمساء فی تدمیر أسباب حیاة اللبنانیین وجرهم إلى التهلکة لذرائع متهالکة تتهاوى قبل شروق الشمس، فتکشف «مصدرها» الأصلی وتفضح طبیعتها «المستوردة».
لن تکون حرب أهلیة لیس فقط لأن اللبنانیین من عشاق الحیاة، یعیشونها بکل جوارحهم ویستمتعون بکل متعها، بل لأن المؤمنین منهم بالجهاد والتحریر وبناء وطن حر للإنسان یقاتلون کأشرف ما یکون الجهاد ویستشهدون بفرح ویودعهم أهلهم بالزغارید... وقد قبل الکل الکل، وسلم الکل بالکل، بغض النظر عن اختلاف الرأی أو المفهوم طالما أن لبنان فی نظر الجمیع واحد، وأن الکل حریص على نظامه الدیموقراطی، ویفهم تنوع المجتمع إضافة غنیة، ویطالب بدولة عادلة تعترف بجمیع مواطنیها وتساوی بینهم.
.. ولیس فقط لأنهم خبروا عبثیة الحرب الأهلیة وتناقضها مع مجمل طموحاتهم وخصوصاً قد اکتشفوا ـ وأکثر من مرة ـ أنه من التوهم الافتراض بأن المدفع یمکن أن یحقق ما عجزت عنه السیاسة، داخلیاً.
... ولیس فقط لأنهم اکتشفوا أن الحرب الأهلیة لا یمکن أن تقع وتمتد وتتعاظم طاقة التدمیر فیها بتمویل الخارج وبتخطیطه ولحسابه، وأن «المحلیین» فیها لیسوا أکثر من «وقود» بغض النظر عن الشعارات وادعاءات «النصر» الذی بین أکلافه وحدة الشعب والوطن.
لن تکون حرب أهلیة فی لبنان، مهما بلغ الساعون لإشعالها من أسباب القوة والقدرة على التأثیر... فلیست النادبة کالثکلى!
کیف هؤلاء الذین عاشوا العمر أهلاً، یتقاسمون المنزل الواحد، یتصاهرون ویشارکون بعضهم هناءة الفرح وحزن المصاب ولقمة العیش فی أیام الضیق سیتحولون ـ فجأة ـ إلى أعداء، نتیجة خطاب سیاسی أرعن أو تحریض مکشوف لا یقبله عقل ولا یقره دین، فیندفعون فی طلب الثأر ممن لا ثأر لهم عنده ولا عداء معه ولا تناقض فی المصلحة، بینما کل أسباب الحیاة تفرض علیهم التوحد؟
إن حملة التحریض المفتوحة منذ شهور تتجاوز کل ما ألفناه من دسائس وشائعات مسمومة وفتن صغیرة مدبرة، غالباً ما تنطلق من الفضاء إلى الأرض، إذ أن بعض الفضائیات المحلیة والعربیة تتخذ موقع «البث العاجل» لما تفترض أنه سیحقق الغرض ولو بدماء فتیة أبریاء قد یأخذهم الهوس إلى الغلط، لکنهم لم یقصدوا أبعد من تأکید الذات ومن الحضور إلى جانب الآخرین ومعهم.
لن تکون حرب أهلیة فی لبنان...
فالمرتزقة، سواء أکانوا فی شرکات أمنیة أم فی تنظیمات وهمیة تکشف أکثر مما تخفی الطرف المموّل، لا یکفون لتفجیر حرب أهلیة، طالما أن القوى السیاسیة الأساسیة لا تریدها ولا مصلحة لها فیها.
وبالتأکید فإن «تیار المستقبل» الذی بدأ مسیرته على طریق التحول إلى «حزب سیاسی»، والذی یحظى بجماهیریة واسعة زاد من تماسکها وتراصها الإحساس العمیق بالظلم الناجم عن اغتیال الشهید الرئیس رفیق الحریری ورفاقه، لا یرید الحرب الأهلیة ولا هو فی وارد الاندفاع إلیها، حتى لو استخدم بعض أنصاره شعارات مثیرة أو أطلقوا هتافات عدائیة لآخرین یبادلونهم «التحیة» بمثلها،
لا سعد الحریری یرید الحرب الأهلیة أو یسعى إلیها، حتى وهو یطلب العدالة لدم أبیه الشهید، وهو مطلب یشارکه فیه اللبنانیون عموماً، حتى لو وقع خلاف على الأسلوب أو على إصدار الأحکام المطلقة مسبقاً والبناء سیاسیاً علیها، لیس فی ما اتصل بـ«الخارج»، بل أساساً فی ما یتصل بالداخل وأهله الذین یستشعرون الخسارة الفادحة لتغییب الرئیس الشهید قبل وبعد الموقف المبدئی من الاغتیال السیاسی کأسلوب مدان عن أیة جهة صدر.
أما «حزب الله» فمؤکد أنه لا یرید «الحرب الأهلیة» بل هو یعتبرها مؤامرة علیه، ومحاولة مکشوفة لسحبه إلى المستنقع الداخلی، بکل ما ینضح به من طائفیات ومذهبیات، لإغراقه فی فتنة عمیاء تصیبه فی مقتل، بینما عجز الجیش الإسرائیلی الذی لا یُقهر عن إلحاق الهزیمة به فی المیدان، بالحرب التی استهدفت الإنسان وأسباب العمران، فی تموز ,,.2006 بل إن بسالة المجاهدین فی قتالهم وثباتهم فی مواقعهم لمدة ثلاثة وثلاثین یوماً من الحرب التی لم توفر فیها إسرائیل سلاحاً، قد حققت نصراً باهراً اعترف به العدو قبل الصدیق.
وبالتأکید فإن «حزب الله» یحفظ لبیروت وأهلها، وبالدرجة الأولى وقبل سائر اللبنانیین، الفضل فی أنها حمت ظهره وهو ینصرف إلى مقاتلة العدو الإسرائیلی لتحریر الأرض. کانت عاصمته الحاضنة والحانیة. وکان سیف الوطن المقاتل ضد عدوه المحتل.
ثم أن «حزب الله» یحفظ لهذا النظام، وبکل عوراته، أنه وبفضل الهامش الدیموقراطی، قد مکّنه من أن یتعامل مع «التحریر» بوصفه قضیة وطنیة لها موقعها السیاسی الشرعی فی سیاسة الدولة وحرکة حکوماتها، فضلاً عن إیمان الناس بالهدف وإن اختلفوا أحیاناً حول الأسلوب.
ویعرف «حزب الله»، على وجه التحدید، أن من یحاول جره إلى الحرب الأهلیة هو فی عدائیته أشد من إسرائیل، لأنه یرید حرمانه من «بحره»، وجعله مکشوف الظهر، عبر الترکیز على «فئویته» لطمس جهادیته، وجره إلى مواجهة مع ذاته وأهله فی الداخل بینما عدوه لیس عدوه وحده بل عدو شعبه ودولته وهذا النظام الطوائفی بدیموقراطیته الفریدة فی بابها.
لقد فرض على بیروت أن تعیش حروباً أهلیة عدة فی العقود الأربعة الماضیة. ودائماً کانت المصالح الأجنبیة ظاهرة أو مستترة هی المحرک الأساسی. ومن جهود المقاومة الفلسطینیة إلى جهد «حزب الله» کانت إسرائیل دائماً محرکاً أساسیاً ومن ثم مستفیداً أول من نتائج تلک الحروب الأهلیة.
وکلنا یعرف أن الحرب الأهلیة فی لبنان کانت فخاً عظیماً لاصطیاد المقاومة الفلسطینیة ولحرف مسیرتها الجهادیة عن مقاصدها، وإغراقها فی أتون الطوائف والمذاهب عبر صراع الأنظمة على لبنان وفیه.
و«حزب الله» کما سائر القوى السیاسیة یعی جیداً هذا الدرس المکتوب بدماء آلاف الشهداء فلسطینیین ولبنانیین وعرباً آخرین.
وبدیهی أن «الحرب المفتوحة» التی لوّح بها الأمین العام لـ«حزب الله» السید حسن نصر الله إنما تستهدف العدو الإسرائیلی، کرد على إقدامه على اغتیال المجاهد ـ القائد عماد مغنیة... وبالتأکید فلیس لبنان مسرح هذه الحرب إلا إذا فرضتها إسرائیل علیه، مرة أخرى...
إن موجبات المواجهة تقتضی أن یطمئن اللبنانیون إلى أن هذه الحرب «لن تُفتح» فی شوارع بیروت وأحیائها، بل إن من یحاول جعل بیروت مسرحاً لها إنما یتآمر على لبنان واللبنانیین وبیروت و«حزب الله» ویکون بالتأکید حلیفاً لإسرائیل، ولیس مجاهداً لمنع عدوانها.
وفی کل الحالات، فإن أحداً لا یخوض حرباً ضد أخیه أو نسیبه أو جاره فی الشقة المقابلة من العمارة ذاتها، بأمر الخارج، وتحقیقاً لمصلحة خارجیة واضحة ومعلنة.
لا أحد یدمر مدینته التی احتضنته طفلاً ورعته تلمیذاً وطالباً ثم خرّجته جامعتها طبیباً أو مهندساً أو مصرفیاً، ووفرت له فرصة الولوج إلى المستقبل مؤهلاً بعلمه وکفاءته، کل ذلک تنفیذاً لأمر یتلقاه من الخارج فیذهب إلى تنفیذه مغمض العینین بالولاء المطلق لمن یدفعه إلى الانتحار!
حتى هؤلاء الذین یأخذهم التحریض والرغبة فی إثبات الحضور بتقلید الأقویاء إلى «شغب المساء» فی الشوارع، لا یکرهون مدینتهم بل لعلهم یبالغون فی حبها إلى حد الرغبة فی احتکار هذا الحب وفی ادّعاء حصریته.
وإذا کان الجیش قد أنهک منذ ثلاث سنوات بفعل التناوب على الساحات والتظاهرات والاحتجاجات، کما بالتحدیات الکبرى التی فُرضت علیه سواء بالانتشار جنوباً أو على طول الحدود الشمالیة والشرقیة، فإن استدراج الجیش اللبنانی إلى الزواریب الداخلیة لإنهاکه ومن ثم تشویش صورته وهزّها، إنما سیزید من الانکشاف السیاسی والأمنی، فی غیاب القرار السیاسی الحامی للبلد وأهله وجیشه.
فالمسألة لیست مسألة تقنیة، أی إشراف قیادة الجیش وسهرها ونشرها آلاف الجنود فی الشوارع للفصل بین المتصادمین وتوقیف المشاغبین والتعامل بحزم مع المخلین بالأمن، بل هی سیاسیة بامتیاز، بمعنى أن یتم اتخاذ قرار سیاسی جریء بالتسویة التی تنهی هذا النزاع الأهلی المدید. ولعل صرخة قیادة الجیش جاءت فی محلها للتحذیر من خطورة ما یحصل، بوصفه خیر تعبیر «عن غیاب المسؤولیة الوطنیة».
ومن کان بعیداً عن مناطق التماس الجدیدة، تکفلت الفضائیات اللبنانیة والعربیة بنقل الصوت والصورة بطریــقة مســیئة للمحطــات والحـقائق، خاصة مع «الأخبار العاجلة» التی کــانت ترمــى على الشــاشات عن حرق مراکز ومحلات وشقق واشتباکات بالرصــاص وأعمال خطــف وإقامة حــواجز طیارة وبث صور والاعتذار من المشاهدین عن عدم بث البعض الآخر إلخ...
وقد طرح الأمر إشکالیة تکررت فی الآونة الأخیرة وخاصة فی أحداث مار مخایل والشیاح، عبر الإصرار على تقدیم صورة نمطیة معینة وتهییج الرأی العام وقلب الحقائق، وهذا الأمر استدعى مناشدة من قیادة الجیش إلى وسائل الإعلام «بعدم نقل الصور التی تثیر حساسیة الرأی العام وتذکی نار الفتنة، واستقاء المعلومات من مصادرها تجنباً للوقوع فی خطأ نشر أخبار خاطئة أو المساهمة فی نقل شائعات المغرضین المتربصین شراً بالوطن».
وسیبقى الجیش ضمانة قویة للوحدة الوطنیة، وسداً منیعاً فی وجه الحرب الأهلیة، لأن اللبنانیین جمیعاً، بأحزابهم المختلفة الرایات والأهداف، وبقواهم السیاسیة المتعارضة فی خطابها السیاسی، تراه صمام الأمان والملاذ الأخیر...
ولعلها تطلب منه فوق ما یطیق، وهذا ما یستدعی التنبه لأن الحرص على الجیش، فی هذه اللحظة تحدیداً، یعادل الحرص على الوحدة الوطنیة واتخاذ الموقف الصح لمنع الحرب الأهلیة
( المقال للکاتب للکاتب و الصحفی اللبنانی طلال سلمان )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS