الرضیع محمد البرعی.. درة جدید
یبدو أن الغالبیة الساحقة من العرب لا یرون فى المجزرة الإسرائیلیة الجاریة هذه الساعات فى قطاع غزة حدثا غریبا، طالما أنهم ألفوا طوال السنوات الأخیرة مشاهد ذبح الفلسطینیین بشتى الأسالیب القذرة التى برع فیها جیش الاحتلال الصهیونی، تماما مثلما برعت الأنظمة العربیة وتفننت فى إصدار بیانات الشجب والإدانة وحتى التهدید، وهو تهدید لم یخترق جدار "ضبط النفس" ولم یرق إلى جرح "مشاعر" الإسرائیلیین بالحجم الذى ذبحوا به مشاعرنا طولا وعرضا.
غزة تذبح، هذه هى الحقیقة الوحیدة الساطعة الآن، ففى أقل من 24 ساعة سقط ما لایقل عن 22 شهیدا بینهم أربعة أطفال وأکثر من 70 جریحا معظمهم شیوخ ونساء وصبیة، وفوق ذلک مازال دراکولا الإسرائیلى یلعق دم ضحایاه بتعطش ونهم ویتوق إلى المزید، یشجعه فى ذلک موقف الزعماء العرب وخاصة "المؤثّرین" الذین جعلوا همهم الوحید فرض نمط من السلطة فى لبنان وکأنهم أوصیاء على شعب مستقل کان وما یزال عنوانا للدیمقراطیة ولا یحتاج إلى من یتحایل علیها أو یدجنها خدمة لمصلحة واشنطن..
کان من المفروض أن تحتج السعودیة ومصر، وهما البلدان المؤثران عربیا، على المجازر الإسرائیلیة المتتالیة فى غزة المبتلاة بالانقسام الوطنى والحصار العربى والمؤامرة الأمریکیة.
کان من المفروض أن یتداعى وزراء الخارجیة العرب إلى اجتماع عاجل ویدعوا إلى قمة استثنائیة، بمن حضر، تعلن رفضها القاطع للمذبحة المنظمة ضد الأبریاء وتهدد بخطوات عملیة، ولدیهم الکثیر مما یستطیعون فعله لو صدقت النیات.
أربعة أطفال استشهدوا فى غزة ضمن الحملة الإسرائیلیة المسعورة، وتاج هؤلاء الشهداء الأربعة، طفل یسمى محمد البرعى لم یتجاوز الستة أشهر من العمر، وحتى بعد أن شوهدت صورة الملاک الشهید، لم نسمع من وصف هذه الفعلة بأنها جریمة شنعاء، فى الوقت الذى اعتبرت فیه إسرائیل مصرع أحد مستوطنیها بقصف للمقاومة على بلدة سدیروت "جریمة حرب" ارتکبتها حماس.
المثیر فى هذا الحدث أننا لم نلاحظ احتفاء بالشهید الرضیع محمد البرعی، على الرغم من أنه شهید کغیره من عشرات الرضع الذین حصدت أرواحهم آلة الحرب الإسرائیلیة فى قطاع غزة طوال سنوات الاحتلال السوداء، وبما أنهم أطفال لا ذنب لهم، نحزن حتى النخاع لفقدانهم، ونعتبر أن ذبحهم بتلک البشاعة میزة عدونا ودیدنه، ولکن فى المقابل نفخر بأن نضال الشعب الفلسطینى المجاهد یقدم حتى الرضع والأجنة فى الأرحام، وکل غال ونفیس من أجل قضیته العادلة.
المجزرة التى ذهب ضحیتها الطفل محمد البرعی، تماما مثل جریمة اغتیال محمد الدرة ذات انتفاضة، کشفت عمق الخور الذى أصاب الوحدة الوطنیة الفلسطینیة، وأصبحنا نسمع بتواتر تصنیفات هى أقرب إلى العار، فهذا الشهید لحماس والآخر لفتح وثالث للجهاد، وغاب من بین هذه التصنیفات الاسم الجامع "فلسطینی"، على الرغم من أن عدوهم یسوّى بین أرواحهم أمام آلته الإجرامیة.
الشرخ القائم بین حرکتى فتح وحماس سیحشر الفلسطینیین فى طریق مجهولة العواقب، وهذه المجزرة الأخیرة أکبر دلیل، لا سیما وأنها تزامنت مع تصریحات للرئیس محمود عباس، کم کنا نرجو أن تکون خاطئة وأن تکذبها الرئاسة الفلسطینیة، اتهم فیها حماس بجلب تنظیم القاعدة إلى القطاع، وهى تصریحات تشجع إسرائیل على العدوان وتتخذ منها غطاء للمجازر.
لیس هناک أدنى شک فى أن القضیة الفلسطینیة تمر بمرحلة عصیبة، سببها الفلسطینیون أنفسهم وتخاذل أشقائهم العرب وتثاقلهم فى نصرتهم.
ولیس هناک من خیار أمامهم إلا الوحدة الوطنیة وأن یفهموا أن الصراع أکبر من الکراسى وسطوة هذا الفصیل أو ذاک إنه صراع وجود وانتماء یقف فى مواجهتهم فیه عدوهم الأول إسرائیل وأعداء آخرون بینهم الإدارات الأمریکیة المتعاقبة التى سعت بکل ما أوتت إلى دعم الکیان الغاصب وتعویم المطالب الفلسطینیة عبر عملیة سلام یراد منها، فقط، ربح الوقت وتیئیس الفلسطینیین من المستقبل وأمل التحریر.
( المقال للعرب اللندنیة )
ن/25