الرد العربی على المحرقة!

اجتماع وزراء الخارجیة العرب الطارئ الذی اختتم أعماله فی القاهرة أمس، هو أحد أبرز النماذج على حالة التیه التی یعیشها النظام الرسمی العربی. فقد انفض دون اتخاذ أی قرار عملی یتعلق بالقضیتین اللتین انعقد من أجلهما وهما المجازر الاسرائیلیة فی قطاع غزة، وأزمة الفراغ الدستوری فی لبنان الناجمة عن عدم انتخاب رئیس للجمهوریة رغم انعقاد مجلس النواب 13 مرة لهذا الغرض دون فائدة.
ربما یکون وجود السیدة کوندالیزا رایس وزیرة الخارجیة الأمریکیة فی المنطقة، ولقاؤها مع الرئیس حسنی مبارک ووزیر خارجیته السید أحمد أبو الغیط قد لعبا دورا کبیرا فی خروج المجتمعین بهذه الحصیلة البائسة من المواقف المائعة والمکررة، فالسیدة الأمریکیة تعتبر عمیدة وزراء الخارجیة العرب، وممثلی دول محور الاعتدال علی وجه الخصوص، ورغباتها أوامر تطبق فورا دون مناقشة.
فالوزراء شدوا الرحال الى مقر الجامعة فی القاهرة من أجل مناقشة المحرقة الاسرائیلیة فی قطاع غزة، والرد علیها بشکل جماعی، استجابة لاستغاثة الشهداء الرضع، وأمهاتهم الثکالى، ولکنهم أثبتوا فعلا أن رأی الشارع العربی فیهم وفی قیاداتهم فی غایة الدقة، عندما طمأنوا القیادة الاسرائیلیة بأنهم ما زالوا ملتزمین بمبادرة السلام العربیة.
لم نتوقع من وزراء الخارجیة العرب اعلان الحرب على اسرائیل، أو سحب سفرائهم من تل أبیب، أو طرد سفراء اسرائیل من العواصم العربیة التی یقیمون فیها ویتمتعون بکرم ضیافة حکوماتها، فذلک زمن ولى ، وبات فی حکم الذکریات الجمیلة، ولکننا توقعنا أن یترجم وزراء الخارجیة العرب تمتماتهم بسحب مبادرة السلام التی أعادوا تقدیمها فی قمة الریاض الأخیرة الى قرار، خاصة أن هناک العدید من المبررات التی تحتم ذلک، منها عدم تجاوب الطرف الاسرائیلی مع أی من بنودها.
ما حدث أن الوزراء العرب، وکبیرهم الذی علمهم السحر السید عمرو موسی، بلعوا کل تسریباتهم فی هذا الخصوص، وتنصلوا من أی کلام فی هذا الصدد، بعد أن لوحت لهم السیدة رایس، فیما یبدو، بالعصا الأمریکیة الغلیظة.
وهذا التراجع المهین لم یقتصر علی وزراء الخارجیة العرب فقط، وانما امتد الی الرئیس الفلسطینی محمود عباس فی رام الله، فقراره بتعلیق المفاوضات مع اسرائیل احتجاجا علی مجازر غزة، لم یدم الا أربعا وعشرین ساعة فقط، وانهار فی الدقائق الأولی من لقائه مع السیدة رایس فی رام الله.
الرئیس عباس أعطى الشعب الفلسطینی أملا کبیرا بأن له رئیسا قویا صلبا یشعر بآلامه ویتعاطف مع شهدائه، عندما قال انه لن یعود الى مائدة المفاوضات مع الاسرائیلیین الا فی حال التهدئة الکاملة ورفع الحصار عن الشعب الفلسطینی، ووقف المجازر وعملیات القتل لیس فی قطاع غزة فقط ، وانما فی الضفة الغربیة أیضا.
ما حدث أن عمر هذه المواقف کان قصیرا جدا، ولم یزد عن بضع ساعات فقط، فقد تبین لنا أن الرئیس الفلسطینی رضخ بالکامل لمطالب السیدة رایس بالعودة الى المفاوضات دون شروط، واضطر المتحدث باسمه الی تأکید أقوال وزیرة الخارجیة الأمریکیة فی القدس المحتلة، التی أعلنت فیها موافقة الطرفین على العودة الی سیرتهما التفاوضیة الأولى وکأن مجزرة غزة، واغتیال شهیدین فی قلب مخیم بلاطة من کتائب شهداء الأقصى فی نابلس لم یقعا مطلقا.
لا نعرف ماذا جرى فی مفاوضات الأشهر التسعة الأخیرة بین السید عباس ونظرائه الاسرائیلیین، وما اذا کانت هذه المفاوضات قد تمخضت عن أی تقدم حقیقی . فالمفاوضون الفلسطینیون لیس لهم أی مرجعیة یعودون الیها، مثل المجلس التشریعی أو المجلس الوطنی، وکل ما نستطیع استنتاجه، ومن خلال الوقائع على الأرض، أن کل ما جناه الشعب الفلسطینی منها ومن مؤتمر أنابولیس للسلام الذی أطلقها، أکثر من خمسمئة شهید معظمهم من المدنیین والأطفال، والمزید من الاستیطان ومصادرة الأراضی، ومضاعفة الحواجز العسکریة فی الضفة الغربیة.
السیدة رایس لمحت الى حدوث تقدم ایجابی فی هذه المفاوضات أثناء مؤتمرها الصحافی الذی عقدته أمس فی رام الله مع الرئیس عباس، وطالبت بالاستمرار لتحقیق المزید، وامتدحت اخفاء المفاوضین هذه النتائج عن رجال الاعلام.
ولم یصحح الرئیس عباس أقوالها هذه، فإما ان ما قالته صحیح یتوجب تأکیده، أو کذب یتطلب تصحیحه، ولم یحدث ذلک فی الحالتین للأسف.
اولمرت اعلن بالامس ان الهجوم علی قطاع غزة سیستمر، واعطی مجلس وزرائه الامنی المصغر الضوء الاخضر لوزیر الدفاع ایهود باراک بوضع خطة شاملة لانهاء دولة المقاومة فی القطاع، وترحیل الفلسطینیین فی شمال غزة وخلق حزام امنی على غرار ذلک الذی اقامته القوات الاسرائیلیة فی جنوب لبنان، لمنع وصول الصواریخ الى عسقلان وسدیروت.
السید صائب عریقات کبیر المفاوضین الفلسطینیین قال ان التفاوض لا یمکن ان یستمر فی ظل الجنازات الفلسطینیة لشهداء قطاع غزة، هذا کلام جمیل، ولکن الجنازات الفلسطینیة لم تتوقف یوما واحدا، ومع ذلک استمرت مواکب سیارات مفاوضی السلطة تتدفق على القدس المحتلة طوال الاشهر الاخیرة دون توقف.
بالامس فقط انطلقت جنازة الرضیعة الفلسطینیة أمیرة ابو عسر، وقبلها انطلقت جنازات الشهداء الجرحى الذین انتقلوا الى الرفیق الاعلى بعد وصولهم الى مستشفیات مصر للعلاج، ولن یکون مفاجئا اذا استیقظنا فجر الیوم على توغل اسرائیلی جدید یحصد ارواح المزید من الابریاء فی غزة او نابلس او جنین. فماذا سیفعل کبیر المفاوضین الفلسطینیین ورئیسه، وکیف سیصافح نظراءه الاسرائیلیین فی القدس المحتلة؟
السیدة رایس لا تکذب، نقولها بمرارة شدیدة، والذین یکذبون هم مسؤولونا ووزراؤنا، فعندما تقول هذه السیدة ان المفاوضات ستستأنف، فهی کذلک، وعندما تقول ان تقدما قد حدث فاننا نخشی ان یکون قد جاء على حساب القدس المحتلة وحق العودة للاجئین الفلسطینیین، خاصة ان تسریبات وردت على لسان اولمرت بالاتفاق علی تأجیل البحث فی الاولى ، والکنیست اصدر بالامس قرارا بمنع عودة ای فلسطینی لاجئ الى وطنه.
عزاؤنا وسط هذا الظلام الحالک ان هناک رجالا فی قطاع غزة والضفة، یتمسکون بثوابتهم الوطنیة، ویستشهدون واقفین فی خطوط المواجهة الاولی، هم وابناؤهم. فالقادة الذین یضحون بابنائهم ویزجون بهم الى المقدمة فی جبهات القتال، ولیــس جبهات البزنس هم المنتصرون حتما.
( لعبد الباری عطوان فی القدس العربی )
ن/25