السبت 12 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

حصار غزة والبربریة الإسرائیلیة: ماذا عن الشریک الفلسطینی؟

 هل یحتاج العالم، بریطانیا والإتحاد الأوروبی بصفة خاصة، إلى التقریر الذی أصدرته بالأمس خمس منظمات دولیة رئیسیة مختصة بالإغاثة وحقوق الإنسان، بینها العفو الدولیة و أوکسفام ، حول الأوضاع الإنسانیة فی غزّة، بسبب الحصار الإسرائیلی الداخلی والخارجی الأورو ـ أمریکی، التی بلغت درجة من التدهور والسوء والخطورة لم یعرف القطاع مثیلاً لها منذ 1967؟ وأیّ حافز، لإنهاء للحصار،

یمکن أن تستولده سلسلة الحقائق الرهیبة التی یسردها التقریر (بدءاً من ساعات انقطاع الکهرباء التی تزید عن 12 ساعة، واعتماد 80% من العائلات فی غزّة على موادّ الإغاثة، مروراً بارتفاع نسبة البطالة إلى أکثر من 50% وتوقف 95% من الأشغال الصناعیة، وانتهاء بفشل الحصار فی إضعاف حماس، وإنجاز العکس تماماً: تقویة شوکتها السیاسیة والعسکریة والعقائدیة)، فی نفوس زعماء الغرب من أمثال السیدات والسادة أنغیلا میرکل أو نیکولا سارکوزی أو غوردن براون، ولا نشمل الرئیس الأمریکی جورج بوش لأنه أصلاً أحد صانعی الحصار؟

وهل نحتاج، نحن العرب والفلسطینیین منّا خاصة، إلى التقریر الذی نشرته مؤخراً مجلة فانیتی فیر الأمریکیة، لکی نکون على بیّنة موثقة حول تورّط البیت الأبیض مباشرة، وعن طریق تنسیق وثیق بین وزیرة الخارجیة کوندولیزا رایس ونائب مستشار الأمن القومی الیوت أبرامز من الجانب الأمریکی، والقیادی البارز فی حرکة فتح ومستشار الأمن القومی السابق محمد دحلان من الجانب الفلسطینی، فی زعزعة سلطة حماس وافتعال حرب أهلیة فتحاویة ـ حمساویة فی غزّة؟ کاتب تقریر فانیتی فیر ، دفید روز، یطلق اسم إیران ـ کونترا 2 على هذه العملیة، بالنظر إلی اعتبارین: أنها صیغت ونُفّذت بشکل سرّی محدود وغیر شرعی، أو غیر دستوری فی التوصیف الأمریکی لکلّ ما هو مخفیّ عن دوائر القرار الرسمیة؛ وأنّ أحد ابطالها، أبرامز، کان ذات یوم بطلاً فی إیران ـ کونترا 1 ، وحوکم بالفعل، وتمّت إدانته بجرم إخفاء الحقائق عن الکونغرس، قبل أن یعفو عنه الرئیس الأمریکی الأسبق جورج بوش الأب.

الحال أنّ مفهوم الحاجة هنا لا ینبع من طراز الکشف الذی ینکشف بغتة فیسدّ ثغرة فی المعلومات، هذه التی یلوح أحیاناً وکأنّ الغریزة وحسّ التاریخ و وقائع الماضی القریب تبرهن علیها بجلاء أمضی من جلاء الحقائق الدامغة، بل من ضرورة الربط بین عناصر المشهد الفلسطینی الراهنة: البربریة الإسرائیلیة القصوی، التی فاقت کلّ بربریة؛ ومبارکة الإدارة الأمریکیة الضمنیة لهذه البربریة، بل وتجمیلها أحیاناً؛ والصمت الدولی والعربی الرسمی، بما فیه صمت المختصین عادة بإثارة الضجیج وإطلاق الجعجعة؛ والوعد المقدّس الذی قطعه الرئیس الفلسطینی محمود عباس، بعدم استئناف المفاوضات مع الإسرائیلیین قبل التهدئة فی غزّة، ثمّ سحب الوعد جرّاء إیماءة خفیفة من وزیرة الخارجیة الأمریکیة؛ فضلاً عن زیارة الأخیرة إلى المنطقة، ومفاعیل اجتماعها مع الرئیس المصری حسنی مبارک کما تجلّت فی البیان البائس الذی أصدره وزراء الخارجیة العرب.

وثمة ما یضحک طیّ هذا المشهد أیضاً! خذوا، فی مثال أوّل، ارتفاع صوت دحلان، الغائب رسمیاً، من خلال عقیرة وزیر الإعلام الفلسطینی العبقری، الدکتور ریاض المالکی، الذی اتهم حماس بالمسؤولیة عن المجازر الإسرائیلیة، وقبلها حذّر العالم من أنّ القاعدة قادمة إلی غزّة، حتی أنّ المرء یترحّم علی أیام کان فیها یاسر عبد ربه هو عبقری إعلام السلطة، أو خذوا، فی مثال ثان، هذه الفقرة من النفی الذی صدر عن دحلان بخصوص تقریر فانیتی فیر ، والتی تعقب مباشرة هجوم صاحبنا على الإدارة الأمریکیة: خلافاً للإدعاءات الواردة، فالإدارة الأمریکیة فشلت فی توفیر أی دعم سیاسی للسلطة الفلسطینیة، فی حین واصلت هذه الإدارة دعم إسرائیل فی احتلالها للأراضی الفلسطینیة، واقامة مزید من المستوطنات !

وبمقدار ما تبدو نکتة ثقیلة الظلّ هذه الصحوة التی انتابت دحلان (الذی یقول تقریر فانیتی فیر إنّ بوش اعتبره رجل الإدارة فی السلطة الفلسطینیة) فی أمر دعم الإدارة للإحتلال الإسرائیلی، تبدو غضبة إسرائیل ضدّ انتقادات المجتمع الدولی للعملیات العسکریة البربریة فی غزة، بمثابة تتمة للنکتة ذاتها! کأننا، فی الجزء الأوّل من النکتة، نصغی إلی جعجعة تعالت وتصاعدت واصطخبت، دون طحن؛ وکأننا، فی تتمة النکتة، نصیخ السمع إلی رجع الصدی، بعیداً کان أم قریباً، مع الاعتذار من الروائی العراقی الراحل فؤاد التکرلی صاحب الرجع البعید . ففی صیف 2001، حین کانت إسرائیل آنذاک تدک نابلس وغزّة معاً، تباری الساسة الإسرائیلیون فی هجاء ذلک المجتمع الدولی إیاه، وذکّروا الجمیع بأنّ الدولة العبریة لا تتلقی الدروس الأخلاقیة من أحد، حتى من أعرق الدیمقراطیات الغربیة (بریطانیا وفرنسا) ومن أعتق وأصدق وأقرب الحلفاء (الولایات المتحدة). فلیراجعوا ضرباتهم الجویة فی البلقان قبل أن ینتقدوا الضربات الإسرائیلیة فی نابلس وغزة، قال نائب وزیر الأمن الداخلی آنذاک، وکأنه یعنی أنّ مقتل الطفلین الفلسطینیین الشقیقین أشرف وبلال عبد المنعم أبو خضر لا یلطّخ فی شیء سمعة جیش الدفاع الإسرائیلی فی تنفیذ ضربات جویة دقیقة... تصیب ربطة العنق دون أن تحرق القمیص!

الرئیس الإسرائیلی الحالی شمعون بیریس، وکان حینئذ وزیر الخارجیة، استشاط غضباً وطُعنت کرامته فی الصمیم حین سمع مَن یقول إنّ الدولة العبریة تسعی إلی تصفیة الفلسطینیین. نحن لسنا دولة مافیا تستخدم هذا النوع من الممارسات ، هتف آخر عجائز حزب العمل بعد أن تهدّج صوته وتصلّبت قسمات وجهه. مَن نحن، إذاً؟ الدولة الوحیدة فی العالم التی تواجه انتحاریین لا یمکن وقفهم بواسطة شرطة أو جنود ما داموا مستعدین للموت ، تابع حامل جائزة نوبل للسلام (ولتذکیر بعض حسیری الذاکرة، خصوصاً عبقری الإعلام الفلسطینی الدکتور المالکی، لم تکن صواریخ القسام قد رأت النور بعد، و حماس لم تکن فی السلطة، والدحلان کان رجل البیت الأبیض لتوّه...).

وتلک، مثل أیامنا هذه کما ینبغی أن نتذکر دائماً، هی أطوار انصهار تیّارات وأحزاب وألوان وأطیاف وضمائر أبناء الدولة العبریة، السواد الأعظم منهم عملیاً، ما خلا قلّة قلیلة محدودة منفردة معزولة، فی بوتقة التهلیل للبربریة العسکریة الإسرائیلیة، والتلذذ بمتابعة الموت على شاشات التلفزة، واستیلاد ذرّة إحساس أمنی إضافیة کلما خرّ فلسطینی إضافی وغرق فی برکة من دماء. هی أیّام الوحدة الوطنیة الإسرائیلیة القصوی، والائتلاف الشامل، والتعاضد الأعمی: ضدّ الفلسطینیین أوّلاً وجوهریاً، ثمّ ضدّ کلّ مَن تسوّل له نفسه اتهام الدولة العبریة بارتکاب ما ترتکبه المافیا، حتى إذا کان هذا وزیر خارجیة الولایات المتحدة أو بریطانیا أو فرنسا.

یومها قالت افتتاحیة صحیفة هآرتس ، المحسوبة علی الیسار الإسرائیلی، للتذکیر فقط، إنّ من الصعب تبریر تنفیذ ضربة جویة فی منطقة آهلة بالسکان دون توقّع حدوث إصابات فی صفوف المدنیین؛ ولکن من الصعب فی الآن ذاته عدم الوقوف صفّاً متراصاً وراء جیش الدفاع الإسرائیلی، فی کلّ ما یفعل، وأیّاً کانت النتائج. هذه وتلک، ودون اضطرار إلى أیّ نوع من الحذلقة أو التفلسف، هی روح إسرائیل المعاصرة: غوص فی الدماء حتى الرُکب، وتمترس أکثر فأکثر فی عقلیة القلعة المحاصَرة (المحاصِرة)، وغرق فی مزید من کوابیس الوجود وصراع البقاء، وخواف من الجوار، وحقد، وعنصریة، وجرائم حرب، وانزلاق أسرع فأسرع نحو الهاویة.

کانت هذه الإفتتاحیة لا تشبه فی شیء أجواء صحوة الضمیر التی خیّمت على الدولة العبریة قبل ثلاث سنوات فقط، فی الذکرى الخمسین لولادة الدولة التی شاء الغرب أن یزرعها واحة دیمقراطیة مضیئة فی قلب ظلمات الشرق الأوسط، وها هی تنقلب إلى وکر للقتلة ومجرمی الحرب والسفاحین والمتعطشین للدماء. الأرجح أنّ کاتب الافتتاحیة کان یعرف، فی قرارة نفسه، أنّ إبداء الأسف على مقتل الطفلین الفلسطینیین لن یکون أکثر من ملحق أخلاقی لا بدّ من ضمّه إلی الجعبة الملطخة بالدماء؛ مثلما کان یعرف أنّ العتب الأمریکی لم ینطلق من اعتبار آخر سوى ذاک الذی یتّصل بمقتل الأطفال... فمَن ذا الذی یفرح لمقتل الأطفال، فی کلّ حال؟

الأمریکیون، من جانبهم، یواصلون السیر على حبال دبلوماسیة مرنة (لأنها لیست من مسد أبداً)، ابتکر أطوالها وسماکاتها وعُقَدها رجال من أمثال دنیس روس ومارتن إندیک، وبارکتها نساء من أمثال مادلین أولبرایت وکوندولیزا رایس. وکان، ویظلّ، متطلعاً إلى قطف ثمارها رؤساء من أمثال بیل کلینتون وجورج بوش الابن، تعطشاً إلی انتصارات صارخة علی جبهات العلاقات العامّة الدولیة، تطمس ما تیسّر من الموبقات اللصیقة بالجبهات ذاتها علی الصعید الداخلی. ومنذ وقت مبکّر فی الجولات المعاصرة من التعاطی الأمریکی مع المفاوضات الفلسطینیة ـ الإسرائیلیة، أی منذ قمّة وای بلانتیشن التی انعقدت فی خریف 1998 وضمّت کلنتون إلى جانب الرئیس الفلسطینی الراحل یاسر عرفات ورئیس وزراء الدولة العبریة آنذاک بنیامین نتنیاهو، هیمنت فلسفة إندیک (التی صاغها حین کان مستشار مجلس الأمن القومی الأمریکی للشؤون العربیة ـ الإسرائیلیة والعراق وإیران وجنوب آسیا) حول نقطة واحدة کبرى: الأدوار الأمنیة التی یجب أن تُلقی علی عاتق السلطة الفلسطینیة فی حمایة الإسرائیلی الذی یحتلّ الضفة الغربیة والقطاع، والإسرائیلی الذی یحتلّ فلسطین التاریخیة، وربما الإسرائیلی أینما تهدد فی طول العالم وعرضه!

وإندیک، کما هو معروف، لم یکن یرید من عرفات سوی المزید من استخدام العصا، والقلیل من التلویح بالجزرة ، کما فی تصریحه الشهیر البذیء، حیث لا یبدأ محتوی البذاءة من افتراض وجود حمار فلسطینی، ولا ینتهی عند افتراض وجودیّ بأن السلطة الفلسطینیة لا تستطیع مواصلة الحیاة إلا إذا تحایلت على الحمار ـ الشعب، مرّة بالجزرة وأخری بالعصا. البذاءة الکبری کانت تکمن فی القول، ضمناً، إن الجزرة استُخدمت کثیراً من قبل وحان الآن أوان العصا... لمَنْ عصى! بهذا المعنى، ذهبت، سریعاً، إلی الجحیم جمیع التخرّصات الأمریکیة حول مستقبل مدنی دیمقراطی نظیف لهذه السلطة، وحول ضرورة احترامها لحقوق الإنسان التی تقرّ بقدسیة الإنسان فی البدء، قبل أن تسائله علی أفعاله مهما بلغت درجة الفظاعة فیها.

تلک مقاربة استحدثت، موضوعیاً، سلطات ظلّ أمنیة ـ سیاسیة واسعة لأمثال الدحلان (بقی علی رأس قیادة منظمات شباب فتح حتی طردته السلطات العسکریة الاسرائیلیة من غزة فی عام 1988)، وجبریل رجوب (قبع فی سجون الاحتلال 16 عاماً قبل طرده، بدوره، فی العام ذاته) ضمن المعادلة الفاسدة التالیة: لیس أفضل من هذَیْن المناضلَیْن السابقین لقیادة عملیات اقتحام زوّار الفجر بیوت الفلسطینیین ولمساجدهم وجامعاتهم، بل وتکلیفهم فی أطوار لاحقة بالتآمر لإسقاط حکومة شرعیة منبثقة عن انتخابات دیمقراطیة، بقوّة السلاح، أو حتى بقوّة الحرب الأهلیة. الطریف ـ الماساوی أن یقول لک هؤلاء، وسواهم من أهل السلطة الفلسطینیة، إنّ المفاوضات مع إسرائیل معرکة بدورها، بل هی أشدّ شراسة، وکلّ الأثمان من أجل الانتصار فیها مباحة، مبرّرة، وأیضاً: وطنیة!

وهی مقاربة متواصلة، کما تقول الدلائل، أیاً کانت التبدلات التی طرأت أو ستطرأ على الأشخاص، أدوات التنفیذ فی نهایة المطاف!

 

( المقال لکاتب والباحث السوری صبحی حدیدی )

ن/25


| رمز الموضوع: 140925







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. إصابة 9 جنود إسرائيليين بينهم نائب قائد فرقة وقائد كتيبة في الشجاعية بغزة
  2. في إطار جمعات الغضب.. مدن إيرانية تنظم وقفات تضامنية مع غزة
  3. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  4. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  5. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  6. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  7. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  8. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  9. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  10. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  11. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
  12. طهران ترفع الستار عن وثائقي للمقاومة في فلسطين وايرلندا
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)