أبعاد التحرک الأمیرکی فی الملف الفلسطینی
السیاسة الأمیرکیة الخارجیة هی طبعاً سیاسة براغماتیة مبنیة على المصالح، ولیست سیاسة مبادئ قائمة على القِیَم أو الأخلاق فی العلاقات الدولیة. هی سیاسة تُسلِّم بالنتائج لکنّ ذلک لا یعنی أنّها تقبل باستمرار هذه النتائج. حدث ذلک فی فیتنام، انسحبت أمیرکا ولم تعترف بالنظام هناک إلا بعد ربع قرن. وحدث ذلک فی لبنان حیث سلَّمت واشنطن مع إسرائیل بنتیجة أعمال المقاومة التی فرضت الانسحاب الإسرائیلی غیر المشروط من لبنان، لکن لم تعترف واشنطن بالمقاومة اللبنانیة وما تزال تعتبرها "قوة إرهابیة".
ولا شکَّ أنَّ انتصار المقاومة اللبنانیة فی طرد الاحتلال الإسرائیلی من لبنان – وبلا شروط أو مفاوضات أو اتفاقیات- أوجد خیاراً من نوع آخر وحرّک نبض الشارع العربی عموماً، والفلسطینیین فی الأراضی المحتلة خصوصاً.
السلطة الفلسطینیة هی حالة مختلفة عن المقاومة اللبنانیة، ولم تعترف واشنطن وإسرائیل بمنظمة التحریر الفلسطینیة إلا حینما أکّدت المنظمة کتابةً (فی رسالة شخصیة من رئیسها یاسر عرفات ثمّ فی وثائق إتفاقات أوسلو) على رفض أسلوب العنف (وهو هنا المقاومة) وتعهّدت باستبداله بأسلوب وحید فقط هو التفاوض والعلاقات الثنائیة المباشرة دون وسطاء. لذلک نرى الضغط الأمیرکی دائماً على السلطة الفلسطینیة لجعلها تلتزم بالإدانة الصریحة والعلنیة لأی عملیة عسکریة تقوم بها المقاومة الفلسطینیة.
إنّ الموقف الأمیرکی فی طلب "وقف العنف" بین الفلسطینیین والإسرائیلیین یساوی الآن بین الضحیة والمجرم، بین المحتلّ للأرض وبین المقاوم للاحتلال: قذائف محدودة الفعالیة والمدى والتأثیر مقابل صواریخ وقنابل من طائرات ومدفعیة ودبابات جیش الاحتلال، یقع ضحیتها مئات من الفلسطینیین المدنیین، معظهم من الأطفال، مقابل أفراد من الإسرائیلیین معظمهم من المستوطنین. فالعنف لیس بین دولتین لیتمَّ مناشدتهما من قبل واشنطن بوقف "استخدام العنف المتبادَل"!.
إنّ المعیار الأساس فی سیاسة واشنطن هو رفض أیَّ شیء یُبْنى على المقاومة للاحتلال الإسرائیلی والتمسّک بأسس السیاسة الأمیرکیة تجاه الصراع العربی/الإسرائیلی، والتی تقوم على:
· إسقاط أسلوب المقاومة أو التهدید بالحرب ضد إسرائیل فی عموم المنطقة.
· ضرورة المفاوضات المباشرة بین العرب وإسرائیل کأسلوبٍ وحید لحلّ الصراع.
· الاعتراف بإسرائیل والعلاقات الطبیعیة معها، حتى قبل التوصّل لاتفاقیات نهائیة..
· العمل لوضع تسویات بشکل اتفاقیات ثنائیة وشرذمة المواقف والمسارات العربیة.
· بقاء واشنطن المرجعیة الأولى للاتفاقات مع دور "فولکلوری" للأمم المتحدة وأوروبا وروسیا فی إطار اللجنة الرباعیة.
إنّ واشنطن ترید الآن إعادة الاعتبار لهذه الأسس ولما تحقَّق أولاً بین مصر وإسرائیل ثمَّ بین منظمة التحریر وإسرائیل ثمَّ بین الأردن وإسرائیل بعد مؤتمر مدرید، کما ترید واشنطن إنهاء أیَّة حالة مقاومة للاحتلال الإسرائیلی وجعل أسلوب التفاوض مع إسرائیل هو الأسلوب الوحید المتَّبع فی المنطقة رسمیاً وشعبیاً، وطبعاً فی ظلِّ التفوّق العسکری الإسرائیلی. ولعلَّ أفضل وقتٍ تتحرّک فیه واشنطن فی منطقة الشرق الأوسط هو حینما تکون هذه المنطقة مزیجاً من "إفلاس سیاسی" إسرائیلی مع "إفلاسٍ عسکری" عربی. وهاهی المنطقة الآن تشهد تصعیداً عسکریاً إسرائیلیاً ضدّ غزّة مع ترقّب لقمّةٍ عربیةٍ تؤکّد على المبادرات السیاسیة تجاه إسرائیل بینما تتعزز الصراعات العربیة!.
فالتحرّک الأمیرکی یتواصل لتنشیط أسلوب التفاوض بین الفلسطینین والإسرائیلیین دون أی مقاومة، وتحت حجّة السعی الأمیرکی لإعلان دولة فلسطینیة، وهو سعی نحو المجهول إذ لا یوجد موقف أمیرکی واضح من حدود هذه الدولة المنشودة أو عاصمتها أو طبیعة سکانها (مصیر المستوطنات) أو مدى استقلالیتها وسیادتها! فالمبادرة العربیة التی أقرّتها قمَّة بیروت، وکذلک هو الموقف الفلسطینی، یطالبان بدولة فلسطینیة على کامل الاراضی الفلسطینیة المحتلة عام 1967 وبأن تکون القدس عاصمتها، وبحلٍّ عادل لقضیة اللاجئین، فأین هو الموقف الأمیرکی من ذلک؟!
إنَّ التفاعلات الداخلیّة الأمیرکیة بشأن الانتخابات القادمة لن تغیّر الآن فی الأجندة القائمة للإدارة الحاکمة فی واشنطن. أیضاً، إن الترکیز على "الجبهة الأمامیة" – أی العراق- لا یعنی عدم وجود "جبهات" أخرى مفتوحة یتمّ ربطها جمیعاً فی حربٍ واحدة تقودها واشنطن الآن من أجل سلّةٍ من الأهداف المستقبلیّة لمنطقة الشرق الأوسط.
إنَّ الحملة الأمیرکیة الآن على سوریا وإیران و"المنظّمات الإرهابیّة" ( بحسب تعبیر واشنطن ) تحقّق مناخاً سیاسیّاً یفید التحرّک الأمیرکی فی کل المنطقة وحول قضایا مختلفة. وطبعاً استفادت الإدارة الأمیرکیة وستستفید من أخطاء الحسابات أو القرارات أو التصریحات التی حصلت أو تحصل من هذه الأطراف المستهدفة حالیاً فی الحملة الأمیرکیة.
وإذا جاز التقدیر لغایات الحملة الأمیرکیة ذات الرؤوس المتعدّدة الأهداف، فیمکن اختصارها بالآتی:
· محاولة عزل إیران عن حلفاء قدامى لها: سوریا، حزب الله ومنظّمات فلسطینیة، وإضعاف نفوذها مع حلفاء جدد فی العراق، وتقلیص علاقاتها مع دول المنطقة.
· إضعاف سوریا من خلال إسقاط أوراق عدیدة کانت تملکها سابقاً، فالصداقة مع فرنسا أصبحت خصومة، والثِّقل اللبنانی فی الموقف السوری تحول لیکون عبئاً علیه، والحلیف الإیرانی خاضع للحصار، والحلیف "الفلسطینی المقاوم" أصبح متّهماً بالإرهاب بینما الضغط مستمرّ على السّلطة الفلسطینیة لعدم التنسیق مع دمشق أو حتى الحوار مع حرکة "حماس".
· فرط عقد التحالف الثلاثی: المصری/ السعودی/ السوری الّذی کان فاعلاً فی عقد التسعینات کلّها بعد عودة الجامعة العربیة للقاهرة، کما کان الأساس لأی تضامن عربی فعّال.
· استمرار الضغوط من أجل وقف کل الأنشطة العسکریّة لجمیع المنظّمات والجماعات العربیة والإسلامیة بما فیها من خلیط مقاومة ضدّ الاحتلال، وعملیّات إرهاب تحدث هنا أو هناک.
· تمهید الطریق، ولو بعد ردحٍ من الزمن، لتوطین مئات الألوف من الفلسطینیین فی العراق ولبنان وسوریا، خاصّةً فی ظلّ سیادة الغرائز الطائفیّة والمذهبیّة التی قد تعتبر التوطین تصحیحاً لتوازنات دیمغرافیّة!
· جعل الدولة الفلسطینیة مشروعاً قابلاً للتنفیذ فی ظلّ اتحاد کونفدرالی یضمّ الأردن وفلسطین وإسرائیل معاً، خاصّةً فی ظلّ ما تحمله الساحة الفلسطینیة من احتمالات مستقبلیّة یُراد بها استمرار السّلطة والصّراع علیها فی آن واحد، وبما یؤدّی إلى القناعة بالحلّ الکونفدرالی مع الأردن وإسرائیل. فهناک مشاریع أمیرکیة وإسرائیلیة تتحدث عن کونفدرالیة أردنیة/فلسطینیة/إسرائیلیة بشکل متلازم مع إعلان الدولة الفلسطینیة لکی لا تکون الدولة الفلسطینیة القادمة مستقلة فعلاً. وهذا المحور الثلاثی مطلوب مستقبلاً کقاعدة للعلاقات بین إسرائیل والدول العربیة کلّها، ولکی تکون إسرائیل جزءاً من المنطقة تجاریاً واقتصادیاً من خلال شراکتها مع الأردن و"الدولة الفلسطینیة".
لقد کان شعار مؤتمر مدرید عام 1991: "الأرض مقابل السلام"، أی إسرائیل "تمنح" الأرض مقابل السلام العربی معها. لکن ما جرى على أرض الواقع أن إسرائیل لم "تمنح" الأرض للفلسطینیین بینما أخذت منهم الاعتراف بها مقابل الاعتراف بقیادة منظمة التحریر الفلسطینیة. أی اعتراف بدولةٍ مغتصبة للأرض الفلسطینیة مقابل الاعتراف الأمیرکی والإسرائیلی بأشخاص فی قیادة منظمة التحریر الفلسطینیة.
أیضاً، أخذت إسرائیل من عدّة دول عربیة (وبضغوطٍ أمیرکیة واسعة) الاعتراف بإسرائیل والصلح معها دون أن تکون هناک "مشکلة أرض" مع هذه الدول. أی أخذت إسرائیل "السلام" من عدّة دول عربیة دون أی مقابل، فحصل ما یعرف بالتطبیع مع العدوّ وإقامة علاقات سیاسیة واقتصادیة وتبادل لمکاتب التمثیل، وقبل أن یتمَّ تبادل کل الأرض العربیة المحتلّة بالسلام مع إسرائیل!.
وکانت حصیلة السنوات الماضیة، أنّ لبنان البلد العربی الوحید الذی لم یمارس المفاوضات الثنائیة ولم یعطِ الاعتراف أو الصلح لإسرائیل، هو البلد الذی أجبر إسرائیل على الانسحاب من أرضه فانتصرت مقولة (الأرض مقابل المقاومة) بینما انهزمت مقولة مدرید: (الأرض مقابل السلام).
کانت محصلة ذلک، تصاعد المراهنة الشعبیة الفلسطینیة على نهج المقاومة ضدّ الاحتلال والظلم، لا على نهج التفاوض فقط والتنازلات مع العدو.
لقد أصبحت المطالب المعلنة لقیادة السلطة الفلسطینیة: استئناف المفاوضات والالتزام بالاتفاقات المبرمة سابقا… انتصارات لو تحصل!. أی مزید من تصغیر الأهداف الفلسطینیة: من کل فلسطین إلى 20% من فلسطین، ثم التفاوض على ما طلبته إسرائیل (20% من ال20%).. إلى المطالبة الآن بفکّ الحصار عن غزّة ووقف القصف والعودة إلى المفاوضات!
ممنوعٌ على مجلس الأمن حتى حقّ الإدانة اللفظیة لمجازر إسرائیل فی غزّة، فکیف بحقِّ الردّ الفلسطینی على هذه المجازر؟
أیّ منطقٍ هذا الذی یعطی لواشنطن حقّ إرسال مئات الألوف من الجنود الأمریکیین لتغییر نظامٍ فی العراق، ولا یعطی هذا المنطق نفسه الحقَّ للفلسطینیین بالمقاومة من أجل تحریر أرضهم المحتلة؟
أیّ حکومات فی المنطقة أو العالم ترضى لنفسها بأن تکون ظلاً صغیراً للسیاسة الأمریکیة الراهنة فی الشرق الأوسط؟ ولماذا لا تؤکّد الأطراف العربیة على حقّ المقاومة المسلحة ضدّ الاحتلال الإسرائیلی وتقطع کل العلاقات مع إسرائیل؟
یحصل التصعید الإسرائیلی العسکری والتصعید الأمیرکی السیاسی، انطلاقاً من أنَّ هذا التصعید لن یکون مقابله خسارة، أی لن یخسر الإسرائیلیون شیئاً ولا الإدارة الأمیرکیة الحالیة.. ففی أیة لحظة یمکن الدعوة لاستئناف المفاوضات ولقاء أولمرت مع محمود عباس واعتبار ذلک "تقدّماً سیاسیاً"، فهل هذه هی القضیة الفلسطینیة؟
( المقال للدکتور صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS