السبت 12 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

قمة.. والعیاذ بالله!

 ربما لا یعرف أحد ـ بالضبط ـ سر ولع الملوک والرؤساء والأمراء العرب بعقد قمة دوریة، مع أن القمة لم تعد تعنی شیئا عربیا، ولا یهم أحدا إن هی عقدت أو تأجلت أو حتی ألغیت، فقد تحولت إلی حفلة مراسم من طراز ردیء، وتحولت إلی ما یشبه الجنازة بالملابس الرسمیة.

الطریف أن تقریر دوریة القمة جاء فی الوقت نفسه الذی ذهبت فیه قیمتها، فالدوریة ـ من حیث الإجراءات ـ قد تعنی الانتظام، بینما فی المضمون جاءت الدوریة اقرب إلی نعی سنوی للنظام العربی برمته، وربما المفارقة ذاتها فی وضع الأمین العام للجامعة العربیة، فالسید عمرو موسی ـ وزیر الخارجیة المصری الأسبق ـ واحد من أکثر أمناء الجامعة کفاءة واقتدارا، لکنه تولی الجامعة ـ لسوء الحظ ـ فی الوقت ذاته الذی ذهب فیه معناها، وربما تبقی له المبنی بعد انحسار المعنی، وبدا موسی حریصا علی ملء فراغ المعنی بکثرة الإجراءات الإداریة، بإنشاء المفوضیات، وبتوالی المکوکیات ، وبتنشیط العلاقة مع الصحافة، وباستعراضاته اللغویة التی انتهت إلی إشهار یأس فی اجتماع وزراء الخارجیة العرب الممهد لقمة دمشق، وحیث استعار الآیة القرآنیة الکریمة إن الله لا یغیر ما بقوم حتی یغیروا ما بأنفسهم ، ثم ختم بالآیة الأخری ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ریحکم .

والمعنی ـ فی التفسیر السیاسی ـ أن موسی رغب فی تغییر بدا له مستحیلا، وأنه یسلم بمصیر الجامعة وقممها ذاهبة الریح، وأنه یرید أن یحجز لنفسه حق القول ـ بعد التقاعد ـ أنه حذر وأنذر وما من مستجیب، فقد ألقی موسی عصاه فإذا هی حیة ماتت، وتوافر للجامعة واحد من أفضل أمنائها فی نفس اللحظة التی کانت تزهق فیها أنفاسها الأخیرة .

ولیس الخطأ بالطبع فی حرص دوری علی انعقاد القمة، ولا فی محاولة بعث الروح فی الجامعة التی تجاوزت سن الإحالة علی المعاش، بل الخطأ فی غیاب الإرادة السیاسیة التی تحفظ للجامعة والقمة معنی، أو قل انه الخلل الجوهری الذی جعل خیمة العرب مطویة علی الرمل، لا نقول انه الانقسام فی الآراء ولا فی الإرادات، فلا توجد آراء ولا إرادات ذاتیة لأحد من المقعدین العرب فی قصور الحکم، إنما الإرادات مستعارة وتابعة بالجملة، وما یقال له محور اعتدال فی مواجهة محور تشدد یبدو کلاما بلا معنی، فلیس من إرادة فی المنطقة الآن ـ بالمعنی النظامی ـ سوی إرادتین، إرادة أمریکا وإرادة إیران، وإرادة أمریکا هی الساریة فی أغلب عواصم العرب، والبیت الأبیض هو منزل الوحی للنظام العربی بعامة، والعواصم العربیة الرئیسیة ـ بحکامها ووزراء دفاعها وخارجیتها بالذات ـ هی مجرد مکاتب ترجمة للإرادة الأمریکیة.

وقد کان الانهیار الکبیر للنظام العربی مرتبطا أکثر بالمشروع الأمریکی، فقد خرجت مصر من الصراع العربی الإسرائیلی بکامب دیفید الأمریکیة، وکان خروج مصر ـ بثقلها الحاسم ـ من الصراع یعنی خروجها علی النظام، کان خروج مصر یعنی خلعا لوتد الخیمة، ثم انزلقت مصر من الخروج إلی التورط المعاکس بعد غزو العراق للکویت، وذهبت العواصم الرئیسیة (القاهرة ـ الریاض ـ دمشق) بسلاحها تحت القیادة الأمریکیةإلی حرب الکویت، ثم جری الاستطراد فی الخطیئة إلی نهایتها، وبدت خرائط العرب حقلا ممتدا لقواعد سلاح أمریکیة من بورسعید إلی الکویت، کانت تلک هی الصورة اللوجستیة الجدیدة للمنطقة، والتی ورطت العرب بدعم المجهود الحربی الأمریکی لغزو العراق بعد ثلاث عشرة سنة علی حرب الکویت، وکان طبیعیا فی ظل التسابق إلی نجدة السلاح بالزحام أن انتهی النظام، وأن تغیرت هویة النظام الذی ظل یتحدث باللغة العربیة علی سبیل الخداع، بینما المضمون أمریکی خالص، وبینما انعقادات القمة محفوفة دائما بالبرکة الأمریکیة، وبینما جداول الأعمال مرتبطة ـ دائما ـ بأضواء خضر أو حمر تصدر من واشنطن، وبینما نظام الأمن الجماعی العربی ـ باعتباراته الذاتیة ـ یتواری، ویحل محله نظام أمن جماعی أمریکی الأولویات، وإلی حد بدت معه القمم العربیة فی خانة الموارد الإضافیة للقوة الأمریکیة، وتماما کقمم الثمانیة الکبار، وقمم حلف الأطلنطی، وباعتبارات رعایة أکثر لقمم تعقد فی ساحة الصدام المباشر مع قوة إیران التی أخذت أجندة عربیة ترکتها الجامعة من زمان (!).

ولیست مصادفة أن عمر الجامعة وقممها من عمر الصراع العربی الإسرائیلی ذاته، وبقطع النظر عن أدوار لبریطانیا ـ التی کانت عظمی ـ فی سنوات نهایة الحرب الثانیة، فقد بدا التقدم لإنشاء الجامعة العربیة مرتبطا بوصول التجمع الإسرائیلی الییشوف إلی ذروته فی فلسطین أواسط الأربعینیات، ولیست مصادفة ان اتفاقات الدفاع المشترک سبقت اتفاقات السوق المشترکة، اتفاقات الدفاع بدأت أوائل الخمسینیات، واتفاقات الاقتصاد بالقرب من نهایة الخمسینیات، واتفاق السوق المشترکة فی أواسط الستینیات، وکانت الفجوة ظاهرة دائما بین الاتفاقات والوقائع،، ربما کان السبب فی انقسامات تداعت بین طرف ذی إرادة عربیة مرکزه القاهرة، وأطراف أخری ظلت تلتحف بظل الاستعمار فی دراما الخمسینیات والستینیات.

کانت القمم المتفرقة تعکس باطراد واقع انسحاب الاستعمار بقواعده من المنطقة، لکنها لم تکتسب المعنی الجاد الجامع إلا فی الفترة من هزیمة 1967 إلی حرب 1973، وکان الدرس ظاهرا، فقد توافر الهدف الموحد المجمع علیه، وهو إزالة آثار العدوان الإسرائیلی، وکان الاختیار ـ فی قمة الخرطوم ـ لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف، وسمح الاتفاق علی الهدف وفی الاختیار بتوزیع أدوار هو الأکثر کفاءة فی الحیاة العربیة الرسمیة الحدیثة والمعاصرة، دول علی خط النار، ودول علی خطوط الدعم، وکانت تلک هی القوة الدافعة وراء النصر العسکری النظامی فی عبور 1973، والذی عاد علی عرب السلاح برد جزء من الکرامة المستباحة فی عدوان 1967، وعاد علی عرب الدعم بطفرة هائلة فی مداخیل البترول، وبعد تجربة قصیرة لوقف تصدیره علی سبیل الضغط الداعم للسلاح، لکن خروج القاهرة بعدها ـ بخطیئة السادات ـ جعل النظام العربی فارغا من المعنی، وبغیر مرکز تأثیر یوحی وینظم، وحول مبنی الجامعة فی قلب القاهرة إلی متحف أثری قریب بالجغرافیا من المتحف الفرعونی، ثم کانت تداعیات الاستلاب للإرادة الأمریکیة، وإلی حد أن القمة العربیة سنة 1987 لم تذکر القضیة الفلسطینیة بحرف، وهو ما کان سببا ـ بین أسباب ـ فی تفجیر الانتفاضة الفلسطینیة الأولی، وإلی دفعة هائلة فی الأثر الملهم للمقاومة اللبنانیة التی سبقت إلی التکون قبلها بسنین.

کانت فکرة المقاومة تنفصل عن نظام عربی انفصل عن القضیة، راحت المقاومة تصنع إرادتها المستقلة، بینما کان النظام یحجز إرادته للآخرین، ویتحول إلی مقام التسول السیاسی، وبمبادرة فهد فی قمم الثمانینیات، والتی انتهت إلی حمل اسم المبادرة السعودیة فالمبادرة العربیة الآن، کان النظام العربی المتداعی یجهد فی ستر عوراته، بینما نیران المنطقة تحترق بحجب الستر، وبعد عشرین سنة علی الظهور الأول لمبادرة السعودیة، کانت المبادرة تتحول ـ فی قمة بیروت 2002 ـ إلی نوع من طلب الصفح الإسرائیلی، وردت علیها إسرائیل وقتها باقتحام رام الله وحصار عرفات فی بیت المقاطعة.

کان المشهد مخزیا، لکن أوراق التوت کلها سقطت حین أعید تجدید المبادرة فی قمة الریاض 2007، فقد جری التأکید علی نزع مخاوف إسرائیل کلها من نص المبادرة، وجری إسقاط حق عودة اللاجئین بعبارة الحل العادل المتفق علیه .. مع إسرائیل طبعا! وجری التأکید علی اعتراف عربی جماعی بإسرائیل، وعلی التطبیع بالجملة إن هی تجاوبت مع مطالب انسحاب من أرض احتلتها، ثم لم یعد الانسحاب شرطا للتطبیع، وذهب الکل ـ کقطیع الخراف ـ إلی لقاء أنابولیس بنهایة عام القمة، وفی خطوة بدت کاعتراف دون وعد بانسحاب، فلم تعد القضیة الفلسطینیة هی حجر الزاویة، بل صارت القضیة الإیرانیة، وحیث یجری توزیع الأدوار بین إسرائیل والدول العربیة الثمانی (دول الخلیج ( الفارسی ) الست + مصر والأردن) فی حلف رایس، وتحت القیادة الأمریکیة، وجری عزل دمشق بدفعها للخروج من لبنان، ثم بعملیة خض ورج للنظام السوری، وتهدیده بمصیر صدام، ومحاولة دفعه للدخول فی صدام بالسلاح مع حزب الله، وقطع الروابط مع العدو الإیرانی الذی یراد إحلاله محل العدو الإسرائیلی السابق، وبعد ان صار الأخیر صدیقا ظاهرا للنظام العربی وعواصم القرار فیه.

هذه هی بیئة السیاسة التی تعقد قمة دمشق فی سیاقها، ولیست هذه دعوة لعدم الاهتمام بالقمة، ولکن لوضعها فی مکانها بالضبط، فلیس فیها شیء عربی من أصله، وان ازدحم جدول أعمالها بما یبدو عربیا، ولا یصح وصفها بقمة الصامتین والعاجزین کما یقال أحیانا، بل هی قمة للمتواطئین، القضیة الفلسطینیة علی جدول أعمالها، ولکن لیس لنصرتها بل لتصفیتها، والقضیة الإیرانیة هی التی فی البال، ولأن أمریکا ـ راعیة القمة الحقیقیة ـ ترید ذلک، وتوزیع الأدوار علی أطراف العدوان الثلاثی هو جوهر الخطة، فالنظم العربیة ـ بغالبها ـ هی الطرف الثالث فی العدوان مع أمریکا وإسرائیل، والتصور هو أن حصار إیران ـ إلی حد الهجوم العسکری ـ هو الطریق الأسلم لتصفیة جماعات المقاومة علی جبهة الصدام مع إسرائیل، فإسرائیل لم تعد عدوا للنظم العربیة، بل هی فی وضع الحلیف الضمنی، والنظم العربیة لم تعد ترید من إسرائیل أن تنسحب من الأرض، بل ترید لها أن تبقی کما هی، ومقابل أن تبقی النظم العربیة کما هی تحت الرعایة الأمریکیة، فلم یعد مطلوبا مقایضة السلام بأرض، بل السلام مقابل سلامتک.

وربما تحتاج إلی خلع عقلک لتصدق أن خیرا له أن یتأتی من وراء اجتماع حکامنا بسلامتهم، فهم ذاهبون لیس إلی قمة فیها إیحاءات العروبة الدمشقیة، بل إلی قمة یعظ فیها الشیطان الأمریکی.. والعیاذ بالله!

( للکاتب المصری عبد الحلیم قندیل )

ن/25

 


| رمز الموضوع: 140937







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. أسير إسرائيلي: إذا أردتم أن تعرفوا عدد الأسرى إسألوا سارة نتنياهو
  2. إصابة 9 جنود إسرائيليين بينهم نائب قائد فرقة وقائد كتيبة في الشجاعية بغزة
  3. في إطار جمعات الغضب.. مدن إيرانية تنظم وقفات تضامنية مع غزة
  4. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  5. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  6. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  7. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  8. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  9. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  10. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  11. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  12. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)