qodsna.ir qodsna.ir

شروط فشل المشروع الصهیونی من منظور واضعیه

ما ضاع حق وراءه مُطالِب. قد تطول المطالبة وقد یتکبد المُطالِبُ المشاق، وتواجهه الصعوبات، وقد تکون المطالبة باهظة التکالیف، ولکن الحق سیعود إذا واظب المُطالِبُ علی طلبه ولم ییأس ویستسلم لاغتصاب حقه. هذا صحیح بالنسبة للأفراد، وهو صحیح بالنسبة للقضایا العامة، وخاصة قضایا التحرر الوطنی. فهذه القضایا عدوها الأول، عدوها القاتل، هو الیأس من إمکانیة استرداد الحق المغتصب والاستسلام لواقع الاغتصاب.

وقد أدرک منظرو الحرکة الصهیونیة والناشطون فیها هذه الحقیقة، وتحدثوا بمنتهی الصراحة عن طبیعة مشروعهم، والعوامل التی تضمن له النجاح والبقاء، وکذلک العوامل التی تؤدی إلی إفشاله. فهو ینجح إذا استطاع أن یفرض الیأس فی نفوس الفلسطینیین والعرب عامة من إمکانیة مقاومته، ویفشل إذا لم یستطع ذلک. وفی هذا المقال نستعرض موقف واحد من أخطر قادة الحرکة الصهیونیة والذی سارت الحرکة وولیدتها إسرائیل وفق المنهج الذی وضعه.

طبیعة المشروع الصهیونی فی نظرهم

عندما بدأ الغزو الصهیونی لفلسطین کان قادة الحرکة الصهیونیة یدرکون تماما أن مشروعهم مشروعٌ استعماری استیطانی. وقد حلل ذلک فلادمیر جابوتنسکی، الزعیم الصهیونی الذی ورث تفکیرَه حزبُ اللیکود وشارون ونتنیاهو، بل والمؤسسة والأحزاب الصهیونیة بکاملها وعلی اختلاف مشاربها بعد قیام إسرائیل، وجاء هذا التحلیل فی مقال نشره فی برلین فی 4 تشرین الثانی/نوفمبر عام 1923، بعنوان الجدار الحدیدی: نحن والعرب (1)، وجهه بشکل خاص لقادة من الحرکة الصهیونیة فند فیه ادعاءهم بأنهم یستطیعون إغراء الفلسطینیین للموافقة علی المشروع الصهیونی بمنافع مادیة لهم زعموا بأنها ستترتب علی المشروع الصهیونی. والجدار الحدیدی هو ذلک النهج الذی یجب أن تسیر علیه الحرکة الصهیونیة لحمایة مشروعها، وهو نهج طرحه فی مقاله، انطلاقا من اعترافه بأن المشروع الصهیونی مشروع استعماری استیطانی، ومن أنه، نتیجة لطبیعته هذه، سیُواجَهُ بمقاومة من الشعب الفلسطینی والشعوب العربیة، وأن هذه المقاومة ستستمر إلی أن یستولی الیأس علی النفوس. ویؤکد جابوتنسکی أن التاریخ ومسیرة الشعوب کانت دائما فی هذا الاتجاه، فما من شعب احتل غزاةٌ أرضه الا وقاوم الاحتلال واستمر فی هذه المقاومة إلی أن تخلص من الغزاة، وأفشل المشروع الاستعماری الاستیطانی، ما لم یبلغ هذا الشعب حد الیأس المطلق، کما حصل مع السکان الأصلیین فی القارة الأمریکیة. لقد کتب جابوتنسکی هذا والاستعمار الغربی کان ما زال فی أوجه. ومما یسجل له أنه کانت له نظرته الثاقبة وصدقه فی المصارحة بطبیعة المشروع الصهیونی، وأن الشعب الفلسطینی لن یغریه أی تحسن فی أوضاعه المعیشیة للموافقة علی هذا المشروع.

حمایة المشروع من الفشل

وکما أصاب جابوتنسکی فی تشخیص طبیعة المشروع الصهیونی، فإنه أصاب أیضا فی تشخیص ما یؤدی إلی حمایته أو إفشاله. أما الحمایة، وهی الجدار الحدیدی ، فتأتی من ضمان التفوق الدائم فی القوة التی لا یستطیع العرب قهرها، ویکون ذلک (أولا) بالتحالف باستمرار مع دولة عظمی قادرة علی فرض إرادتها وحمایة المشروع الصهیونی، و(ثانیا) ببناء القوة الذاتیة التی یکون فی مقدورها مواجهة المقاومة المنتظرة. وسارت الحرکة الصهیونیة فی هذا النهج، فتحالفت مع بریطانیا أولاً، وفی أثناء الحرب العالمیة الثانیة حرصت علی إبقاء علاقاتها وتعاونها قائمین مع ألمانیا النازیة (2)، بالرغم من اضطهادها للیهود، ثم نقلت تحالفها الأساسی إلی أمریکا، وها هی الآن تسعی لإقامة تحالف مع القوتین العالمیتین القادمتین، الهند والصین.

هذا من ناحیة توفیر الحمایة الخارجیة. ومن الجهة الأخری فقد استغلت نفوذها داخل أمریکا وفی الغرب بصفة عامة لبناء قوتها الذاتیة فی مجالات متعددة، بحیث أنها ضمنت تفوقاً ذاتیًا علی الدول العربیة مجتمعة، وأقامت مشروعها النووی لیوفر لها قوة الردع الذاتیة حتی لو وقفت وحدها.

تیئیس الأنظمة العربیة

کان من نتائج توفیر هذین العاملین (التحالف مع الدولة العظمی وتطویر القوة الذاتیة واستغلالهما من جهة، وتعامی الأنظمة العربیة عن طبیعة المشروع الصهیونی وما کان یتوجب علیها اتخاذه من خطوات مشترکة لإفشاله من جهة أخری) أن استطاعت إسرائیل تیئیس معظم الأنظمة العربیة من جدوی المقاومة أو إمکانیتها، وجعلتها تخطو خطوات تعبر فی دلالاتها علی حالة الیأس هذه. فکان الاعتراف الرسمی وغیر الرسمی، والتطبیع الرسمی، وإغلاق ملف المقاطعة العربیة وملف معاهدة الدفاع العربی المشترک، ومحاولة قمع التحرکات الشعبیة الرافضة للتطبیع، والتضییق علی المقاومة الفلسطینیة، بل والتحالف غیر المعلن عربیا فی مقاومة ما یسمی بالإرهاب، وهو تعبیر شمل حزب الله وحماس، والاستعداد لقبول مظلة نوویة إسرائیلیة لتوفیر الحمایة لبعض الأنظمة العربیة، ووصل الحال إلی تخلی بعض الأنظمة حتی عن واجبها الأول وهو حمایة أرضها وشعبها من الاعتداءات الإسرائیلیة، والقائمة تطول. وانتهی الأمر بالأنظمة العربیة مجتمعة إلی تبنی مبادرة تعطی الشرعیة للمشروع الاستعماری الاستیطانی الصهیونی. والتزمت الأنظمة العربیة التزاما لا نظیر له لیس فقط بما تعهدت به، وإنما أیضاً بالمواقف الإسرائیلیة، ولیس أدل علی ذلک من تعامل هذه الأنظمة مع حزب الله وحماس، ومن تخلفها حتی فی الدفاع عن القدس التی یجری تهویدها وفق خطط متسارعة، ناهیک عن رفع الحصار الجائر عن الشعب الفلسطینی فی غزة والتحرک الفاعل لوقف المحرقة التی ترتکب هناک.

وتتذرع بعض هذه الأنظمة لتبریر مواقفها بما تسمیه بالتزاماتها التعاقدیة مع إسرائیل. وهذه حجة یأس أصیبت به هذه الأنظمة شل إرادتها وقدراتها، حیث إنه، من الناحیة القانونیة، توجد إلی جانب هذه الالتزامات التعاقدیة التزامات تعلو علیها، وهی ضمان احترام القانون الدولی، وفی مقدمة ذلک المبادئ التی نص علیها میثاق الامم المتحدة، واحترام القانون الدولی الإنسانی والالتزامات التی نصت علیها اتفاقیة جنیف الرابعة والتی تلزم جمیع الدول، لیس فقط باحترامها، وانما تلزمها ایضا بضمان احترام الدول الأخری الأطراف فیها لتلک الالتزامات. وجمیع الدول العربیة والإسلامیة أطراف فی هذه الاتفاقیة کما أن إسرائیل طرفٌ فیها، کما أن هناک فتوی محکمة العدل الدولیة حول شرعیة الجدار الذی تقیمه إسرائیل فی الأراضی الفلسطینیة المحتلة، وهی فتوی تحدد التزامات علی جمیع الدول لإنهاء جمیع الممارسات الإسرائیلیة فی الأراضی الفلسطینیة المحتلة. وواضح من هذا أن الأنظمة العربیة تعتبر نفسها ما زالت قاصرة لم تبلغ الرشد کدول ذات سیادة، ولهذا نراها دائما تهیب بالمجتمع الدولی لمواجهة التصرفات الإسرائیلیة، وکأنها لیست جزءاً من هذا المجتمع.

محاولة تیئیس الشعب الفلسطینی والشعوب العربیة

بقی علی إسرائیل أن تُئیِّسَ الشعب الفلسطینی وبقیة الشعوب العربیة، فتوجهت حتی قبل قیامها للعنف والإرهاب لـ تطهیر فلسطین من سکانها العرب لضمان أغلبیة سکانیة فی فلسطین من جهة، وإبعاد الفلسطینیین عن جبهة المواجهة المباشرة من جهة أخری. وسارت علی نفس النهج بعد قیامها وبعد احتلال الضقة والقطاع، وبلغ الأمر حد تنفیذ المحرقة التی هدد بها نائب وزیر الدفاع الإسرائیلی ابتداء من 28 شباط/فبرایر 2008، فانضم الطفل محمد البرعی والرضیعة ملک ذات الیومین وغیرهما من الأطفال إلی القائمة التی یرأسها محمد الدرة. کل هذا یجری علی أمل تیئیس الفلسطینیین من إمکانیة المقاومة والوصول بهم إلی أوضاع تماثل أوضاع الهنود الحمر فی الولایات المتحدة الأمریکیة، أو إلی مرحلة من الیأس تضطرهم إلی هجرة شبه جماعیة أو تهجیر یخلی الأرض والوطن للمشروع الصهیونی.

وسارت إسرائیل مسیرة مشابهة ضد من صمد من الفلسطینیین فی الداخل. فمصادرة أراضیهم لم تتوقف، کما لم تتوقف الممارسات العنصریة، بل والقتل العشوائی. وها هی أحزاب فی داخل الحکومة تتبنی سیاسة طرد هؤلاء الفلسطینیین أو التخلص منهم بأیة وسیلة خوفا من أن یختل التوازن السکانی وتفقد إسرائیل أغلبیتها الیهودیة، وتحسبا لهذا بدأت بالمطالبة بالاعتراف بها فلسطینیا وعربیا بأنها دولة الشعب الیهودی .

أما الشعوب العربیة فقد کانت فاعلة فی النضال الفلسطینی إلی أن أخرجتها الأنظمة من ساحة النضال المباشر. وقد فشلت جمیع هذه المحاولات فی تیئیس الشعب الفلسطینی والشعوب العربیة الأخری حتی الآن، وجاء الرد بتیئیس مضاد.

التیئیس المضاد

أفراد الشعب الفلسطینی وباقی الشعوب العربیة لم ییأسوا، وردوا بحملة تیئیس مضادة، تیئیسٍٍ للمشروع الصهیونی من أساسه. فهناک علی الصعید الفلسطینی أولا صمود الأهل فی الأرض، فی الضفة والقطاع وفی الداخل، بالرغم من کل المعاناة. وهناک ثانیا تواصل الصمود والمقاومة جیلا بعد جیل، مما أسقط التوقعات الإسرائیلیة بأن المقاومة ستموت بعد موت الجیل الذی عاصر النکبة وبعد تشتت نسبة کبیرة من أبناء الشعب الفلسطینی فی بقاع الأرض، وهناک ثالثا استعداد الأجیال المتعاقبة من أبناء هذا الشعب لتقدیم التضحیات ومواجهة الاحتلال مهما غلی الثمن وطالت المواجهة. إنهم باقون فی الأرض وفی المواجهة فی مسیرة دفاع عن الأرض والوطن استمرت قرنا من الزمان دون أن تتوقف، مسجلین بذلک أطول مواجهة مع الاستعمار فی تاریخ البشریة.

هذا من الجانب الفلسطینی. وعلی جانب الشعوب العربیة فقد رفضت هذا الشعوب التطبیع وقامت بالمقاطعة الشعبیة، ونزل الجیل الجدید من الشباب یخوض معارک الانترنت ومعرکة المقاطعة. وأتت مظاهرات الملایین، وذلک التحرک الرائع من الشعب المصری الأصیل، علی الرغم من الأقلام والتعلیقات النشاز والتمسح بالاتفاقیات والسیادة، عندما فک التحرک الشعبی الفلسطینی فی قطاع غزة الحصار بفتح الحدود مع مصر رغما عن إسرائیل. وکان هناک البطل لاعب الکرة محمد بوتریکة. وها هی الآلاف من أقصی المغرب إلی أقصی المشرق تنطلق منددة ومُطالِبة. الشعب العربی لم یهزم ولم ییأس.

ثم کان هناک الحدثان اللذان هزا الجدار الحدیدی من أساسه: أولهما حرب تشرین الأول/أکتوبر المجیدة عام 1973 التی أثبتت أن الجیش العربی النظامی، وهو المصری فی هذه الحالة، قادر لیس فقط علی الردع وإنما علی تحقیق الانتصار الکاسح أیضا، مؤکدا بذلک بأنه لا مبرر للیأس الرسمی بشرط أن یتوفر الإعداد السلیم. ولا ینتقص من هذا الإنجاز العظیم أن السیاسة لم تستثمره استثمارا سلیما. أما الحدث الثانی فکان شعبیا هذه المرة تمثل فی إرغام إسرائیل علی الانسحاب من لبنان دون اتفاقیات أو اعتراف، ثم ذلک النصر الحاسم الذی حققه أبطال حزب الله فی حرب تموز/یولیو 2006، وفی إیصال المعرکة إلی عمق إسرائیل.

وقد بدأت حملة التیئیس المضاد هذه فی إعطاء ثمارها. فالأمن الذی کان یحس به الإسرائیلی قد تزعزع، وتزعزعت معه الثقة فی قدرة الجیش الإسرائیلی علی توفیر الأمن والاطمئنان، فاهتزت بذلک قدرة المشروع الصهیونی علی اجتذاب المهاجرین وضمان بقائهم. لقد ثبت أنه لم یعد أی مکان آمنا. وقد حملت الأنباء أخبار الإسرائیلیین الذین بدأوا یشترون البیوت فی جزیرة قبرص لیفروا إلیها عند حدوث أیة مواجهة قادمة، کما أن الهجرة إلی إسرائیل قد أصبحت فی أزمة حقیقیة، ناهیک عن الهجرة المضادة. وللمرة الأولی منذ قیام إسرائیل یتکاثر عدد العازفین عن الخدمة العسکریة أو الفارین منها، ویلجأ القادة العسکریون لأول مرة إلی القیام بحملات لمواجهة هذا التطور الخطیر.

ومع أن صواریخ المقاومة الفلسطینیة بدائیة ومن صنع محلی ولم تحدث من الأضرار والاصابات شیئا ذا خطورة، إلا أنه من الواضح أنها تقلق المسؤولین والمواطنین الإسرائیلیین علی حد سواء. وهذه الحملة المسعورة التی تقوم بها إسرائیل علی قطاع غزة أکبر دلیل علی ذلک. ولا تخفی الصحافة الإسرائیلیة الحدیث عن الرعب والقلق داخل المجتمع الإسرائیلی، وهو قلق ورعب عبر عنه استطلاع للرأی العام الإسرائیلی فی الأسبوع الماضی کانت نتیجته مؤرقة لحکام إسرائیل حیث ان 64% من الإسرائیلیین أیدوا التفاوض مع حماس لوقف هذه الصواریخ التی وصفها البعض بأنها عبثیة و کاریکاتوریة . وها هو رئیس بلدیة سدیروت، المدینة التی سقطت فیها صواریخ فلسطینیة عدیدة (دون أن توقع اصابات)، قد أعلن صراحة أنه یرید عقد هدنة مع حماس، وکذلک فإن الإسرائیلیین قد بدأوا یرحلون عن المدن والمواقع التی هی فی مرمی هذه الصواریخ. وبدأت الصحافة الإسرائیلیة بالحث علی إبرام اتفاق سلام مع حماس یقضی بالعودة إلی حدود عام 1967، کما أنها تتحدث عن العبء الثقیل الذی خلفته سیاسة إقامة المستوطنات. فماذا سیحدث إذا تحرک الآلاف فی اتجاه هذه المستوطنات؟

هذا ما تخشاه الصحافة الإسرائیلیة، فی ضوء ما حدث من اقتحام الحدود عند معبر رفح. فقد بدأت هذه الصحافة تکشف عن القلق العمیق والارتباک لدی الجیش الإسرائیلی وصناع القرار حول احتمال قیام الفلسطینیین بتحرکات شعبیة کثیفة سلمیة غیر عنفیة فی اتجاه الحدود مع إسرائیل والحواجز التی قالت عنها الصحافة الإسرائیلیة بأنها ستتحول إلی متاریس للزاحفین فی مواجهة جنود یسیطر علیهم الخوف. وماذا لو جاءت انتفاضة العائدین، سلمیاً ودون عنف، صوب حدود الوطن؟ هذه انتفاضات ما زالت فی الانتظار، ولکن إسرائیل تتوقعها وتخشاها، خاصة إذا کانت سلمیة، وهذا ما نصر علیه ونؤکده. إنه الطوفان الذی تتحسب له إسرائیل. وهذا النوع من المقاومة السلمیة هو ما یجب أن یقوده رجال السلطة بدلا من أن یقبعوا فی مکاتبهم عاجزین یتفرجون علی ضیاع الحقوق وإسرائیل تخلق وقائع جدیدة علی الأرض. لقد حاول ذلک الدکتور مصطفی البرغوثی عندما کان وزیرا للإعلام فی وزارة الوحدة الوطنیة، وجاء من خلفه لیبرر لإسرائیل محرقتها فی قطاع غزة. یا للعار!

إن الأثر الذی تحدثه المقاومة لا یقیسه الإسرائیلیون فقط بمقیاس الدمار المادی أو البشری، وانما یقیسونه بما هو أهم، وهو مقیاس عنصر الأمان الذی وعد به المشروع الصهیونی، والذی لولاه لما کانت هناک هجرة، ولما قامت إسرائیل أصلا. إنه الجدار الحدیدی الذی بدأت أساساته فی التآکل، نتیجة للتیئیس المضاد الذی بدأ یشق طریقه.

العنصران الشعبیان اللذان ما زالا فی حاجة إلی تفعیل أکبر کعنصرین من عناصر التیئیس المضاد هما (أولا) التحرک الشعبی علی مستوی العالمین العربی والإسلامی بشکل یحل عقدة الیأس التی استولت علی معظم الأنظمة العربیة، و(ثانیا) المزید من التحرک الشعبی العربی والإسلامی داخل منظمات المجتمع المدنی الأجنبی وإیصال الرسالة الصحیحة لها.

علی منظمات حقوق الإنسان العربیة والإسلامیة أن تضاعف من نشاطها مع منظمات حقوق الإنسان الدولیة، وداخل المجتمع الدولی. فالأبواب لیست موصدة وإنما تحتاج إلی من یدق علیها وفقا لأسالیبها. وها هی أمثلة قلیلة مما حققه هذا النوع من التحرک. لقد استطاعت حرکة رفع الحصار عن غزة أن تجند مظاهرات فی أکثر من خمسین عاصمة قی یوم واحد ضد هذا الحصار، واستطاعت منظمات حقوق الإنسان الفلسطینیة فرض حصار فعال علی تحرکات القادة العسکریین والسیاسیین الإسرائیلیین خوفا من القبض علیهم ومحاکمتهم أمام المحاکم الأجنبیة بتهم ارتکاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانیة، کما أن حرکة المقاطعة التی تقوم بها هذه المنظمات الفلسطینیة علی نطاق دولی، قد بدأت هی الاخری تؤتی ثمارها. فهذه الجامعات البریطانیة تفرض مقاطعة علی الجامعات الإسرائیلیة، وهذه اتحادات عمال أجنبیة قد بدأت فی فرض مقاطعة للبضائع الإسرائیلیة، سابقة بذلک اتحادات العمال العربیة والإسلامیة، وها هی إسرائیل قلقة الآن بالنسبة لما کانت تمارسه من شبه احتکار فی الجامعات الأمریکیة. وبقدر ما یبذل من جهد واع تأتی النتائج. لقد بدأت الهیمنة الإسرائیلیة فی التراجع، بدلیل العدد الکبیر من الکتب والدراسات التی ظهرت فی الآونة الأخیرة سواء فی أوروبا أو أمریکا، وکلها تکشف حقیقة المشروع الصهیونی وحقیقة إسرائیل. لقد تحرر الکثیر من الخوف من الاتهام بمعاداة السامیة إذا هم انتقدوا إسرائیل أو الحرکة الصهیونیة، فصاروا یکتبون الحقیقة.

من المهم فی حملة التیئیس المضاد هذه أن تکون واعیة لهدفها ومنسجمة مع تراثنا وقیمنا ودیننا. فعلیها مثلا أن تؤکد بشکل دائم وقاطع بأنها لیست حملة ضد الیهود بصفتهم هذه، وإنما هی حملة ضد المشروع الصهیونی الاستیطانی. أما الیهود أنفسهم فقد کانوا مواطنین فی الأقطار العربیة والإسلامیة قرونا عدیدة، وما زال کثیر منهم کذلک حتی الیوم، وکان الوطن العربی ملجأهم من الاضطهاد أینما حل بهم، وباستطاعتهم أن یعیشوا مواطنین فی أی قطر عربی وفی فلسطین ذاتها بعد تفکیک المشروع الاستعماری الاستیطانی الذی نفذته الحرکة الصهیونیة التی شَخَّصها الکاتب البریطانی (ألان هارت) فی مجلدیه الضخمین اللذین یحملان عنوانا له دلالته العمیقة الصهیونیة: العدو الحقیقی للیهود .

مؤدی هذا أن المقاومة العربیة والفلسطینیة والإسلامیة، بمختلف أشکالها، وحتی مع وجود حالة الیأس الرسمی، قادرة علی احداث شروخ حقیقیة فی الجدار الحدیدی ، وبدلا من أن یدب الیأس فی نفوس الشعب الفلسطینی والشعوب العربیة الأخری، فإن حملة التیئیس المضاد قد بدأت تفعل فعلها، ویجب مواصلتها وتعمیقها. لیس معنی هذا أن المشروع الصهیونی قد شارف علی الانهیار، أو أن القائمین علیه سیقصرون فی الدفاع عنه، ولکن معناه علی الأقل أن مقاومته ممکنة وأن أعراض فشله قد بدأت فی الظهور. وطبیعة الأشیاء تفرض علیه الفشل، بشرط أن یتحصن الشعب الفلسطینی وباقی الشعوب العربیة والإسلامیة بالأفعال الواعیة الهادفة ضد الیأس ویواصلوا حملة التیئیس المضاد بمختلف أشکالها.

( المقال للدکتورأنیس مصطفی القاسم  رئیس اللجنة القانونیة سابقا فی المجلس الوطنی الفلسطینی )

ن/25

 

 


| رمز الموضوع: 140939