قمة الضغط على سوریة... ماذا بعدها؟
لو أراد الکتّاب والمعلّقون أن یطلقوا على القمة العربیة فی دمشق لقباً او کنیة لوصفوها بأنها قمة الضغط على سوریة. بإستثناء إیران، فإن کبار اللاعبین الدولیین والإقلیمیین، أو معظمهم، یمارسون حالیا الضغط علی دمشق. حتى الأمین العام للأمم المتحدة وکبار مستشاریه ومساعدیه دخلوا بازار الضغط.
عنوان الضغط واحد : تدخّل سوریة مع حلفائها فی لبنان لتسهیل إنتخاب رئیس جدید للجمهوریة قبل إنعقاد القمة. بصرف النظر عن مدی نفوذ دمشق لدى قوی المعارضة اللبنانیة، فإن مطالبتها بالضغط علی حلفائها ینطوی على مفارقات لافتة. فالتیار الوطنی الحر، مثلا، لا یتأثر بسیاسة دمشق ولا ینسّق معها فی الشأن الداخلی بل یحرص دائماً علی إبراز إستقلالیته عنها وإن کان یلتقی معها فی الشأن القومی ضد إسرائیل. من المشکوک فیه ایضا أن یتقبّل حزب الله تدخلها إذا کان موضوعها مرفوضاً من حلیفه المسیحی الرئیسی العماد میشال عون. الأمر نفسه ینطبق على بعض القوى الوطنیة والدیمقراطیة والإسلامیة التی لها مواقف سیاسیة سلبیة من حکومة فؤاد السنیورة وقوى آذار الموالیة.
حتی بعض قوی 14 آذار لا یتصرف على نحوٍ یمکّن اللاعبین الإقلیمیین من إقناع سوریة بتسهیل إنتخاب رئیس جدید. ذلک ان ثلاثة من أقطاب الموالاة على الأقل - ولید جنبلاط وسعد الحریری وسمیر جعجع ـ یدعون إلى أن یقاطع لبنان القمة العربیة، فکیف یمکن إقناع سوریة بالضغط علی الحلفاء لمصالحة هؤلاء إذا کانوا مصرّین على أن یبقوا أعداء؟
فوق ذلک، یبدو ان إدارة بوش غیر راغبة فی إنتخاب رئیس جدید للبنان قبل إنعقـاد القمة. ذلک انها تدعو الدول العربیة کلها او جلها، ولیس فقط حلفاءها اللبنانیین، الى مقاطعة القمة الأمر الذی ینسف مساعی الزعماء الإقلیمیین الداعین لإنتخاب الرئیس اللبنانی قبل انعقادها.
غیر ان الضغط على سوریة لا یقتصر علی مسألة إنتخاب الرئیس اللبنانی. فالقائمون به یتذرعون بهذه المسألة لتبریر الضغط لیس إلاّ. ذلک ان غرضهم الأساس هو فک تحالف دمشق مع طهران. بذلک یأملون بإضعاف حزب الله و حماس ، بل إضعاف إیران نفسها بطریق تجریدها من حلفاء فاعلین.
سوریة تبدو صامدة فی وجه کل الضغوط التی تمارس علیها. صمودها مرده الى سببین: الأول هزال المکافأة الموعودة بها من إدارة بوش، والثانی رضاها عن الدعم الذی تحصل علیه من إیران. فالرئیس الأمریکی وإدارته یعدونها بفک العزلة عنها مقابل تطلیق إیران، فی حین لا تشکو هی من مفاعیل العزلة بل تشعر، على العکس، بأن خصومها الدولیین والإقلیمیین هم المعزولون عن شعوب الأمة ویعانون من وطأة ذلک ٍسیاسیاً وأمنیاً.
هذا الوضع البائس ینعکس بالتأکید على قمة دمشق، فلا یمکّن المشارکون فیها من الإرتقاء بالعمل العربی المشترک والخروج بقرارات نوعیة فی مواجهة الأزمات والتحدیات الراهنة. ولعل هذا بالضبط ما تبتغیه إدارة بوش فی هذه الآونة: تکریس عجز حکومـات النظام الرسمی العربی ما یدفع الأوضاع العربیة إلى الانهیار والفوضی. أولیست الفوضی الخلاقة ما تسعی إلیه إدارة بوش فی مخططها الداعی إلى إعادة تشکیل المنطقة سیاسیاً وثقافیا؟
حتى قبل الوصول الى هذه الغایة التی تتوخاها إدارة بوش، فإن حال الأمة یدعو الی الرثاء والقلق. ففی فلسطین المحتلة، لاسیما فی قطاع غزة، ترتکب إسرائیل من المجازر الیومیة ما یهدد الشعب بنزف دموی هادر بلا نهایة منظورة. وفی لبنان، تتکرس قطیعة متعاظمة بین الموالاة والمعارضة، تنعکس بدورها على الوضعین الأمنی والاقتصادی وتنذر بعواقب وخیمة. وفی العراق، یواصل الوضع الأمنی إنهیاره المطرد، قبل زیارة نائب الرئیس الأمریکی دیک تشینی وأثناءها وبعدها، وسط إدعاءات مضحکة مبکیة حول إستتباب الأمن والإستقرار. وفی مصر، بوادر مجاعة مقلقة تُفصح عنها طوابیر الخبز المفقود وعجز السلطة عن مواجهة الکارثة الزاحفة. وفی الکویت، نُذُر أزمة سیاسیة ذات أبعاد مذهبیة لا یمکن فصلها عن موجة عصبیات مماثلة فی الجوار. وفی السودان، تتعقد أزمة دارفور وتفیض تداعیاتها عن شمال البلاد الغربی لتنکأ جرحاً فی الجنوب ما زال، على ما یبدو، مفتوحاً وآخر فی الوسط النفطی یراد له ان ینفتح. وفی الیمن، یتجدد الصراع بین الحکومة والحوثیین فیما تتزاید تعبیرات السخط فی محافظات الجنوب التی یشکو أهلها من إهمال السلطة. وفی الجزائر، تتواصل صدامات الحکومة والإسلامیین المتطرفین ولیس فی الأفق بارقة تهدئة.
عندما تکون حال الأمة على هذا القدر من الإضطراب المشحون بالأخطار، هل ترانا ننتظر بعدُ، مسؤولین ومواطنین، خیراً من قمة دمشق؟ هل نجمد یائسین أمامها أم نتجاوزها بالتحلیل والرؤیة الثاقبة إلى مرحلة ما بعدها، ونشخّص بالتفکیر السدید التداعیات والتحدیات، ونجترح بالعقل المستنیر سیناریوهات المواجهة وتصامیم البناء والإنماء؟ بل ألا یقتضی ان نبدأ، عشیة القمة المحاصرة بالنیات السیئة والمخططات المشبوهة، بطرح الأسئلة المفضیة إلی نبش الحقائق المخفیة والمخیفة؟
ماذا یُراد لفلسطین والفلسطینیین من وراء خریطة الطریق المزعومة وتعلاّتها ومفاوضاتها الماراثونیة وسط مشاریع الإستیطان والتهوید المفتوحة؟ ماذا یراد لقطاع غزة وسط المجازر الیومیة والحصار الوحشی وإحتمالات تشرید السکان ودفعهم إلی صحراء التیه فی سیناء؟
ماذا یراد للبنان الجریح وسط المناحرات المذهبیة وکمائن الفتنة الطائفیة وتردی الأحوال المعیشیة؟ هل یراد للمقاومة ان تنجذب الى اضطرابات الداخل حتى إذا انغمست فیها إنقضَّ علیها العدو الصهیونی من مکامن الخارج؟ هل المطلوب، فی نهایة المطاف، تعریق لبنان، على غرار ما جرى فی العراق، فیتحول کانتونات مذهبیة قمیئة ترتجی السلامة من إسرائیل القویة؟
ماذا یراد للعراق وسط هذه الحرب التی طالب وجارت، فأضحت بلاد الرافدین عملیاً ثلاث دویلات، وتشرد شعبها الخمسة ملایینَ فی مختلف محافظاتها وعلى نواصی الأقطار المجاورة؟
ماذا یراد لسوریة وسط هذا الحصار السیاسی والعقوبات المتدحرجة؟ هل یراد لها مصیراً مشابهاً للعراق ولبنان فتتکامل حدود إسرائیل الآمنة؟
ماذا یراد لبلدان الخلیج ( الفارسی ) وسط تأزم الصراع بین الولایات المتحدة وإیران؟ هل ترید إدارة بوش، فی سیاق محاولة تدمیر إیران وإعادتها عشر سنین الى الوراء، تعریض بلدان الخلیج ( الفارسی ) لمضاعفات الحرب وشرورها لتقوم الشرکات الأمریکیة، بعد أن یحطّ الغبار، لإعادة بناء ما تهدم بعقود وعطاءات خیالیة؟
ماذا یراد للیمن؟ ماذا یراد للسودان؟ ماذا یراد للجزائر؟ بل ماذا یراد لدنیا العرب؟ هل یراد لها فی الحاضر وفی قابل الأیام ان تتحول لوحةً فسیفسائیة من أدیان ومذاهب وأعراق وأجناس وقبائل وعشائر وأثنیات وثقافات متنافرة متناحرة لا حول لها ولا قوة؟
مثل هذه الأسئلة المصیریة یجب ان تبدأ القوى الحیة بطرحها على نفسها الیوم لتجیب عنها غداً، فتأخذ قضایاها بأیدیها وتنتدب نفسها لمواجهتها وإیجاد حلول لها دونما إنتظار عقیم لعون هزیل من شبکات حاکمة مرتهنة، هانت وشاخت وماتت او کادت.
( المقال للکاتب والسیاسی اللبنانی الدکتور عصام نعمان )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS