قراءة فی الإنتخابات الایرانیة
وتعد هذه الانتخابات الاقتراع الشعبی العام الرقم 28 منذ قیام الثورة الإیرانیة، ما بین استفتاء على الدستور أو رئاسة جمهوریة أو انتخابات برلمان أو مجلس خبراء. وتعنی هذه الأرقام أن إیران تشهد اقتراعاً عاماً کل سنة تقریباً، أی أن النَفَس الشعبی الذی یعکسه الاقتراع العام، هو أحد أرکان المشروعیة لنظام "جمهوریة إیران الإسلامیة"، مهما اتفقنا أو اختلفنا حول حجمه ومداه.
وقبل الخوض فی تحلیل النتائج ینبغی التحفظ بدایة عن مصطلحی "المحافظین" و"الإصلاحیین" الرائجین لوصف الحراک السیاسی فی إیران وذلک کان صائباً ربما قبل عشر سنوات ولکنه یجب ألا یکون کذلک الآن، ومرد ذلک أن تحلیل المشهد الإیرانی الأقرب إلى الدقة ینبغی أن یکون وقتیاً ولحظیاً بسبب السیولة السیاسیة التی تعرفها الأحزاب الإیرانیة. ربما یکون الأدق وصف المشهد السیاسی الإیرانی بالتنافس بین اصطفافین ولیس معسکرین: الأول یضم "یاران خاتمی" أو تحالف خاتمی تحت قیادة حزب جبهة المشارکة أکبر الأحزاب الإصلاحیة فی إیران وزعیمه محمد رضا خاتمی شقیق الرئیس السابق خاتمی، ومعه "حزب الاعتماد الوطنی" القریب من رئیس البرلمان السابق مهدی کروبی، و"منظمة مجاهدی الثورة الإسلامیة" و"کوادر البناء" القریبة من الشیخ هاشمی رفسنجانی أحد مفاتیح صنع القرار فی إیران.
یضم الاصطفاف الثانی التیار الأصولی المتشدد ممثلاً بـ"جبهة الأصولیین المتحدة" الداعمة للرئیس الحالی محمود أحمدی نجاد، و"جبهة الأصولیین الموسعة" المتمثلین فی السیاسة الإیرانیة برموز معروفة مثل علی لاریجانی السکرتیر السابق لمجلس الأمن القومی الإیرانی، ومحمد باقر قالیباف المرشح السابق لرئاسة الجمهوریة ومحافظ طهران ومحسن رضائی القائد السابق للحرس الثوری.
ویلاحظ أن الحملة الانتخابیة للفریق الأخیر رکزت على الإخفاقات الاقتصادیة للرئیس نجاد مثل ارتفاع نسبة التضخم والبطالة، وبشکل سحب أصوات مهمة ومؤثرة من فریق نجاد.
ومن هنا فالسهولة غیر الدقیقة فی وصف نتائج الانتخابات بأنها فوز للمحافظین لا تقرر أمراً جدیداً بقدر ما تعتم على النتیجة. فالنتیجة الواقعیة هی أن التیار "الأصولی المتشدد" بقیادة الرئیس نجاد فاز بغالبیة المقاعد، تلاه تیار "المحافظین البراغماتیین" بقیادة لاریجانی وقالیباف، ثم کتلة "الإصلاحیین" والمستقلین. ویمکن قراءة هذه النتیجة على أنها تحد لسیطرة التیار الذی یمثله نجاد على البرلمان ومفاصل صنع القرار فی إیران، عبر فریق محافظ براغماتی یتحالف داخلیاً مع مرشد الجمهوریة –أعلى سلطة تشریعیة فی إیران- مثله مثل نجاد، ولکنه یلوذ بالمؤسسة الدینیة فی مقابل احتماء فریق نجاد بالحرس الثوری الإیرانی.
وتأسیساً على ذلک تترجم النتیجة الحالیة للانتخابات موازین القوى داخل إیران: التیار الإصلاحی الذی مثله الرئیس خاتمی استطاع الفوز بنصیب مماثل لرصیده فی البرلمان السابق أی حوالى 50 مقعداً من أصل 250، أی الابتعاد عن المنافسة الجدیة على البرلمان بسبب مجموعة من العوامل الذاتیة والموضوعیة. وکان مجلس صیانة الدستور الذی یفرز المرشحین طبقاً لانتماءاتهم الفکریة والعقائدیة قد استبعد المئات من رموز التیار الإصلاحی من الترشح للانتخابات ورد صلاحیتهم، وهو ما اعتبره الاصطفاف الإصلاحی محاولة إداریة مدفوعة بأهداف سیاسیة لاستباق نتیجة الانتخابات وقص جناح التیار الإصلاحی بالقوة التنفیذیة.
تشیر نتائج الانتخابات الإیرانیة البرلمانیة إلى أن التحدی الحقیقی لسلطة الرئیس نجاد وتیاره یأتی من علی لاریجانی-الذی لا یمکن اعتباره إصلاحیاً بحال من الأحوال- ومعه رموز المحافظین البراغماتیین، ولیس من الإصلاحیین. کما یعنی ذلک فی العمق أن تقاسم السلطة الإیرانیة بین مؤسسة رجال الدین والمؤسسة العسکریة ممثلة بالحرس الثوری یشهد الآن تنافساً واضحاً بینهما، لیس لإنهاء هذا التحالف الذی یشکل الأرضیة الاقتصادیة-الاجتماعیة للنظام الإیرانی، بل بهدف تعدیل حصص کل طرف فی هذا التحالف.
ومن شأن هذه الجدلیة: الوحدة على أرضیة الانتماء للمحافظین والولاء للدولة والمرشد، بالترافق مع الصراع على حصص کل طرف فی کعکة السلطة، أن تطبع الحراک السیاسی فی البرلمان المقبل بطابعها. فقط بعد إعلان نتائج الدور الثانی للدوائر التی ستجرى فیها الإعادة، یمکن تقدیر حصص کل فریق فی البرلمان المقبل، خصوصاً إذا علمنا أن "کتلة الحرس" قدرت بحوالى 80 مقعداً فی البرلمان السابق. ولذلک یتوقع بالرغم مما یبدو فی ظاهر النتیجة من فوز للمحافظین ونجاد، أن تتم إعادة توجیه الاستقطاب السیاسی الجاری فی إیران من أقصى الیمین کما هی الحال فی البرلمان السابق إلى الوسط ویمین الوسط.
سیرتسم المؤشر الأول على توازنات القوى الجدیدة داخل إیران عند حسم التنافس على منصب رئیس البرلمان الجدید، فبقاء حداد عادل المتحالف مع نجاد فی منصبه کرئیس للبرلمان یعنی أرجحیة لتیار نجاد بعد الانتخابات، أما إذا فاز علی لاریجانی برئاسة البرلمان بدعم من باقی الکتل البرلمانیة فلا یمکن قراءة ذلک سوى أنها خطوة تعزز فرصه بالترشح لرئاسة الجمهوریة العام المقبل وفی مواجهة نجاد. ترتب نتیجة انتخابات البرلمان الإیرانی الثامن نتائج داخلیة أبرزها أن "المحافظین البراغماتیین" ربما یتقدمون لشغل موقع "الإصلاحیین" کالجناح الثانی للنظام لاحقاً، فی حین یتوارى رموز التیار الإصلاحی من بؤرة المشهد السیاسی الإیرانی. وبالرغم من الأهمیة المتزایدة لنتیجة الانتخابات على المستوى الداخلی الإیرانی من حیث توزیع القوى أفقیاً داخل الاصطفاف المحافظ وارتباطات هذه القوى عمودیاً بأرکان النظام، إلا أنه لا یجب استنطاق تغیرات مشابهة فی أداء إیران الإقلیمی أو حیال ملفها النووی، إذ أن مصیر هذه الملفات لا یتقرر فی البرلمان.
( المقال یعبر لا یعبر بالضرورة عن رأی الموقع )
( مصطفى اللباد – طهران باحث مصری - رئیس تحریر مجلة "شرق نامة" المتخصصة بالشؤون الترکیة والایرانیة والتی تصدر فی القاهرة )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS