بین الغزوین

على الرغم من الأعلام التی زینت خلفیة الصورة والمیکروفونات التی حملت إلى کل أرجاء المعمورة هذیانه فی ذکرى غزو العراق، والجدیة التی نقلت بها محطات التلیفزیون هذا الهذیان، یمکن بسهولة اکتشاف الکاریکاتور الثاوی داخل جورج بوش.
وعلى العکس منه لم یکن من السهل اکتشاف الوجه الهزلی لشمعون بیریس الذی تحدث فی معرض باریس فی ذکرى ستین عاماً علی الغزو الصهیونی المستمر لفلسطین، على الرغم من تشابه وجهی أمریکا وإسرائیل، إلى حد تعذر التمییز بین الأصل والصورة فی لعبة المرایا المتعاکسة.
المخیف فی البهلوان بوش أنه یحمل الکرة الأرضیة فوق قرنه، وبوسعه، أکثر من بیریس، أن یحرن ویلقی بها إلی الجحیم، وهذا ما یجعلنا نخشى بهلوانیاته ولا نستمتع بها، مثلما نستمتع بمغامرات دون کیشوت، منذ خطتها ید سرفانتیس إلى الیوم.
لم یؤذ دون کیشوت إلا نفسه، لکن بوش وجه أبلغ الإیذاء إلى الإنسانیة، ولم یزل مصمماً على استکمال مسیرة الغزو!
لیس فی جورج بوش شیء من ظرف الشریف العبقری دون کیشوت دی لامانشا، وإن حارب ـ مثله ـ أشباحاً. وهو مصر على النصر على الإرهابیین من تورا بورا إلی الأنبار، حتى لو تخلى عنه کل الحلفاء أو استقال قواده واحداً وراء الآخر، بینما کان دون کیشوت حریصاً على استرضاء تابعه سانشو، وتقدیم وعود الرفاه والسلطة له.
والحقیقة أن بوش لا یفتقر إلى ظرف دون کیشوت ودبلوماسیته مع تابعه فقط؛ بل لا یشبهه فی شیء؛ فلم یخرج إلى الحرب مغامراً بحیاته محاکاة لفرسان قرأ عنهم، أو رفعاً لشأن ذاته بین أبناء قریته؛ بل خرج محارباً بدماء غیره رفعاً لرصید آل بوش ورعایة لمصالح شرکاتهم، مؤکداً على التقلید الاستعماری العریق فی التلازم بین التاجر والمحارب، أو بین الشرکة والدولة؛ هذا التماهی الذی تهون فی سبیله أرواح المدنیین وأرواح الجنود.
لا یشبه بوش الابن إلا الأب، وهما یشبهان بیریس، وثلاثتهم یشبهون الأب المؤسس کریستوفر کولومبس، الذی وضع بذور البربریة الغربیة ومبدأ التلازم بین الشراهة والورع منذ غزوه لأمریکا عام 1492حتى الیوم.
الذهب والرب لایفترقان داخل المحارب التاجر، مع مرونة فی الترتیب (الرب أو الذهب أولاً) وهذا على أی حال هو المبدأ الأول الذی أرساه کولومبوس، فالغازی یجب أن یبحث عن الذهب، وینشر قیمه السامیة بین أبناء الشعوب الهمجیة حتى لو أدی الأمر إلى إبادتها، وفی ظل هذا الإصرار لا یمکن للندم أن یتسلل إلی روحه، ولا یمکن لأرواح الضحایا أن تؤرق نومه أو صحوه.
ملیون نفس عراقیة ومئات الآلاف من الجنود الأمریکیین فی خمس سنوات، وبوش مصرّ على أنه کان على صواب عندما اتخذ قرار الغزو، لأنه مرسل من السماء برسالة الحریة للعراقیین، مثلما کان کولومبس مرسلاً لتحقیق المثل الأعلى المسیحی!
هل یمکننا إحصاء ضحایا الصهاینة من الفلسطینیین والعرب على کل الجبهات؟!
بیریس هو الآخر یبنی مع صهاینة هذا الزمن على جهود الصهاینة المؤسسین دولة ستجعل حدودها عند آخر نقطة یصلها مستوطن یهودی. وقد اختار مثله مثل بوش قناع الحریة لیمیزه عن فکر کولومبس القروسطی، لکن کلیهما لا یتورع عن نزع القناع فی لحظات الغضب ویسفر عن کولومبوسیته البدائیة، رافعاً شعار الحرب المقدسة، مصلیاً للرب الذی جعله أهلاً لاکتشاف کل هذه الثروة، فی الأرض التی تثمر عسلاً ونفطاً.
بربریة کولومبس لم تتوقف عن تکرار نفسها بکآبة خمسة قرون، ولدت فیها أفکار الحریة والمساواة والدیمقراطیة بین البیض فقط؛ فلم تساهم مبادئ الثورة الفرنسیة وفلاسفتها فی إنهاء الاستعمار الذی تواصل حتى ستینیات القرن الماضی، ولم تمنع الساسة الغربیین من بذل الوعود للصهاینة بأرض لیست لهم.
من الواضح بعد کل هذا التاریخ الدموی للرجال البیض، أن وحشیتهم لم تستقر وتترسخ بفضل احتلال الأرض فقط، بل بفضل احتلال اللغة، الذی یسبق ویصاحب احتلال الأرض، ویجعل ادعاءات التحدیث أقوى من دعوة الأنسنة التی حملها أصحاب الفکر المناهض.
بدأ الاستعمار القدیم فی سحب جنوده من المستعمرات، لکنه لم یجل عن اللغة أو یترک المصطلح بعیداً عن نفوذه، فشرع فی التبشیر بعالم جدید ینشأ على أنقاض العالم القدیم، وراح المغرر بهم یحلمون بعولمة تزیل الحدود وتطلق المنافسة الحرة، من دون أن یعلموا أن المصطلحات والشعارات الجدیدة لم تکن إلا توطئة لعودة الاستعمار القدیم بأقبح وجوهه بدائیة وسفوراً على أیدی آل بوش.
أعاد آل بوش تقالید القرن السابع عشر الاستعماریة، حیث الشرکة فوق الدولة، کما أعادوا تقالید الأب المؤسس کولومبس، فی الجمع بین الرغبة فی المال وفرض الرب الحقیقی من وجهة نظرهم، ونظر حلفهم من المحافظین الجدد، مهما کان الثمن، ومهما کان حجم العنف الذی أطلقوه من عقاله، لیثبتوا دونیة وتوحش العرب المسلمین الذین یذبحون الغزاة!
کرة النار الوحشیة، التی بدأها کولومبوس، واستلهمها الغزاة الیهود لأرض فلسطین، فالیمین الأمریکی، فی تواصل للعبة التبادل بین الأصل والظل، حتى لم نعد نفرق بین الصوتین: صوت بوش فی ذکرى غزو العراق، وصوت بیریس فی فی ذکرى غزو الیهود لفلسطین.
( نقل بتصرف عن مقال للکاتب عزت القمحاوی )
ن/25