qodsna.ir qodsna.ir

«مینی تهدئة»... ماذا بعد

رغم النفی والإنکار، تسود تهدئة مصغَّرة أو «مینی تهدئة» حالیاً فی قطاع غزّة. تهدئة تمّ التوصّل إلیها أثناء مباحثات العریش الأسبوع الماضی حیث طرحت السلطات المصریة على حرکتی «حماس» و«الجهاد» فکرة التهدئة المؤقّتة لمدّة أسبوع والمقتصرة على البعد العسکری والأمنی بینما یتمّ استغلال هذا المدى الزمنی لمناقشة الأبعاد والجوانب والتفاصیل الأخرى المتعلّقة بالتهدئة الموسَّعة والمفتوحة زمنیّاً.

التهدئة کمبدأ سواء أکانت لمدة أسبوع أو لمدة زمنیة غیر محدَّدة، جاءت کنتاج لتغییر وتحوّل جذری فی مواقف ثلاث قوى أساسیة وإن اختلفت فی درجة تأثیرها بالطبع، وهی الولایات المتحدة ومصر رئاسة السلطة الفلسطینیة وتحوّل نسبی ولکن مهم فی مواقف قوتین أساسیین ومؤثرتین وهما إسرائیل والمقاومة الفلسطینیة وتحدیداً حرکة «حماس».

قبل محرقة غزة الأخیرة کانت الإدارة الأمیرکیة ترفض رفضاً باتّاً أی نقاش أو حدیث مع «حماس» حول التهدئة أو أی من الملفّات الأخرى وهی تبنّت ودعمت وحتى غطّت السیاسات الإسرائیلیة المستندة إلى الضغط المستمر على «حماس» حتى إذعانها أو إزاحتها عن السلطة. غیر أن ثمة متغیرین مهمین أدیا إلى تحول الموقف الأمیرکی: ـــ وصول الأوضاع فی قطاع غزة إلى حافة الکارثة وتوالی التقاریر الدولیة والمصداقیة التی تتحدث عن انهیار شبه تام للخدمات والبنى التحتیة فی أبعادها المختلفة (ماء وکهرباء وصرف صحی وتعلیم)، وتداعیات ذلک على الاستقرار الإقلیمی. فهمت الولایات المتحدة، کما قوى أخرى، أن اجتیاح الحدود سیتکرّر وقد یکون فی اتجاهات مختلفة، وسیؤثّر على مفاوضات التسویة النهائیة بین إسرائیل والسلطة الفلسطینیة ومسیرة أنابولیس التی تعتبر درة التاج للدیبلوماسیة الأمیرکیة خلال الفترة الماضیة. ـــ أمّا المتغیّر الآخر فهو محرقة غزّة التی عجزت الولایات المتحدة عن تغطیتها رغم أنها أعطت إسرائیل الوقت اللازم (کما حصل فی حرب لبنان). ولما استنتجت بأن لا شیء یمنع أن تأتی النتائج متشابهة بحیث تبدأ العملیة بالآمال الواعدة وتنتهی بلجنة أو لجان تحقیق. المعطیات السابقة دعت الإدارة الأمیرکیّة للتفکیر جدیاً فی التهدئة حتى لا تتأثر دبلوماسیتها سلباً تجاه ملفات أخرى مثل الملف اللبنانی والملف النووی الإیرانی. فهی اقتنتعت أن لا فرصة ولا إمکانیة لاى تهدئة بعیداً عن «حماس»، فأعطت الضوء الأخضر لمصر للتسریع فی مفاوضات مع الحرکة حول التهدئة وشروطها وتفاصیلها.

الطرف الثانی الذی بات مصرّاً أو باحثاً عن التهدئة بأی ثمن یتمثّل بمصر التی فهمت أیضاً أن من الصعوبة بمکان بل ومن الاستحالة إزاحة حرکة «حماس» من السلطة أو المضی قدماً فی أی سیاسة تتعلق بالقضیة الفلسطینیة سلماً أو حرباً بعیداً عن أخذ الحرکة ومواقفها ورؤاها وزادها بعین الاعتبارِ. مصر استوعبت کذلک أن اجتیاح أو کسر الحدود سیتکرر حتماً إذا ما استمر الحصار الخانق مفروضاً ضدّ قطاع غزة، وهی فهمت أن لا فرصة لرفع الحصار إلا فی اطار تهدئة أو هدنة بین المقاومة وإسرائیل وأن لا إمکانیة لإخضاع غزّة بالحلّ العسکری ما سیزید من إحراج مصر و إظهارها کعاجزة عن دعم الفلسطینیین ومساندتهم وکذلک عن الدفاع عن حدودها وسیادتها.

إضافة إلى مصر وأمیرکا، حدث تحوّل مهم أیضاً فی موقف الرئیس محمود عباس والذی رغم کل تصریحاته العلنیة لم یرفض بشکل جدی سیاسة الضغط على «حماس» وحکومتها وبشتى الوسائل والأسالیب.

غیر أن اجتیاح الحدود ومن ثم محرقة غزة أظهرا الرئیس کضعیف وعاجز عن التأثیر على الأحداث والأهم من ذلک خلقا أجواء بات من المستحیل استئناف مفاوضات التسویة من خلالها. وهذا الامر أی المفاوضات، یمثل درّة التاج فی سیاسات وخیارات الرئیس محمود عباس منذ وصوله إلى السلطة.

ولیس ذلک فحسب، بل إنّ محرقة غزة أدّت إلى تزاید شعبیة «حماس» وفی الضفة الغربیة ووضعت هذه الأخیرة على أعتاب انتفاضة ثالثة بما لذلک من تداعیات لیس فقط على وجود ومصیر السلطة بل على الصراع فی فلسطین والمنطقة بشکل عام.

إذن نتیجة للمعطیات السابقة، وافق الرئیس محمود عباس على المساعی المصریة للتهدئة لا بل أعلن شخصیاً عن استعداده للوساطة مع إسرائیل من أجل الوصول إلى هذا الهدف. أمیرکا مصر ورئاسة السلطة تغیّرت مواقفها بشکل جذری ما أدّى إلى توافر أجواء مؤاتیة للتهدئة تساوقت مع تغیر نسبی ولکن مهم فی مواقف إسرائیل و«حماس». فالأولى کانت ترفض التهدئة أو الهدنة المتبادلة وأصرّت دائماً على وقف إطلاق الصواریخ من قبل الفلسطینیین أولاً لوقف عملیاتها العسکریة المختلفة مثل الاغتیالات والتوغلات والاجتیاحات مع الاحتفاظ بحق العمل حینما ترى ذلک مناسباً، خاصة فیما یتعلق بالبنى التحتیة للمقاومة والتزوید بالسلاح والتجهیزات القتالیة الأخرى.

إلى ذلک، بقیت إسرائیل مصرّة على المضی قدماً فی حصار وتجویع وحتى إذلال قطاع غزة وإبقائه على قید الحیاة دون أن یموت ودون أن یتعافى إلى أن تذعن «حماس» للشروط الإسرائیلیة التى تسمى زوراً شروطاً دولیة للاعتراف بها وبالاتفاقیات التى وُقِّعَت معها وکذلک بوقف المقاومة مع الانتباه إلى أنّ إسرائیل مستفیدة من الانقسام السیاسی والجغرافی الحاصل الآن فلسطینیاً، فهى لا تبحث عن إسقاط «حماس» نهائیاً وإنما عن إضعافها وإبقاء القطاع عاجزاً عن المقاومة وعاجز أیضاً عن التعافی والعیش بصورة طبیعیة وعادیة.

أما «حماس»، فلم تنفِ أو تخفِ یوماً رغبتها بالتهدئة ولکن بالتزامن بین الضفة الغربیة وقطاع غزة. تهدئة تشمل وقف إطلاق الصواریخ مقابل وقف کافة العملیات العسکریة الإسرائیلیة. ولیس ذلک فحسب، فـ «حماس» حسّاسة جداً تجاه ملف الحصار والمعابر، وهی ترفض أی تهدئة بل تعتبرها غیر جدیة ولا معنى لها إذا لم تتضمّن رفع الحصار وفتح المعابر وتحدیداً معبر رفح وتسهیل حریة الحرکة للمواطنین والبضائع خاصة فی الضفة الغربیة.

«حماس» تعتقد أنها لا تخسر استراتیجیاً من التهدئة حتى لو طالت، فهی مقتنعة أن مفاوضات التسویة ستفشل حتماً بعد انتهاء الفترة الدستوریة والقانونیة للرئیس أبو مازن بنهایة العام 2008 وهی تحاول أن تصل إلى هذه المرحلة معافاة قویة قادرة ومهیّأة للمعرکة بکل أبعادها وتجلیاتها.

کمحصّلة للتغیرات والتحوّلات والتبدّلات فی مواقف الأطراف المختلفة، بدأ الاشتباک التفاوضی غیر المباشر بین الفلسطینیین و«حماس» تحدیداً، وإسرائیل، أثمر عن تهدئة لمدة أسبوع وهذا المدى الزمنی قابل للتمدید إلى أن یتم حسم القضایا الأخرى. هذا الحسم یعتمد بالطبع على إرادة المتفاوضین أو المشتبکین حیث سیحاول کل طرف فرض إرادته.

إسرائیل تحاول فرض تصوّرها للهدنة وفق قاعدة: لا یهاجموا لن نهاجم. أی طالما لم یتمّ إطلاق الصواریخ فلن تقوم إسرائیل بعملیات عسکریة مع احتفاظها بحقّ القیام بذلک کلّما رأته مناسباً من وجهة نظرها. وحتى لو تم إطلاق الصواریخ، ترید إسرائیل أیضاً فرض قواعدها الخاصة: غارات، ومحارق جویة مقابل الصواریخ على سیدروت، توغلات واجتیاحات ومحارق بریة مقابل الصواریخ ضد عسقلان. الطائرات مقابل القسام. والدبابات مقابل الغراد.

هذا دون أیّ حدیث مع «حماس» ولو غیر مباشر عن الحصار والمعابر وهی مستعدّة لبعض التسهیلات لکن وفق المعاییر السابقة: تقفل المعابر وتفرض الحصار وقتما شاءت. «حماس» فی المقابل مصرّة جدّاً على حسم ملف الحصار والمعابر وهی لن توافق على تهدئة ذات بعد عسکری أو أمنی بدون رفع الحصار وفتح المعابر. «حماس» مستعدّة أیضاً لهدنة مع مدى زمنی مفتوح حتى نهایة العام 2008، وعندها لکل حادث حدیث. وحسب قیادی رفیع فی الحرکة الإسلامیة، فإن هذا التوقیت سیطرح أسئلة صعبة: سؤال المقاومة وسؤال السلطة، سؤال المفاوضات وسؤال «فتح»، سؤال منظمة التحریر... «حماس» ستحاول تحضیر واجباتها وتجیب بشکل جید لتراکم علامات ودرجات أفضل من الآخرین.

أبو مازن یرید تهدئة لانقاذ خیاره: التفاوض ولکن لیس بأی ثمن. فهو یصرّ على السیطرة على المعابر وفق اتفاقیة 2005 مع دور ما لـ«حماس» تتولّى مصر ترتیبه. وأبو مازن یرید أیضاً تهدئة مفتوحة إلى أن تتّضح نتیجة المفاوضات النهائیة الجاریة الان مع إسرائیل.

الأیام القلیلة القادمة ستکشف لنا طبیعة التهدئة وکذلک الطرف الذى فرض إرادته. والأهم ستکشف لنا عن مجریات الامور فی فلسطین الى نهایة العام الحالی، وعندها سیضطرّ الجمیع ولیس «حماس» فقط للاجابة عن الاسئلة الصعبة والمصیریة سالفة الذکر .

( المقال لمدیر مرکز شرق المتوسّط للدراسات والإعلام ماجد عزام  )

ن/25


| رمز الموضوع: 140947