السبت 12 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

قمّة دمشق: حضور عاطل یکمل الغیاب الفاعل

إذا کان العاهل السعودی الملک عبد الله والرئیس المصری حسنی مبارک امتنعا عن حضور قمة دمشق، التی تنعقد یوم غد فی العاصمة السوریة، استجابة للإملاءات الأمریکیة (حیث أنّ واشنطن معادیة للقمّة، أو أنّ القمّة معادیة لواشنطن، سلفاً، کما یساجل البعض)؛ فهل الملوک والأمراء والرؤساء الذین سیحضرون هم، استطراداً، فی عداد العصاة المنشقّین عن واشنطن، الرافضین لإملاءاتها؟ وفی متابعة هذا التمرین فی المنطق الصوری المحض، هل یصحّ القول إنّ الحکومة اللبنانیة هی وحدها العمیلة لواشنطن بنسبة 100%، مادامت قد قاطعت القمة قطعیاً، فلم ترسل مندوبها الدائم لدىالجامعة العربیة (کما فعلت السعودیة) أو وزیر الشؤون البرلمانیة (کما فعلت مصر)، لتمثیل رئیس لبنان العتید الغائب؟

وفی الإستطراد ذاته، کیف یتمکن حاکم عربی من قول هذه الـ لا فی وجه أمریکا، والإصرار علىحضور قمّة دمشق رغم أنف البیت الأبیض، وهو ذاته الحاکم العربی الذی لیس فی وسعه نطق الـ لا إیاها فی ما یتّصل بوجود قواعد عسکریة أمریکیة علىأراضیه، ثمّ استخدام هذه القواعد لقصف وحتلال بلد عربی شقیق، وربما ـ فی غد، قریب أو بعید ـ لشنّ حرب على بلد جارٍ صدیق؟ وإذا صحّ أنّ لکلّ مقام لا خاصة به، مختلفة مرنة مطواعة متقلبة، فما الذی یتبقىمن معنی فی القول إنّ الـ لا الخاصة بقمّة دمشق لیست أکثر من تنویع لفظی صرف على الـ نعم للقواعد العسکریة الأمریکیة ولکلّ ما یمکن أن تشنّه من عملیات؟

الأبسط من تمارین المنطق الصوری هذه هو الذهاب إلی خلاصات المنطق البسیط، أیّ الإستناد إلى تراث الخطاب الرسمی العربی فی البیانات الختامیة لتسعة أعشار القمم السابقة، من حیث الإطناب فی توصیف ما بذله حکّام العرب من جهد خلاق فی سبیل حلّ المشکلات المستعصیة (التی، بالطبع تظلّ مستعصیة أو تزداد استعصاء فی واقع الأمر)، أو من حیث التفخیم البلاغی للعلاقات الأخویة العمیقة بین أنظمة شقیقة (نعرف، دون کبیر عناء، أنّ العداء المضمر هو القاسم المشترک الأعظم بین معظمها، ضدّ معظمها). وهکذا لم یعد مدهشاً، جرّاء الإجترار والإعادة والإستعادة، أن یُصاب المواطن العربی بما یشبه التبلّد الذهنی واللغوی، والسمعی ـ البصری أیضاً، إزاء ما یقرأ أو یسمع أو یبصر من خطابات الزعماء أثناء الجلسات أو فی البیانات الختامیة. وبات من تحصیل الحاصل أن یراهم المواطن العربی یتبادلون الإبتسامات على شاشة التلفزة، فیستبصر الخناجر تُنتضى خلف الظهور، لطعن الشقیق أو للتلویح له بأنّ تحویل الإبتسامة إلی طعنة أیسر من طرفة عین!

ولعلّ الأیام القلیلة القادمة سوف تحمل الکثیر من تجلیات هذا المشهد، وذاک الخطاب المکرور المجترّ المعاد المستعاد، خصوصاً وأنّ مؤسسة القمّة العربیة لم تعوّد ناظریها على أیّ سبق أو مفاجأة أو نقلة نوعیة. وفی الإنتظار، من العدل استذکار قمّة بعینها، لیست عربیة ـ عربیة بل خلیجیة ـ أمریکیة، عُقدت فی ربیع العام 1996 فی البحرین، وبحثت جملة من المسائل الحیویة ، الحیویة فعلاً هذه المرة، ولیس قولاً وبلاغة فقط، لأنها کانت تخصّ الحیاة التی لا تختلف کثیراً عن الموت البطیء، أو الموت حین یکون الوصف الأکثر واقعیة لحالة العطالة العضویة، قبیل العدّ التنازلی باتجاه التدهور الشامل.

الحکمة العامة السائدة، أو تلک التقلیدیة التی ترسخت بعد حرب الخلیج ( الفارسی ) الثانیة 1991 بصفة خاصة، کانت تقول التالی بصدد تراث العلاقة بین الولایات المتحدة ودول الخلیج ( الفارسی ):

1 ـ خلال عقود الحرب الباردة کانت ستراتیجیة الأمن القومی الأمریکی تعتمد کثیراً على مبدأ احتواء الخطر السوفییتی بمصطلح کونی تحظى فیه الدول الصدیقة برعایة دفاعیة وأمنیة خاصة، وتتحمّل الاخیرة فی المقابل سلسلة مسؤولیات تبدأ من أبسط أشکال المساندة الدعاویة ضد الخطر الشیوعی، ولا تنتهی عند القواعد العسکریة وما إلیها من خدمات لوجستیة قاعدیة. وکانت أسباب عمیقة موروثة (النفط، أمن إسرائیل، تعطیل أیّ مشروع نهضوی عربی...) تضفی أهمیة کبرى على طبیعة هذه الدول الصدیقة، وتستدعی نوعیة خاصة من الفعل الإجرائی التکتیکی والستراتیجی.

2 ـ انتهاء الحرب الباردة أدخل تعدیلاً جذریاً على المصطلح الکونی لمبدأ الإحتواء، بحیث باتت البؤرة الإقلیمیة هی التصغیر (المحسوب بدقة میدانیة عالیة) للعالم القدیم المنشطر إلى معسکرین وقطبین. ولم تجد دوائر البنتاغون ومجلس الأمن القومی الأمریکی عناء کبیراً فی تشخیص بؤرتین کافیتین لاختصار المهمات الأکثر حیویة: الخلیج العربی ( الفارسی ) مضافاً إلیه إیران والقرن الأفریقی، وشبه الجزیرة الکوریة. وتلک النقلة فی الستراتیجیة دشنها جورج بوش الأب، ثمّ تابعها بیل کلینتون، قبل أن یُخضعها جورج بوش الابن لبعض التعدیلات الطفیفة التی فرضها انفجار القومیات والإثنیات فی المعسکر الإشتراکی السابق، فضلاً عن بلوغ فلسفة المحافظین الجدد ذروة عظمی فی تأطیر موقع أمریکا الإمبریالی فی نظام العلاقات الدولیة.

3 ـ أهمیة النفط الخلیجی کانت آخذة فی التزاید، وهکذا تظلّ حالها بعد التطورات الدراماتیکیة المتمثلة فی اعتماد معظم الدول الغربیة سیاسة التخزین الستراتیجی للخام، وسحب ملفات حصص الإنتاج والأسعار من ید الدول المنتجة، وتلزیمها للأسواق والبورصات، فضلاً عن وضع منظمة الأوبک أمام أمر واقع لا یفرغها من مضمونها التنظیمی الذی قامت على أساسه فحسب، بل یفقدها العدید من هوامشها التفاوضیة أو أوالیات الضغط التی لجأت إلیها من قبل.

4 ـ القضایا المتصلة بأمن الخلیج ( الفارسی ) واستقراره ظلّت حیویة بذاتها، وبمعنى لا یختلف کثیراً عن حسابات زمن القطبین الجبارین، ولکنها بعد الحرب الباردة باتت أکثر عرضة للتأثّر الحادّ بانشقاق إیران والعراق موضوعیاً عن التوازنات السیاسیة لطور ما بعد عاصفة الصحراء ، والمشکلات الأخرى الناجمة عن صعود التیارات الإسلامیة، أو العجز عن السیر بتسویة الصراع العربی ـ الإسرائیلی حتى أشواط ملموسة متقدّمة. والعلاقة وثیقة بین إیران من جهة، وما یجری فی الجزائر والبحرین والإمارات والیمن وجنوب لبنان من جهة ثانیة.

تلک الحکمة التقلیدیة، التی انطوت على الکثیر من العناصر الأخری الأقلّ شأناً، کانت تعانی من ارتجاج عمیق بفعل التبدّلات التی کانت تتسارع فی المنطقة، ولهذا فقد جثمت مثل حجر ثقیل على جدول أعمال مؤتمر مجلس التعاون الخلیجی ـ الأمریکی ذاک (الذی حضره، إلى جانب الساسة والخبراء الستراتیجیین الأمریکیین، ممثلون عن أکثر من 200 شرکة أمریکیة ذات مصالح استثماریة مباشرة فی الخلیج ( الفارسی ) ). آنذاک کانت الأرقام تشیر إلى أنّ دول مجلس التعاون الخلیجی هی فی طلیعة کبری أسواق البضائع الأمریکیة (21 ملیار دولار سنویاً)، والإستثمارات الأمریکیة فی المنطقة بلغت 3,8 ملیار دولار فی عام 1994، ولائحة الدیون الأمریکیة (وبالتالی معدلات خدمة تلک الدیون) دسمة وحافلة ومفتوحة.

ذلک کلّه أسهم فی صیاغة ما یشبه المسوّدة الخفیة للحکمة الأخری غیر التقلیدیة، تداولها الخبراء الأمریکیون طویلاً، وحدث أنها کانت تطفح بین حین وآخر فی تصریحات عابرة أو غمغمة مبهمة حول هذه أو تلک من الشؤون الحساسة. وکانت أبرز تفاصیلها تقول، مثلاً:

1 ـ الخطر المحدق بأمن دول الخلیج ( الفارسی ) واستقرارها لیس من طراز تسهل إدارته أو ضبطه عن طریق إیفاد حاملات الطائرات وفیالق التدخل السریع، وهو قد لا یأتی من مصادر جلیة معروفة (هاشمی رفسنجانی أو صدام حسین سابقاً، وأحمدی نجاد فی ایامنا هذه). إنه، ببساطة، خطر التآکل التدریجی البطیء، ولکن المحسوس للغایة، التی قد یصیب البنی الإقتصادیة والسیاسیة لهذه الدول الصدیقة الحلیفة. وکان الخبیر النفطی المعروف فاهان زانویان قد حذّر من أنّ هوس الولایات المتحدة بالتهدیدات الخارجیة التی یمکن أن تحدق بالأصدقاء، أو بالتدفق المستمر للنفط، أعمى بصیرتها عن رؤیة 20 سنة من إجازة استجمام أعطتها دول الخلیج ( الفارسی ) لنفسها بعیداً عن السیاسة والاقتصاد .

2 ـ شروط ذلک الإستجمام استولدت شروطاً أخرى من الاستجمام بعیداً عن السیاسة، ولم تشعر النخب الحاکمة (وهی نخب فی نهایة المطاف) بأیة حاجة إلى مشارکة السلطة مع أحد، أو تجدید شرعیتها ومصداقیتها، أو تحمّل أی نقاش علنی عقلانی حول مسائل اقتصادیة أو اجتماعیة أو سیاسیة.

3 ـ وکما أنّ التخفیض العشوائی المتسرّع للنفقات لیس الحلّ الناجع لوقف نزیف المیزانیة وارتفاع العجوزات إلى معدلات قیاسیة، فإن هیئات شکلیة من نوع مجالس الشوری لیست أداة استبدال الحدّ الأدنى من التعاقد بین الدولة والمواطن. ولعلّ التوافق بین انطواء صفحة الحرب الباردة وتنفیذ حرب الخلیج ( الفارسی ) الثانیة، ثمّ تتمتها المنطقیة التی آلت على غزو العراق واحتلاله، کان وراء الانعتاق المفاجیء للقوى السیاسیة والاجتماعیة التی بقیت طویلاً هامدة أو مستکینة. المعضلة أنّ تلک الصیغ لم تعد قابلة للتجمید فی خانة الصراع مع الشیوعیة (عدوّ صدیقنا الصدوق، عدوّ العالم الحر، عدوّ الإسلام...)، أو التصریف فی مسارب الرخاء الإقتصادی والنوم علی حریر المستقبل الآمن.

4 ـ تلک رمال متحرکة تزحف حثیثاً للإلتقاء بسواها، فی منطقة لا یسهل إغماض العین عنها برهة واحدة دون دفع ثمن فادح. وفی غمرة الزحف والالتقاء، کانت سیرورات إقلیمیة کبرى (التیارات الإسلامیة، التبعیة الإقتصادیة الجدیدة، عملیة السلام، الأحلاف التی تقطع أکثر من قوس أزمات واحد...) تحفر أثرها فی الباطن العمیق، وتهدد بنسف الجذور السفلى للنظام القدیم برمته.

ذلک أسبغ على قمة 1996 واجب الإستجابة المطلقة للضرورات الحیویة المتعاظمة، أو المتفاقمة، لأنّ أیّ تلکؤ لن تکون عواقبه أقلّ من محرّکات لتسریع موت بطیء، ولهذا فقد کان النجاح حلیفها کما یلمس المرء فی عشرات الآثار الجیو ـ سیاسیة التی أعقبت الحوار الخلیجی ـ الأمریکی. وأغلب الظنّ أنّ الدول الخلیجیة التی تشارک فی قمة دمشق غداً، لا تأتی بدافع من تلک العوارض الحیویة، لأنّ مشکلات لبنان وفلسطین والعراق لا تُعالج على نحو أنجع إلا فی أروقة أخری تتصدّرها وزیرة الخارجیة الأمریکیة کوندولیزا رایس، ویحضرها رؤساء أجهزة الإستخبارات العربیة قبل الساسة والدبلوماسیین. کذلک لا تشارک هذه الدول لأنها تناهض الرغبة الأمریکیة فی مقاطعة القمة (إذْ، غنیّ عن القول، إنّ هذه الرغبة محض خرافة، وإلا فإنّ عیناً لن تبصر أیاً من زعماء العرب فی جلسات القمّة!)، بل قد یکون العکس هو الصحیح: إنها هنا لأنّ توزیع الأدوار بین حلیفات واشنطن، أی ما یُسمّى دول الاعتدال العربیة، یقتضی غیاب زید وحضور عمرو، حیث لکلّ منهما ما یُناط به من أثر فی الحضور، أو عاقبة فی الغیاب!

وما خلا الحمقی، مَن سیصدّق أنّ حضور أمیر الکویت ورئیس وزراء العراق هو فعل نقیض لغیاب ملک السعودیة والرئیس المصری، وأنّ الفریق الأوّل یشقّ عصا الطاعة على واشنطن، والثانی یحنی الهامة صاغراً، لا لأیّ اعتبار آخر سوى أنّ هذه القمّة هی الأولى التی تشهدها دمشق فی عهد الحرکة التصحیحیة ، نظام الإستبداد والفساد وأقنیة التفاوض السرّیة الذی یغدق على ذاته صفات المقاومة والصمود والممانعة، ولهذا یتوجّب أن تکون، بالضرورة والقطع، أکثر قمم العرب عداءً للولایات المتحدة وللکیان الصهیونی؟

( المقال للکاتب صبحی حدیدی  )

ن/25

 


| رمز الموضوع: 140949







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. أسير إسرائيلي: إذا أردتم أن تعرفوا عدد الأسرى إسألوا سارة نتنياهو
  2. إصابة 9 جنود إسرائيليين بينهم نائب قائد فرقة وقائد كتيبة في الشجاعية بغزة
  3. في إطار جمعات الغضب.. مدن إيرانية تنظم وقفات تضامنية مع غزة
  4. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  5. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  6. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  7. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  8. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  9. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  10. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  11. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  12. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)