أحد عوارض الجنون!!
انه لأحد عوارض الجنون، بحسب ألبرت اینشتاین، أن تعید تجربة شیء ثبت فشله تکراراً، متوقعاً أن یعطی نتیجة مختلفة فی کل مرة. ربما لا یکفی هذا العارض وحده لإصدار حکم بالجنون على من یعود لیقع فی الفخ ذاته مرة تلو الأخرى، لکنه بالتأکید عارض لا ینازع.
من عمل فی مؤسسة ما، سواء کانت کبیرة أم صغیرة، یعلم تماماً أن مدراء هذه المؤسسات قد یلجأون الى بعض الحیل لتمریر سیاساتهم. إحدى الحیل البدائیة التی قد یتعلمها الموظف المستخدم حدیثاً یمکن تصویرها على الشکل التالی: یلجأ المدیر الى أحد الموظفین لنقل رسالة الى شخص ما ویوصیه بأن یقول فی کل مرة أنه یقوم بالمبادرة من تلقاء نفسه ولیس مبعوثاً من المدیر. فحتى لو استنتج المرسل إلیه أن رسالة الرسول أکبر منه حجما، فإن ذلک یمنح المدیر فرصة دائمة لیقول أنه لیس على علم بالرسالة، وأنه لم یرسل أحداً.. والأنکى من ذلک أن بمقدور مثل هذه اللعبة البدائیة أن تجر الخصم – المرسل إلیه الى موقع التنازل من خلال الرسول، ثم یقول المدیر، أنا لم أطلب ذلک، لکن حسناً، ثمة شروط – تنازلات أخرى یجب أن تقوم بها حتى نتحدث فی الأمر. حتى الطلاب فی المدارس الابتدائیة یعلمون هذه الحیلة القدیمة. لکن بعض سیاسیینا العباقرة یظنون أنهم یستطیعون أن یأتوا بنتائج مختلفة عمن سبقهم. وقد یمضی زمن طویل جدا قبل أن یستنتج هؤلاء أن المشکلة لا تکمن فی الأشخاص بقدر ما تکمن فی العقلیة التحلیلیة التی تشکل رؤیتهم حول ذواتهم وحول العالم من حولهم.
هبط الرئیس الأمریکی الأسبق جیمی کارتر على المنطقة فجأة حمامة سلام. حضر لأنه عرف مؤخراً أن أطفال غزة یعانون من نقص الامدادات الغذائیة، قائلاً أن ذلک وضع لا یمکن السکوت عنه. وکأن الوضع فی غزة نتیجة إحدى الکوارث الطبیعیة التی تضرب الناس بلا سابق إنذار. جیمی کارتر رسول سلام فی الشرق الأوسط، أمضى أسبوعاً متجولاً بین عواصمها: من تل أبیب الى رام الله الى الریاض والقاهرة ودمشق.. مکث فی دمشق أکثر من أی مکان آخر. بل أکثر من مجموع الوقت الذی أمضاه فی العواصم الأخرى مجتمعة. فی الإعلام قیل أنه التقى الرئیس السوری بشار الأسد مرة واحدة، بینما اجتمع الى قادة حماس أکثر ثلاث مرات فی دمشق، ومرة فی القاهرة.
لجیمی کارتر سیرة طویلة من مهمات السلام حول العالم: فهو المندوب المکلف حل مشکلة الصحراء الغربیة فی المغرب، من قبل هیئة الأمم المتحدة، وهو الشخص الذی نجح فی النیبال فی تحویل الجماعة الماویة فیها من جماعة من الارهابیین الى معارضة وطنیة تشارک فی الانتخابات المحلیة. أما فی الشرق الأوسط، فلم یرسله أحد. جاء لأنه لا یستطیع النوم لیلا بسبب صراخ أطفال ونساء ویتامى وأرامل غزة. جاء وحیدا یحمل مبادرة ربما أکبر من مجلس الأمن برمته: وقف إطلاق النار فی غزة، التوصل الى تهدئة بین حماس وإسرائیل، إطلاق سراح الجندی الأسیر لدى حماس، فک الحصار عن غزة... أما الأورکسترا الأمریکیة والاسرائیلیة فأحسنت اخراج الفیلم: استقبال غیر لائق فی القدس، صحافة إسرائیلیة تشن هجومها على کارتر بسبب کتابه الأخیر الذی یصف فیه جدار الفصل بالعنصری، وإدارة أمریکیة تقول أنها لا تدعم زیارة کارتر الى المنطقة وتحدیدا لقاء قادة حماس. الخارجیة الأمریکیة أصدرت بیاناً تقول فیه أنها نصحت کارتر بعدم لقاء خالد مشعل فی دمشق.
رسالة أکبر من حاملها، ورسول یحمل بنوداً یقول من یستطیع تنفیذها (بوش وأولمرت) أنهما غیر معنیین بهما. السؤال الآن: إذا کان ما تقدم به کارتر هو أول غیث التنازلات، فما هی الشروط الأخرى المطلوب من حماس تنفیذها بعد أن ابتلعت طعم الاعتراف الدولی (الأمریکی والاسرائیلی بها؟)
عرفات، إذا کان ثمة من لا یزال یذکره، أوصل القضیة الفلسطینیة الى الهاویة بسبب نفس الممارسات. کلما جاءه مبعوث یحمل شبهة أنه رسول لجهة دولیة ما بدأ یرتب سیاساته بناء على الرسالة. فی کل مرة کان یظن أن الاعتراف الدولی به قادم فی الطریق، کان یفاجىء أن من أرسلوا إلیه رسلهم یغسلون أیدیهم، مطالبین بمزید من التنازلات. أمضى عرفات قرابة ثلاثین عاماً لاهثاً وراء الاعتراف به من الإدارة الأمریکیة، وکانت النتیجة تفتیت وتشظی القضیة الفلسطینیة وتقزیمها من قضیة بحجم أمة وشعب الى حجم سجادة حمراء تحمل رمزیة سلطة لا تملک من الواقع سوى اسم مشوه. بل وفی نهایة المطاف دفع حیاته ثمناً لذلک. هل تذکرون کولن باول الذی زار عرفات فی المقاطعة واعداً إیاه بزیارة البیت الأبیض إذا هدأ من مسیرات الغضب فی عواصم العالم العربی والاسلامی؟ للمرة الأخیرة فی حیاته ابتلع عرفات الطعم، وطالب مناصریه وقف الانتفاضة. وعندما عاد المتظاهرون فی العالم العربی الى بیوتهم، اغلقت الإدارة الأمریکیة فی وجهه الباب، ورفضت حتى السماح له بمغادرة المقاطعة، إلا الى مثواه الأخیر. وعندما أراد عرفات استنهاض الشارع العربی مجدداً بعد ذلک، لم یجد حوالیه سوى بضع مئات من أنصاره.
اللعبة القدیمة البدائیة نفسها تلعب الیوم، فما إن أعلنت حماس قبولها التوصل الى "تهدئة" فی غزة لمدة ستة أشهر، حتى جاءها الرد الإسرائیلی بأن ذلک لیس کافیاً على لسان أحد الناطقین الاسرائیلیین. المضحک فی الأمر أن قیادة حماس لم تعتبر أن ذلک تصریحاً رسمیأً وقالت أنها تنتظر ردا إسرائیلیا رسمیاً. الأمر الذی یعنی أن قادة حماس قد ابتلعوا الطعم حتى نهایته. فجاءهم الرد الرسمی على لسان الناطق باسم وزارة الخارجیة: الرد نفسه: لا نعتبر ما تقدمت به حماس جدیا، وهو التصریح الذی یترجم عادة فی السیاسة کما یلی: لا تزال قائمة الشروط طویلة.. ما تقدمتم به لیس شروطنا، بل هی تبرعات قدمتموها الى کارتر، أما شروطنا فعلیکم أن تسألونا نحن عنها!!
ترافق ذلک کله مع حدث بارز فی دمشق: إعلان الرئیس السوری أن ثمة قناة تفاوضیة یحاول بعض الأصدقاء فتحها، لیتبین بعد ذلک أن ثمة وساطة تقوم بها ترکیا مبنیة على إعادة الجولان کاملاً مقابل التوصل الى اتفاقیة سلام.
فی رام الله جن جنون الرئیس الفلسطینی محمود عباس، فطار مباشرة الى واشنطن فی جولة وصفها بالاستطلاعیة. فهو أخبر العارفین بالأسالیب الأمریکیة والاسرائیلیة فی رمی الطعم. زیارة جیمی کارتر والوساطة الترکیة وإعلان حماس تعنی بالنسبة له شیئا واحداً: حان وقت استبدال القیادة الفلسطینیة، أو على الأقل: لماذا نفاوض عباس وحده، فهو فی الجیب! فی حین أن بإمکانک التحدث أیضا الى طرف آخر أکثر قوة وأبعد مدى إقلیمیا. وعاد عباس من جولته یائسا على ما یبدو!!
المثیر فی الأمر أن ثمة أطرافاً فی کل من واشنطن وتل أبیب تجعل اللعبة أکثر إثارة: مفاعل نووی سوری بتعاون کوری(ولیس إیرانی!!) واستطلاعات رأی تبین أن غالبیة الصهاینة یرفضون تقدیم الجولان ثمناً للتنازل. اللافت فی الأمر أن صور المفاعل النووی السوری تم الکشف عنها بعد أکثر من ثمانیة أشهر على ضربة جویة إسرائیلیة للموقع، وأن نتائج استطلاعات الرأی جاءت مخالفة عما تحدثت به استطلاعات رأی أخرى قریبة سابقة حول نفس النقطة.
ربما یبدو المشهد أن هناک توقاً لدى الرئیس بوش لمسح بعض أوساخه قبل مغادرة البیت الأبیض، وربما هو مستعد للتوصل الى بعض التسویات حول بعض الملفات فی المنطقة، مثل حصار غزة والمفاوضات السوریة – الإسرائیلیة، والملف اللبنانی (فقد تم الاعلان عن زیارة ینوی الرئیس السوری القیام بها الى کل من الریاض والقاهرة بصفته رئیس القمة العربیة وهو ما له معانیه بالنسبة للملف اللبنانی). لکن یبقى السؤال إذا کانت المدة المتبقیة أصلا کافیة لإحداث تغییر من هذا النوع، فضلاً عن السؤال حول النوایا الحقیقیة.
بالنسبة للفلسطینیین، یبدو أن هناک إصراراً عجیباً لدى القیادات الفلسطینیة على إعادة تجریب المجرب (وهی الترجمة الشعبیة لمقولة آینشتاین). ربما کان الأجدى بهذه القیادات (بشقیها الوطنی والاسلامی) إعادة قراءة المارکسیة البائدة، لأنها ستتوصل عندئذ الى مقولتین یخدمانها فی الصراع: مقولة الفارق بین الصراع الرئیس والصراع الأساس، ومقولة أن التاریخ یعید نفسه مرتین: مرة على شکل مأساة، والثانیة على شکل کومیدیا. لأنه یبدو ان کل السیرة النبویة المطهرة حول الوحدة وتحدید العدو وعدم الدخول فی صراعات جانبیة لها تأویلاتها المختلفة فی أذهان هاتیک القیادات.
( المقال لخالد أبو حیط کاتب وباحث فلسطینی من مرکز شرق المتوسط للدراسات والإعلام )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS