أیها الفلسطینیون : ماذا بقى لکم من وعود الدولة المستقلة ؟
الوعد الوحید الذی طبقه الغرب فی منطقتنا هو وعد بلفور بإنشاء وطن قومی للیهود فوق أرضنا العربیة فی فلسطین، ورغم أن بلفور هذا کان وزیر خارجیة بریطانیا العظمى فی حینه إلا أن الوعد تکرس واقعاً بالعون الکبیر والمساندة اللامحدودة من کل الدول الغربیة وعلى رأسها الولایات المتحدة الأمریکیة التی کانت أول من اعترف بالکیان الولید قسراً بعد بضع دقائق من إعلان ما سمی بالاستقلال. وخلال ستین عاماً قدم هذا الغرب وأمریکا للعدو الإسرائیلی کل أسباب البقاء والحمایة، بل وعمل على توفیر کل مستلزمات انتصاره على أمتنا العربیة مجتمعة، ولا یزال میزان القوة مع اسرائیل مائلاً لمصلحتها بسبب من هذا الدعم الذی تقدمه لها بغض النظر عن عطفها الإنسانی على بؤس الحیاة والصعوبات التی یواجهها الشعب الفلسطینی فوق أرضه وفی الشتات . ولأن موضوعنا هو وعد بوش الابن بإقامة دولة فلسطینیة تم تأجیل موعدها إلى نهایة هذا العام أی مع نهایة ولایته الثانیة فی البیت الأبیض فإننا سنعالج الوعد من منظور واقعی یتوخى المرء فیه تلمس أی مصداقیة أو حیادیة فی الموقف الأمریکی تجاه إقامة هذه الدولة المنشودة وأسباب بقائها حتى لا نتهم بالموقف المسبق أو العدمیة تجاه الوسیط القادر على ذلک .
بدایة نشیر إلى أن مسألة الدولة الفلسطینیة وقیامها یمثل العنوان الرئیسی لکل نضالات الشعب الفلسطینی وهو هدف یمثل ذروة الرد على النکبة واللجوء باعتبار أن قیام الدولة الفلسطینیة لابد أن یکون على کامل التراب الفلسطینی ولیس فی حدود غزة والضفة ، وأن هذه الدولة ستکون دیمقراطیة وعادلة وجزء من الأمة العربیة بحیث یعیش فیها العرب والیهود على قدم المساواة الأمر الذی یمثل حلاً عادلاً ومقبولاً للمسألة الیهودیة أقله فی منطقتنا .
إن أی قراءة للمیثاق الوطنی الفلسطینی الذی کان یسمى المیثاق القومی ستلحظ موقفاً حاسماً من وجود دولة یهود فوق أرضنا رفضاً وسعیاً لإزالتها بالقوة کشرط لقیام الدولة الفلسطینیة واستطراداً رفض قرار التقسیم رقم 181 الصادر عام 1948 باعتباره قراراً ظالماً یحرم الشعب الفلسطینی من حریته واستقلال أرضه ارتباطاً بنتائج الحرب العالمیة الأولى التی ساند فیها العرب الحلفاء للانتصار على دول المحور التی کانت تضم ترکیا مرکز الخلافة الإسلامیة
إن کل ما جرى فی تلک المرحلة وبقراءة مدققة بعد مرور کل هذه السنوات قد خدم بشکل مباشر وغیر مباشر تحقیق وعد بلفور المشؤوم وفی المقابل تبدید حقوق الشعب العربی فی فلسطین وعرقلة کل الجهود التی بذلت فی سبیل قیام دولة فلسطینیة غرب نهر الأردن .
وبعد قیام اسرائیل واکتمال احتلال الأرض الفلسطینیة عام 1967 وضم اسرائیل للقدس الشرقیة وإنشاء عشرات المستوطنات فی الضفة الغربیة بما یحول عملیاً دون قیام کیان قابل للحیاة فیها بدأ الحدیث مجدداً عن منح الفلسطینیین دولة فی حدود الأرض التی احتلت عام 67 وبنسبة منها تکبر وتصغر تبعاً لطبیعة الحکومة الإسرائیلیة الموجودة وبرنامجها الذی یستبدل فور تغییرها نتیجة الانتخابات التی تجری کل أربع سنوات وحتى السیاسیین الصهاینة وجدنا من یتحدث منهم عن ضرورة قیام دولة فلسطینیة خدمة لاستمرار المشروع الصهیونی فوق أرضنا .
إن وجود دولة منزوعة السلاح وبمواصفات تحددها اسرائیل والولایات المتحدة ستکون جسراً لتمدد المشروع الصهیونی فی المنطقة ناهیک أنها ستصبح ذریعة لاعتراف شامل وتطبیع مماثل مع کل المنطقة، وستحرم الشعب الفلسطینی من حقه التاریخی فی وطنه وکذلک حقه فی العودة للأرض التی هجر منها والقرى والمدن التی غادرها قسراً .
ولمنع قیام دولة فلسطینیة بمواصفات تماثل أی دولة ذات سیادة ولها جیش وطنی عملت الدول الغربیة والولایات المتحدة بکل قوة على محاصرة الفکرة ووضع العراقیل أمام إمکانیة تنفیذها عبر مجموعة من الإجراءات والخطوات بشکل مباشر ومن خلال حلفاءها فی المنطقة سواء عبر طرح مشروع آلون الشهیر فی سبعینیات القرن الماضی والمتعلق بالحکم الذاتی الکامل للفلسطینیین على بعض أراضی الضفة وغزة أو مشروع المملکة الأردنیة المتحدة بین الأردن وقسم من الضفة الغربیة وقطاع غزة الذی طرحه الملک حسین فی ذات الفترة الزمنیة .
لقد مهد الفلسطینیون لتقبل الفکرة المتعلقة بقیام دولتهم عبر طرح معتدل للغایة بعنوان البرنامج المرحلی والذی تضمن الاعتراف بدولة اسرائیل ضمناً والقبول بنسبة 22% من فلسطین التاریخیة، ومع ذلک جوبه طرح السلام الفلسطینی برفض قاطع من العدو مدعوماً بتفهم ورضى أمریکی غربی عن هذا الموقف ومساندته فی المحافل الدولیة .
إذن یبرز السؤال الحاضر : لماذا الآن وعود السید بوش حول قیام الدولة الموعودة ؟ ولماذا لم یتقدم هذا الوعد خطوة واحدة للأمام حتى اللحظة ؟ ولماذا لا یضغط رئیس الإدارة الأمریکیة على اسرائیل بهذا الخصوص رغم أنه قادر على ذلک ومتحرر من موضوعة الصوت الیهودی فی الانتخابات کما أنه الرئیس الذی قدم للدولة العبریة أکبر دعم فی تاریخها على کل الأصعدة ؟
تساؤلات ربما یقدم المرء غیرها الکثیر وهی منطقیة وترسم فی النتیجة قناعة بعدم جدیة هذه الإدارة وغیرها من الإدارات الأمریکیة سواء کانت جمهوریة أو دیمقراطیة للعمل على تحقیق إنشاء دولة فلسطینیة کاملة السیادة وبحدود عام 1967 والتی تشکل الحد الأدنى للمطالب الفلسطینیة والتی لا یستطیع أی قائد أو زعیم فلسطینی التنازل عنها .
إن قیام دولة کهذه من المنظور الإسرائیلی والغربی عموماً یعنی وضع لغم لیس فقط دیمغرافیاً بجانب الدولة العبریة بل نقیضاً حقیقیاً لبقائها مهما کانت صیغة الحل ومضمونه .
وبهذا الفهم وأکثر وجدنا السلوک المریب للوساطات الغربیة والأمریکیة خصوصاً لإحلال السلام بیننا وبین اسرائیل والرفض الدائم لتطبیق قرارات الشرعیة الدولیة سواء فی فلسطین أو باقی ما احتل من الأرض العربیة. إنهم یریدون کیاناً فلسطینیاً هزیلاً ومعتمداً بالکامل على المساعدات الخارجیة، وبصیغة أکثر وضوحاً یریدون بقاءنا لاجئین فوق أرضنا نستجدی العون لتتمکن دولة الاحتلال من البقاء والتطور فی ظل قبول عربی وتطبیع کامل وبعد هذا لکم یا فلسطینیون أن تسموا هذا الکیان دولة ولا بأس لو أسمیتموها فلسطین العظمى .
لقد نبهت أحداث الحادی عشر من سبتمبر /أیلول عام 2001 الإدارة الأمریکیة لمسألة غایة فی الحیویة لمصالحها فی المنطقة العربیة وخاصة ضمان تدفق النفط والهیمنة على الممرات وغیر ذلک من مصالح سیاسیة واقتصادیة ولوجستیة، هذه المسألة ترتبط مباشرة بالصراع العربی الصهیونی وتتطلب تبرید هذا الملف وطیه إلى أمد غیر منظور وفی سیاق نظرة أمریکیة معتمدة على دراسات وأبحاث معمقة حول دور اسرائیل وأهمیتها للمصالح الأمریکیة ارتباطاً بعلاقاتها العربیة ودورها الرئیس على الصعید الدولی وأحلام الإمبراطوریة المعششة فی عقول المحافظین الجدد، فقد وجدت الإدارة أن ضمان هذه المصالح والقدرة على تسویق سیاساتها یتطلب طرحاً مقبولاً من دول المنطقة حتى لو کان ذلک من الزاویة النظریة وهکذا کان . جمیعنا یذکر أن قرارات الشرعیة الدولیة تتضمن حق تقریر المصیر للشعب الفلسطینی وهو یحتوی ضمناً حق الفلسطینیین فی إقامة دولة مستقلة ذات سیادة. کما أن هذه القرارات تتضمن حق العودة وتدعو اسرائیل للانسحاب من کل الأرض المحتلة عام 67 ، ولذلک فان وعود الإدارة الأمریکیة وبوش على وجه الخصوص قصدت إبعاد العالم عن الحل للمشکلة الفلسطینیة عبر الشرعیة الدولیة لضمان عدم قیام دولة فلسطینیة بمواصفات تطرقنا لها آنفاً، وتقدیم نموذج آخر یمنح العدو کل الضمانات للبقاء والسیطرة. انه لمن الغریب حقاً أن یکون وعد بوش بقیام دولة هو ذاته الذی یستخدم الآن لعرقلة قیام مثل هذه الدولة، ولو کان بوش صادقاً فی وعده لقام بالضغط على اسرائیل للانسحاب من الأرض الفلسطینیة المحتلة ووقف الاستیطان وفی یده شرعیة قرارات الأمم المتحدة التی استخدمها ویستخدمها لحصار الخصوم وتمریر المشاریع المعادیة لحقوقنا وتطلعاتنا المشروعة کأمة . لاشک أن التعنت الإسرائیلی منذ قیام الدولة العبریة وهی بالمناسبة غیر قانونیة ، هذا التعنت کان دوماً یعتمد على غطاء أمریکی ورعایة غربیة لا تقیم وزناً لنا بحکم اختلال موازین القوى، والأمر ما زال على هذه الشاکلة. إن دعاوی السلام الأمریکیة خادعة وغیر حقیقیة بالمطلق ذلک أن طریق السلام لا تحتاج لوعود کالذی أطلقه بوش للخروج من مأزق السمعة القذرة لإدارته المحافظة وخصوصاً بعد العدوان الهمجی على العراق واحتلاله بدعاوى ثبت کذبها وزیفها.
وباختصار فان استمرار المصالح الأمریکیة وضمان سیطرتها على المنطقة یتطلب وعداً کالذی أطلقه السید بوش ضمن مجموعة من الإعلانات والخطوات الهادفة لخداعنا من جدید وهو أی الوعد لم یکن أبداً صادقاً أو جدیاً حتى فی ظروف أفضل مما نعیش فی المنطقة .
إن انقسام الفلسطینیین والعرب والقلاقل وبؤر التوتر المتنقلة فی ربوع وطننا لا توحی بأی أمل فی تحقیق أی وعد سواء من بوش أو من غیره، والصحیح أن یعکف الفلسطینیون على تسویة واقعهم وتدعیم قدرتهم على الصمود والمقاومة إن أرادوا الحصول على بعض حقوقهم، وعلیهم أن یدرکوا أن وعود الإدارات الأمریکیة لن تقدم لهم أی دولة ذات سیادة، وأن هذه الوعود وغیرها ستتلاشى بمجرد تغیر الإدارة فی واشنطن وتل أبیب، لیبدأ فصل جدید من الخداع والمراوحة .
الدولة الحلم یصنعها میزان قوى واستراتیجیة غیر متوفرة حتى الآن ولذلک یجب أن ینصب الجهد فی هذا وعلى المعتدلین العرب التوقف عن تسویق الأکاذیب الأمریکیة بمن فیهم سلطتنا الوطنیة .
( للصحفی و الکاتب زیاد ابوشاویش )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS