السبت 12 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

لحظة لالتقاط الأنفاس

لحظة لالتقاط الأنفاس

 

 إذا کان الترحیب باتفاق التهدئة واجباً، فإن إدراک ملابساته وخلفیاته أوجب، على الأقل لکی نعطیه حجمه ولا نحمله بأکثر مما یحتمل

ما حدث یشکل تحولاً جذریاً (دراماتیکیاً) فی الموقف “الإسرائیلی”. هکذا ذکر تقریر مجلة “تایم” الأمریکیة فی عددها الأخیر، الذى أضاف أن حکومة أولمرت ظلت ترفض أی تفاوض مع حماس باعتبارها منظمة “إرهابیة”. ولکن رئیس الوزراء “الإسرائیلی” الذی تقترب شعبیته من الصفر اختار أخیراً أن یدخل فی حوار غیر مباشر معها، لأن الخیار الآخر المتاح أمامه هو القیام بعملیة عسکریة کبرى فی قطاع غزة لإسکات صواریخها، وهو ما قد یکبد القوات “الإسرائیلیة” خسائر بشریة فادحة، فضلاً عن أنها قد تفشل فی تحقیق هدفها.

هذا التقییم صحیح إلى حد کبیر، ذلک أن هذه هی المرة الأولى فی تاریخ الصراع العربی - “الإسرائیلی”، التی توافق فیها حکومة الدولة العبریة على تهدئة متبادلة مع الفلسطینیین. صحیح أن ثمة جولات من “التهدئة” تمت من قبل، کانت آخرها فی سنة 2005 بعد انتخاب أبو مازن رئیساً للسلطة الوطنیة وقد امتدت لعشرة أشهر، ولکن تلک التهدئة کانت من الجانب الفلسطینی وحده، ولم تکن متبادلة. ومن المفارقات فی هذا الصدد أن “إسرائیل” التی ساندت أبو مازن واعتبرته رجلاً “معتدلاً” وفتحت أبوابها للتفاوض المباشر معه طول الوقت، لم تقدم له شیئاً یذکر فی مفاوضاتها معه، فلم تطلق سراح أسیر واحد، ولم ترفع حاجزاً واحداً من الضفة، بل وضاعفت من تمدد المستوطنات فیها، کما أنها واصلت من عدوانها على الفلسطینیین هناک، حتى أنها قتلت ستة من أبناء الضفة قبل ساعات قلیلة من سریان التهدئة فی قطاع غزة. وفی حین کان ذلک موقفها من السلطة فی رام الله بکل رصیدها فی “الاعتدال”، إلا أن موقفها من سلطة حماس فی غزة کان مختلفاً، حیث قبلت بالتهدئة المتبادلة معها، ووافقت على رفع الحصار الاقتصادی بصورة تدریجیة عن القطاع.

کان لافتاً للانتباه أن قرار التهدئة وافقت علیه الأجهزة الأمنیة “الإسرائیلیة” وقیادة الجیش والمجلس الوزاری المصغر. کما بیّن أحدث استطلاع أن 68% من “الإسرائیلیین” یؤیدونه، رغم أن معارضیه ذکروا أنه استسلام لحماس یعبر عن تآکل الردع “الإسرائیلی”. ویمثل إضعافاً لأبو مازن، وإحراجاً للمعتدلین العرب، وخیانة للإدارة الأمریکیة القائمة على عدم التوافق مع الإرهاب.

لماذا أقدمت “إسرائیل” على تلک الخطوة غیر المسبوقة؟

هناک أکثر من إجابة عن السؤال، منها أن الحصار الذی استمر عاماً فشل فی أن یحقق أهدافه، فلا هو دفع الناس للثورة ضد السلطة فی القطاع، ولا هو أوقف إطلاق الصواریخ منه. منها أیضاً أن استمرار الحصار بدا محرجاً ل”إسرائیل” وأصدقائها، حیث بدأت بعض الدول تتململ منه باعتباره یمثل جریمة حرب وانتهاکاً لمواثیق حقوق الإنسان، الأمر الذی دفع تلک الدول إلى تجاوزه ومحاولة الاتصال مع حماس، (فرنسا مثلاً). منها کذلک أن أولمرت یرید أن یهدئ الأجواء من حوله لکی یتفرغ لمواجهة المشکلات الداخلیة التی تمسک بخناقه. منها أیضاً أن التهدئة تتیح ل”الإسرائیلیین” التفرغ للتعامل مع الملف النووی الإیرانی الذی یسبب إزعاجاً کبیراً لها.

رغم تعدد الأسباب إلا أننی أزعم أن السبب الأول یکمن فی الفشل “الإسرائیلی” فی إسکات الصواریخ التی بدأت فصائل المقاومة الفلسطینیة فی إطلاقها من غزة منذ شهر یونیو/حزیران عام ،2001 وکان تصنیع ذلک السلاح فی ظل الإمکانات المتواضعة المتوفرة للفصائل من إبداعات المقاومة الفلسطینیة المدهشة. ذلک أن التفوق “الإسرائیلی” الکاسح فی السلاح والتضییق الشدید الذی أدى إلى منع دخول أیة عناصر یمکن أن تدخل فی تصنیع الصواریخ، بما فی ذلک منع مواد التنظیف وحظر مادة الیوریا التی تستخدم فی الزراعة. ثم القصف والتدمیر المستمرین لکل ورش الحدادة، ذلک کله لم یحل من دون نجاح الفصائل فی تصنیع الصواریخ وإطلاقها، حتى یذکر تقریر حول الموضوع أعده مرکز الزیتونة للدراسات فی بیروت (صادر فی أبریل/نیسان 2008) أن خبراء “کتائب القسام” لجأوا إلى “روث البهائم” لاستخراج بعض الغازات والمواد الکیماویة التی استخدمت فی تصنیع المتفجرات.

وأشار التقریر إلى دراسة صدرت فی 4/3/2008 عن مرکز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب أن الفصائل الفلسطینیة أطلقت على البلدات “الإسرائیلیة” 2809 صواریخ، فی الفترة من 26/10/2001 إلى بدایة شهر فبرایر/شباط 2008.

صحیح أنه لا وجه للمقارنة بین أعداد الضحایا “الإسرائیلیین” الذین أصیبوا جراء تلک الصواریخ وبین نظرائهم الفلسطینیین، إلا أن هناک ملاحظتین فی هذا الصدد، الأولى أن “إسرائیل” تواصل قتلها المنظم للفلسطینیین دونما أیة علاقة لذلک بالصواریخ، فقد أظهرت إحصائیة للجهاز المرکزی للإحصاء الفلسطینی أن عدد الشهداء الذین سقطوا خلال انتفاضة الأقصى التی اندلعت فی 28/9/2000 (قبل وجود الصواریخ) قد وصل فی 29/2/2008 إلى 5227 شهیداً. وأشارت الإحصائیة إلى أن شهداء غزة کان عددهم ،3107 أما الضفة التی لا تطلق منها أیة صواریخ فقد قدمت 2120 شهیداً.

الملاحظة الثانیة، أن المصادر الطبیة “الإسرائیلیة” تحدثت عن مقتل 14 مستوطناً بسبب الصواریخ، بینهم 11 شخصاً فی مدینة سدیروت وحدها.

وتحدثت دراسة مرکز معلومات الاستخبارات والإرهاب أن 1600 “إسرائیلی” أصیبوا بالهلع بسبب الصواریخ فی الفترة منذ منتصف 2006 وحتى 30/11/،2006 وطلب رئیس لجنة أولیاء الأمور فی سدیروت شوشان ساره فی حدیث مع موقع “معاریف” الإلکترونی ترحیل سکان سدیروت على غرار مستوطنی غزة. وقالت إذاعة الجیش “الإسرائیلی” إن سکان المدینة أرسلوا أبناءهم للدراسة فی نیویورک بسبب تواصل قصفها بالصواریخ على سدیروت. وذکر التلفزیون “الإسرائیلی” أن مرکز الطوارئ التابع لمدینة عسقلان استقبل خلال لیلة واحدة (لیلة 29/2/2008) أربعة آلاف مکالمة هاتفیة فی أقل من ساعة من مستوطنین أصابتهم الصواریخ بالرعب.

وقال رئیس اتحاد مقاولی الترمیم “الإسرائیلی” إنه خلال النصف الأول من عام 2007 تسببت الصواریخ الفلسطینیة فی إحداث تلفیات فی سدیروت تکلف إصلاحها 20 ملیون دولار. فی الوقت ذاته تکلف تحصین المنازل والنقاط الاستراتیجیة ضد الضربات الصاروخیة نحو 85 ملیون دولار. وفی استطلاع للرأی أجراه فی عام 2007 معهد “داحاف” بین سکان المدینة قال 86% من الجمهور إن الحکومة فشلت فی حمایتهم وذکر 64% أنهم سیغادرونها فی أول فرصة. وذکر الموقع الإلکترونی لصحیفة “یدیعوت أحرونوت” فی 20/5/2007 أن ما بین 6 و8 آلاف من بین سکان المدینة البالغ عددهم 23 ألف شخص غادروا المدینة لتدهور الأحوال الأمنیة فیها.

المباحثات التی أدارتها القاهرة کانت شاقة ومعقدة، ففی البدایة طلب الإسرائیلیون تعهداً من جانب حماس بوقف التدریب ومنع التهریب والتوقف عن تطویر صواریخها. (فی عام 2001 کان مدى الصاروخ “قسام واحد” 3 کلیومترات، وفی عام 2006 أصبح مدى الصاروخ “قسام 3” حوالی 12 کلم ونجح فی الوصول إلى عسقلان، وذکر تقریر الزیتونة أن مدى الصاروخ “قسام 4” یتراوح بین 18 و20 کلم، وللعلم فإن بقیة الفصائل نجحت فی تصنیع صواریخها، فحرکة الجهاد صنعت صاروخ “قدس” ولجان المقاومة الشعبیة صنعت صاروخ “ناصر” وحرکة فتح صنعت صاروخ “أقصى” والجبهة الشعبیة لها صاروخ “صمود”).

فی البدایة أیضاً لم تلتزم “إسرائیل” بفتح المعابر، وعلقت ذلک على تقدیرها لمدى التزام حماس بالتهدئة، کما أنها طلبت إطلاق سراح الجندی الأسیر جلعاد شالیط. هذا العرض رفضه ممثلو حماس، وقالوا إنهم ملتزمون فقط بوقف إطلاق الصواریخ طالما أوقفت “إسرائیل” عدوانها على القطاع والضفة. وذکروا أن “إسرائیل” کانت تحتل غزة وعجزت عن وقف التهریب، فلماذا تطالب به حماس الآن. وتحدثوا عن ضرورة فتح المعابر ضمن برنامج متفق علیه. وقالوا إن موضوع شالیط خارج السیاق، لأنهم طلبوا إطلاق سراح 375 أسیراً فلسطینیاً فی مقابل الإفراج عنه، وقد وافقت “إسرائیل” على 71 شخصاً فقط.

بعد أخذ ورد وافقت “إسرائیل” على ردود حماس باستثناء أمرین، أولهما قصر التهدئة على غزة من دون الضفة فی الوقت الراهن، على أن تشمل الضفة بعد ستة أشهر، وثانیهما تأجیل فتح معبر رفح الذی هو المنفذ الوحید لعبور الأشخاص، فی حین أن المعابر الأخرى مخصصة للبضائع. کما وافقت على تأجیل بحث موضوع شالیط حتى یتم الاتفاق على قائمة الفلسطینیین المفرج عنهم.

حینما وجد مفاوضو حماس أن الرد “الإسرائیلی” یفک الحصار تدریجیاً ویوقف العدوان، فإنهم طلبوا عرض نتائج المفاوضات على ممثلی فصائل المقاومة الأخرى، لإجراء حوار وطنی حوله، وتوافق الجمیع على الالتزام به بمن فی ذلک الذین رفضوه (الجبهة الشعبیة) والذین تحفظوا علیه (الجهاد الإسلامی).

لا أحد من المفاوضین الفلسطینیین یثق فی التعهد “الإسرائیلی”. لیس فقط لأنها دأبت على نقض عهودها مستندة إلى الخلل فی موازین القوة لصالحها، ولکن أیضا لأن عمر هذه الاتفاقیة - فی أحسن فروضه - لن یتجاوز عمر حکومة أولمرت الآیلة للسقوط. وقد سمعت من بعض المفاوضین قولهم إن التهدئة لیست أکثر من لحظة لالتقاط الأنفاس، وتحسین شروط العیش داخل السجن “الإسرائیلی”.

المفارقة أن التهدئة بین فلسطینی غزة وبین “الإسرائیلیین” إذا کانت قد حققت شیئاً بالمعیار النسبی، فإن التهدئة بین غزة ورام الله لا تزال متعثرة. ذلک أنه بعدما تفاءل البعض بحدیث أبو مازن المفاجئ فی 7/6 عن الحوار مع حماس، سواء لأن أمله خاب فی الوعود الأمریکیة و”الإسرائیلیة”، أو لأنه أراد أن یوحد الصف الفلسطینی قدر الإمکان مع قرب انتهاء ولایته (فی 5 ینایر/کانون الثانی المقبل) والتمهید لانتخابات جدیدة، فإن هذا التفاؤل بدأ یتراجع بشکل تدریجی خلال الأیام الماضیة. ومما کانت له دلالته فی هذا الصدد أن أبو مازن کلف وفداً من قیادات فتح بزیارة غزة والتعرف إلى الأوضاع فیها، ورغم أن ذلک لم یتم بالتنسیق مع قیادات فتح بالقطاع، إلا أن الأمر تمت تسویته وجرى الترحیب بالوفد على مستویات عدة. وتحدد موعد لاجتماعه مع إسماعیل هنیة رئیس الحکومة المقالة، لکن أبو مازن أجرى اتصالاً مع وفده قبل نصف ساعة من الموعد، وطلب إلغاء المقابلة، الأمر الذی اضطر الوفد لمغادرة القطاع یوم السبت الماضی 21/،6 من دون أن یحقق شیئاً یذکر فی مهمته، مما یعنی أن دعوة الحوار الفلسطینی الفلسطینی لم تنضج بعد. وربما احتاجت إلى طرف عربی ثالث یدفعها إلى الأمام. وذلک یعنی أیضاً أن ما حدث فی الساحة الفلسطینیة هو بدوره مجرد “تهدئة” ولیس حواراً.

( للکاتب  فهمی هویدی )

م/ن/25

 


| رمز الموضوع: 141036







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. أسير إسرائيلي: إذا أردتم أن تعرفوا عدد الأسرى إسألوا سارة نتنياهو
  2. إصابة 9 جنود إسرائيليين بينهم نائب قائد فرقة وقائد كتيبة في الشجاعية بغزة
  3. في إطار جمعات الغضب.. مدن إيرانية تنظم وقفات تضامنية مع غزة
  4. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  5. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  6. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  7. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  8. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  9. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  10. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  11. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  12. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)